تتعالي أصوات إخوتي بالتهاني الممزوجة بفرحة حقيقية وقبلات دافئة. أدرك أن شفائي ما هو إلا هدية تضاف إلي رصيد من هدايا حصلت عليها من قبل. داعبت ابنة أخي وكأنني سأسحب العلبة التي أمامي لمنعها من أن تمد يدها لأخذ قطعة إضافية, كنت استمتع بنظرتها الشقية الملحة تماما كما أستمتع بمذاق مشروب القرفة باللبن الذي صنعته لنا أمي. ردت علي مداعبتي بأجمل رنين لضحكة طفولية وهي تركض مبتعدة قابضة علي قطعة السمسمية التي اقتنصتها لتلتهمها أثناء اللعب. من يستطيع أن يصدق أنني تعافيت؟ أستعيد ما كنت فيه منذ أربعة أيام وتلمع في عيني دمعة فرح وامتنان, وقتها لم يكن باستطاعتي لمس مخلوق أو قبول الجلوس في احتفاليتنا هذه. تجمعنا أمي سنويا لإحياء مولد الرسول, تصر علي أن يكون اجتماعنا هذا تطعيما سنويا ضد نسيان الماضي وإلهاء الدنيا لنا. تفتح لنا حضنها في البيت الكبير, لا تنس كل عام أن تقسم علي أخي الأكبر ألا يقطع العادة بعد رحيلها لا حرمنا الله منها مازلت أفرح نفس فرحتي الطفولية بهذا الطقس الذي مازال يحمل ألف معني علي الرغم من أنه صادر في أضيق الحدود. أشهد بأنها قد بذلت مع إخوتي أقصي ما في طاقتهم خلال فترة مرضي. ستة أشهر كاملة من العذاب, ما بين خمود جلدي واشتعاله وجنوني بحكه. لم تكن تلك الشهور إلا تجربة قاسية أظهرت كم هي جميلة تلك العائلة, أعرف حجم ما بذلوه من جهد وحيطة حتي يأمنوا العدوي وفي نفس الوقت لا يشعرونني بخوفهم علي أنفسهم. انعزلت في الشقة العلوية, كي وغلي لكل قطع الملابس والمفروشات, ابتلاء حقيقي, كان اختياري فيه الصبر رغم شدة آلامي النفسية أكثر ما كان يرعبني هو اقتراب موعد قدوم خطيبي من السفر لإتمام الزفاف, بينما المرض يعاند كلا من الدواء وإرادتي القوية في الشفاء. يوم سمعت ببشارة ربيع الأول قفزت الأمنية إلي قلبي مشفوعة بأحلي الذكريات, عاد إلي أذني جمال صوت ذلك المنشد في السرادق الضخم: ياللي هديتنا النبي يهدينا ياربي, كرامة لأجل النبي ما ترد لي طلبي. كانت أمي تسمي تلك الليلة بليلة فرح الفقراء, بينما كانت أظنها بيني وبين نفسي ليلة العيد. العيد فقط هو ما نمنح فيه النقود بغير حساب ونحصل علي الهدايا من ملابس جديدة ولعب مميزة. كنت بالفعل في تلك الليلة أحصل علي هدية, عروس جميلة, بينما يحصل كل من إخوتي علي فارس علي ظهر حصان بسيف مشهر, كلها مثل عروستي طعمها سكر, كنت اسميها أيضا.. ليلة عيد السكر. قدومها كان يعني الفرح, يكتظ البيت بالأهل وبأصدقائي من أطفال العائلة والجيران. تنشغل السيدات بطهو اللحم والأرز وعمل صواني الفتة أو تعبئة الأرغفة بهما. كنت مجرد طفلة تنغمر في سعادة اللهو البريء.. أنتظر بسعادة زفة ما بين العصر والمغرب, أندس بين حشد نساء العائلة والجارات اللاتي يملأن شرفات بيت جدي الكبير, أقف علي أطراف أصابعي لأرقب بداية الموكب الاحتفالي ببيارقه الخضراء وراياته المزينة بآيات القرآن الكريم والصلاة علي النبي. كل سعادتي كانت في تلك الميزات التي أحصل عليها, نمارس أنا وصديقاتي كل ألعاب الركض خلف سرادق الإنشاد, أتنقل من بائع الترمس إلي بائع الحلوي والحمص ومن أرجوحة إلي أخري, أتلذذ برائحة أكواب مشروب القرفة الساخن التي يحملها شباب العائلة علي الصواني إلي ضيوف السرادق. أشعر ببهجة وجمال الحرية وينسي أهلي صرامة منع السهر. عندما يستبد بي التعب تبتسم لي عروس السكر من فوق المنضدة المجاورة لفراشي, بينما أقاوم النعاس أغمض عيني وقد أسكنتهما صورتها بوجنتيها الورديتين وأجنحتها المروحية فوق ثوبها المنقوش وشرائطها الذهبية. أكبر ويتغير شكل الأشياء, يتبدل الشارع الترابي بآخر مرصوف مزدحم بوسائل المواصلات, تتحول قريتنا إلي مدينة تخنق العمارات الشاهقة هواءها يصبح السرادق ممنوعا لتعطيله لحركة المرور فيتسع بيت جدي لفرح الفقراء. أودع طفولتي وأيام عروستي بوجع في قلبي لموت جدي, تحتفظ أمي بشيء من طقس جدي الاحتفالي في حدود ما تسمح به صحتها, بينما أفهم أنا حقيقة الليلة, يصبح لاحتفالي بالمولد مذاق المعرفة ومشاعر امتزاج الحب بالشوق إلي صحبة الحبيب المصطفي ذات يوم. أهدي له ما أنا متأكدة من أنه أقل القليل.. أصوم.. أتصدق.. أصلي عليه وعلي آله وأسلم تسليما. لم أعد أنتظر الهدايا فقد كان يقيني أن مولده هو أعظم وأحب هدايا الكون, أحيانا كانت بعض الأشياء الجميلة تحدث لي في أيام المولد تحديدا, خطيب طيب محب طالما تمنيت الارتباط به, سفر له سيقصر فترة الانتظام لاتمام الزواج. هذا العام, استعدت الكثير من الذكريات وأحسست كم كانت مدهشة كل تلك الهبات. وربما ربطت بينها وبين عروسة المولد, طمعت من قلبي في هبة جديدة تحمل إلي روحي مشاعر الفرحة القديمة. تمنيت حلما ورديا أغلق عليه عيني دون أن تمزق أظافري جلدي المريض. قبل أسبوع من المولد بذلت محاولة أخيرة متشبثة بالأمل.. اخترت طبيبا جديدا هو رابع المنضمين إلي قائمة من قاموا بعلاجي. لم أحرص إلا علي الألقاب العلمية المقرونة باسمه كما فعلت عند اختيار سابقيه. استمعت بذهول إلي صراخه في وجهي بعد الكشف: - ستة أشهر من الغلي والكي والوساوس والعلاج من مرض يشفي منه المريض في أسبوع واحد! كان يمكن أن تصابي بالجنون يا ابنتي الرعب المرتبط باسم هذا المرض غير حقيقي, فالمريض يمكن أن يشفي منه بكل سهولة. كل ما تعانين منه الآن ليس أكثر من عرض جانبي للأدوية التي استعملتها. أن الآن سليمة تماما ولن أكتب لك إلا ما يزيل الحساسية التي سببها الدواء لجلدك. فقط أريد أنت أعرف أي نوع من الأطباء كنت تذهبين إليه؟!. هكذا ببساطة شفيت.. حاولت أن أشكر فاكتشفت عجز لساني.. كانت دموعي الصامتة أبلغ من كل ما قد ينطق به. مابين إحساسي بالفرحة والامتنان, اكتشفت أني أحمل في قلبي سعادة تفوق سعادة تلك الطفلة التي كنتها وأنا أتنقل من أرجوحة إلي أخري متلذذة بمذاق الحلوي التي بين أصابعي. حملت مع الآخرين صواني الفتة باللحم إلي بيوت فقراء شارعنا كان ذلك ما أبقته أمي من طقس جدي صافحت الآخرين وقبلت الصغار دون خوف عليهم أكثر ما حرصت عليه في تلك الليلة كان شراء عروس هدية لابنة أخي الصغيرة.. عروس بطعم السكر, ذات وجنتين ورديتين وأجنحة مروحية بكل ألوان البهجة.