للحرية رائحة طيبة، ينثرها هذا الكتاب بكرم.. ولها أيضا حكايات، فكان العنوان: «حكايات الحرية». ولا تتعجل الحكم، فهو ليس من الكتب التى رخت فوق رءوسنا بعد ثورة يناير، والتى يشبه أغلبها أفلام حرب أكتوبر، لا مذاق فنى، أو أهمية نظرية، ولا يحزنون. هو عبارة عن كبسولة تعريفية مهمة، صاغها الأديب والكاتب الصحفى محمود الوردانى، فى تناول رفيع لعدد من قضايا الرأى والتعبير التى مرت بمصر أوائل القرن الماضى إلى اليوم. ربما يستفسر أحدهم عن الجديد الذى يقدمه، فهى وقائع معروفة وموثقة، صحيح، لكن المشكلة أن العواصف الفكرية التى أثارتها هذه القضايا، لازالت بالنسبة لكثيرين، وخاصة الأجيال الجديدة، نخبة وعامة، مجرد عناوين لا يعرفون أجواءها ونتائجها السلبية والإيجابية أو المناخات التى أفرزتها. وتجد الواحد منهم يدلل بهذه المسائل فى مناقشاته مع الأصدقاء، دون دراية حقيقية، رغم أن أبطال الحكايات نجوم بحجم الشيخ على عبدالرازق، طه حسين، نجيب محفوظ، محمد عبده، قاسم أمين، نصر حامد أبوزيد، أحمد عبدالله، وغيرها من الأسماء التى تستحق، أن يعرف الشباب حجم ما قدموه، لذا كان مهما جمعها فى كتاب. عندما صدرت الطبعة الأولى عام 2002، لتضم أربعة فصول فقط، أهداها الوردانى إلى ابنتيه وولده: «لينا وسلمى وأسامة، حتى يعرفوا أن الأسلاف دفعوا الثمن كاملا وجاء دورهم حتى يدفعوا الثمن أيضا». وبعد صدور طبعته الثانية مؤخرا، منقحة ومزيدة، عن هيئة قصور الثقافة، نسى الكاتب وضع الإهداء، وكأنه القدر المدرك أن الأولاد بدءوا بالفعل فى دفع ما عليهم. لم يهتم الكاتب كثيرا بالأصول الأكاديمية للقضايا، وكان همَه الأساسى هو «الحكاية والتفاصيل ذات الطابع، لنقل الروائى»، فجاءت الكتابة شيقة مشجعة على القراءة والمعرفة، بعضها عاصرها المؤلف وكان شاهد عيان عليها مثل معركة نصر حامد أبو زيد، والمظاهرة التى قادها يوسف إدريس فى وقت كان التظاهر فيه جنون، وبعضها لم يعاصره مثل أزمة كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعالم الأزهر المحترم على عبدالرازق. فى تفاصيل هذه القضايا تنكشف بعض الحقائق، مثلا موقف د.محمد عمارة الذى تغير فى تناوله لكتاب «الإسلام وأصول الحكم» من نقيض إلى آخر، فبعد تصنفيه للكتاب تصنيفا إيجابيا يليق به أوائل السبعينيات، عاد منتصف التسعينيات ليقول فى عدد من المقالات إن «كتاب عبدالرازق يخدم أهداف الاستعمار الغربى»!. المدهش ليس موقف عمارة الذى تغير ،فهذا حقه، لكن المزعج هو «إخفاء الحقائق»، ويحيلنا الوردانى إلى رأى المفكر الكبير د.نصر حامد أبوزيد فى هذه المسألة، وهو أن «عمارة عمد إلى تلويث الكتاب وصاحبه، وزرعه فى سياق الصراع العلمانى الإسلامى»، لدرجة أنه، حاول توصيل معلومات خاطئة مضحكة عن طريق اللجوء إلى آراء خصوم عبدالرازق، مثل أن المؤلف الأصلى للكتاب هو طه حسين، وأنه وضع عليه اسم على عبدالرازق ليجلب له الشهرة!. وعلى ذكر طه حسين، يتعرض الوردانى فى «حكايات الحرية»، لمعركة التنوير بالغة الأهمية، التى دخلها العميد بتأليفه كتاب «الشعر الجاهلى»، عندما تقدم أحد طلاب القسم العالى بالأزهر ببلاغ للنائب العام واتهام حسين بتأليف كتاب فيه «طعن صريح فى القرآن حيث نسب الخرافة لهذا الكتاب السماوى الكريم»، وبعد أن قدم الوردانى عرضا مكثفا لحياة طه حسين والمناخ الذى صدر فيه كتابه الجدلى، راح يعرفنا على أحد أبطال القضية الأساسيين وهو محمد نور رئيس نيابة مصر وقتها، وكيف كان قراره «درسا بليغا من دروس استقلال القضاء، ومن ثم قدرته على تحقيق العدل»، وكيف جاءت حيثيات التحقيق كاشفة عن «علم واتساع أفق وثقافة محمد نور الذى لم يكن مجرد محقق، بل مفكر وباحث عن الحقيقة، يناقش الاتهامات مناقشة عقلانية هادئة تليق بمفكر يعيش عصره». هناك أيضا حكايات سوف تدهش البعض، كان الوردانى شاهد عيان عليها، مثل معركة المفكر المحترم نصر حامد أبو زيد، وليس المقصود بها معركته فى مصر والتى انتهت بحكم القضاء تفريقا بينه وبين زوجته وارتداده عن الإسلام، لكنها قصة أخرى حدثت فى ندوة «الأدب وحرية وسائل الإعلام وحقوق الإنسان فى المجتمعات الإسلامية»، التى أقيمت بألمانيا 1996، تلازم فيها الكاتب والمفكر، الوردانى وأبوزيد، أياما ثلاثة استغرقتها الندوة، فهم خلالها الأول: «معنى أن تكون مطاردا منفيا من وطنك بسبب دفاعك عن حرية هذا الوطن». ويحكى الوردانى كيف أن نصر لم يحتمل كلمة الكاتبة البنغالية تسليمة نسرين، والتى انتهت إلى أنه إذا كان الغرب يفرق بين الإسلام كدين والأصوليين، فإنها تعتبرهما شيئا واحدا، وفيما سكت جميع الموجودين بمن فيهم المصريون المنتمون للإخوان المسلمين بأوروبا، طلب نصر الكلمة، وهاجم الكاتبة البنغالية بضراوة: «لا يستطيع أحد أن يتهمنى بأننى ضد حريتك لأننى شخصيا مضطهد بسبب حرية الرأى، وأنا الوحيد القادر على قول إن كل ما ذكرته خطأ، لقد تعاملت مع نص حقوق الإنسان باعتباره أكثر قداسة من القرآن...» وأعطى لها درسا محترما فى الحضارة التى أنتجها الإسلام والتى استمرت مزدهرة لقرون. وبالمناسبة، هذه السطور التى تثبت إن «نصر المنفى رفض بيع البضاعة الفاسدة للغرب»، يكتبها الوردانى «من أجل روح نصر الذى تحمل الكثير كما يليق بفلاح مصرى دافع عن القيم التى يؤمن بها»، ولا يطالب من كانوا يزفون خبر هلاكه فرحين على المواقع السلفية بقراءتها. ومن النضال فى سبيل حرية الرأى والفكر، إلى النضال السياسى، والحركة الطلابية، وفتى نحيل اسمه أحمد عبدالله، كان وقودا لطلاب الجامعة، وأمينا للجنة الوطنية العليا للطلاب، والتى «أعادت للأذهان ذكرى انتفاضة 1946»، حيث كانت انتفاضة مشابهة فى 1972 قد اندلعت بسبب خطاب السادات الشهير، الذى تراجع فيه عن وعده بتحرير سيناء، ضرب فيها أحمد عبدالله مثلا فى القيادة الشابة للمعتصمين، ويشهد الوردانى أن: «أحمد عبدالله على وجه الخصوص كان قائدا مختلفة وقادرا على استشعار النبض الحقيقى». ورغم الفرص التى أتيحت له للعمل أستاذا فى جامعات أوروبا إلا أنه فضل فى سنواته الأخيرة أن يقتصر عمله «على مركز الجيل الذى أسسه فى الحى الشعبى الذى ولد وعاش به، عين الصيرة». تذكره الوردانى وهو جالس فى سرادق عزاءه منذ سنوات قليلة، وهاله عدد الواقفين ممن يأخذون العزاء، كما هاله عدد المعزين الذى ضم فنانين وقضاة ووزراء سابقين فى حكومات قمعية!. وتوج الكاتب إصداره الأحدث، بفصل أخير، فبعدما انتهى من إعداد الكتاب بشهرين، شهد: «جدارية جديدة للحرية، رسمها الشعب المصرى فى 25 يناير 20011، وعكفت على الكتابة عنها صباح الاثنين 7 فبراير». أسماء أخرى عديدة، تعرض لها صاحب «الحفل الصباحى»، يستحق كل منها التوقف عنده والاحتفاء به، إلا أنها كالمعتاد، ظروف المساحة، ولكن عزاءنا أن هناك كتابا حُلوا رخيص الثمن غالى القيمة يقوم بهذه المهمة كما يليق، كتاب اسمه: «حكايات الحرية».