اللحظات التي خرجت فيه الروح من جسد الأم العجوز المسنة داخل احدي عشش قرية السبيل كانت الباب الذي خرجت منه الطفلة ذات السبع سنوات من حياة اعتادتها بأم وأشقاء الي حياة الضياع والبؤس فما أن توفيت الأم حتي صدمت هبة بكلمات الشقيق الأكبر انت لست أختنا. وقد ماتت أمك.. هكذا تتذكر هبة.. تلك اللحظات الفارقة في حياتها وفيما تترقرق الدموع من عينيها وهي تجلس أمامي فتاة مكتملة في بدايات العقد الثالث من عمرها وعلي الرغم من النقاب الذي يتواري خلفه جمال اغتاله الحزن حتي كاد يطفي احدي عينيها, راحت تطلب منا ان نساعدها لنجد لها أسرتها الحقيقية أباها وأمها وأخوتها أو قصتها والتي يبدوا انها واحدة من تلك الحكاوي التي لاتبدأ ولا تنتهي, تترك فقط انسانا أو انسانة يعذبهما التساؤل أو الحنين لحياة أسرية حقيقية لم يكن ذلك الهاجس الشيء الوحيد الذي يؤرق الفتاة ويقلق راحتها ولكن السنوات التي عاشتها ما بين وفاة الأم التي ظنتها حقيقية والحياة البائسة التي تعيشها الان معاناة متواصلة وكما تروي هبة قصتها بسؤال من هو أبي؟ من هي أمي؟ من هي أسرتي الي أي عائلة أنتمي.. من أنا؟؟؟!! فتقول ما ان طردني من كنت أظنهم أهلي واخوتي وسندي واصطحبتني جارة لنا كنا نعرفها وهي صديقة الي من كنت أظن انها والدتي والتي كانت خير عوض لي حتي انها راحت تختلق المبررات لتنسيني وانا طفلة الحديث والحادثة!! أنا أمك.. والا انت عايزاه أحضره لك, ورغم أن ظروفها المعيشية كانت محدودة للغاية الا ان أمي الثانية لم تكن أقل عطفا وحنانا من الأم الأولي ولكن الموت كان للاستقرار في حياتي بالمرصاد فاختطفت هذه الأم في الشهور الأخيرة قبل أن أكمل الخامسة عشرة من عمري وهو الأمر الذي اضطرني للانتقال للعيش داخل احدي دور الرعاية بالعريش لأجد نفسي وسط أطفال وصبية وفتية وفتيات جميعا في كنف تلك السيدة التي كانت علي قلة قدرتها توزع اهتمامها علينا جميعا بنفس القدر ولم أكن أعلم انني سأعيش داخل هذه الدار غصة المعرفة الممزوجة بالجهل فقد عرفت وانا استخرج بطاقتي الشخصية ان أصولي مجهولة لا أم لي ولا أب ظننته سرا يخفونه عني وانهم قد يعرفون الحقيقة ولكن الحقيقة لم تظهر ابدا رحت انزوي في اركان الحجرات اتبادل البكاء فيها سنوات لساعات متواصلة الا ان أوشكت احدي عيني علي الضياع كنت أدرك تماما انني سأواجه هذه الحياة دون حقيقة مؤكدة عن أسرتي. راح الخجل يأسرني يحبسني داخل جنبات نفسي ودوي سؤال لاينقطع برأسي من أنا؟ من هو أبي؟ من هي أمي؟ هل أنا ابنة.... وما هو ذنبي انني وجدت في هذه الحياة... فأنا أخجل أن أروي قصتي علي أحد لانها تفتح بابا لتساؤلات لا أملك لها اجابة, تستطرد وكأنها تمنعنا من ان نسألها ولعلها تكره أن تسأل!! لقد اعطتني احدي الاسر بحي شعبي بالعريش غرفة أعيش فيها وحيدة.. ها هي.. وكانت سيارتنا قد وصلت بابا خشبيا عليه قفل عتيق انفتح الباب ودخلنا لاشيء هنا.. سقف منهار.. وصالة خاوية.. وفئران في كل جانب.. عندك بوتاجاز؟ داهمنا بل فجعنا الرد مرتبة فقط علي الأرض كل ما أملك.. أعيش علي مساعدات الناس ولكنني أدرس وسأحصل علي الشهادة الابتدائية قريبا, وحيدة هنا تعيش هذه الفتاة وفي هذه الظروف القاسية فجانبها النفسي أكثر مئات المرات من قسوتها في رداءة المكان والذي يتهددها احتمال مغادرته لتبيت في المساجد كما كانت تفعل قبل ان تمنحها هذه الأسرة هذا المنزل خاصة وان الجهات المسئولة عن مساعدة مثل هذه الحالات لم تمد لها يد العون بالقدر الذي يحفظ عليها حياة كريمة أو شبه ذلك الي هنا توقفت الفتاة عن الحكاية.. قائلة لا تنسوني! وبنفس القدر من الاسي الذي حل بهذه الفتاة سكن الحزن نفوسنا وكونها واحدة من مئات القصص التي لولا المصادفة ما كنا لنطلع عليها وما أظن ان الناس والمسئولين بمدينة العريش التي تتمتع بقدر كبير من التكافل الاجتماعي ان يخطر لهم ببال مثل هذه الفاجعة.. شقة صغيرة.. واثاث.. وراتب تقتات منه كل ما تحتاجه هذه الفتاة وهو ما يستطيع ان يقدمه السيد مراد موافي محافظ شمال سيناء وكذلك أهل الخير من المستثمرين في سيناء وبر مصر لهذه الفتاة قبل ان تصبح شريدة وحيدة عرضة لما قد لا تحمد عقباه.