إبراهيم عيسى: السلفيين عكروا العقل المصري لدرجة منع تهنئة المسيحيين في أعيادهم    قائد المنطقة الجنوبية العسكرية يلتقي شيوخ وعواقل «حلايب وشلاتين»    منشآت مستثناة من تخفيف أحمال الكهرباء .. تعرف عليها    بايدن يثق بفوزه بولاية ثانية ويشكك في قبول ترامب نتائج الانتخابات    ملف يلا كورة.. حفل تأبين العامري فاروق.. غيابات الزمالك.. ومفاجأة لصالح جمعة    أحمد عيد: هنفرح جماهير المحلة في الدوري الممتاز.. وهذه كانت أصعب لحظة    احتفالات جنونية من لاعبي غزل المحلة مع الجماهير بعد الصعود للممتاز (فيديو وصور)    «الأرصاد» تُحذّر من حالة طقس اليوم الخميس 9 مايو 2024    الفصائل الفلسطينية تشارك في مفاوضات القاهرة    بعد غياب 10 سنوات.. رئيس «المحاسبات» يشارك فى الجلسة العامة ل«النواب»    سعر البصل والخيار والخضروات بالأسواق فى ختام الأسبوع الخميس 9 مايو 2024    سعر الذهب اليوم بالمملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الخميس 9 مايو 2024    الأهلي يفاوض صفقة مغربية جديدة.. بديل علي معلول    ناقد رياضي يصدم الزمالك حول قرار اعتراضه على حكام نهائي الكونفدرالية    خوان ماتا: كنت أتمنى مزاملة ميسي.. وهذا موقفي من الاعتزال    الأوبرا تحتفل باليوم العالمي لحرية الصحافة على المسرح الصغير    ماذا طلب كريم عبد العزيز بعد ساعات من وفاة والدته؟    مصطفى خاطر يروج للحلقتين الأجدد من "البيت بيتي 2"    ما الأفضل عمرة التطوع أم الإنفاق على الفقراء؟.. الإفتاء توضح    مواد مسرطنة في القهوة منزوعة الكافيين احذرها    حقيقة تعديل جدول امتحانات الثانوية العامة 2024.. اعرفها    «المصريين الأحرار»: بيانات الأحزاب تفويض للدولة للحفاظ على الأمن القومي    شوبير يكشف مفاجأة بشأن تجديد عقد علي معلول في الأهلي.. خلاف حول الراتب.. عاجل    معلومات عن ريهام أيمن بعد تعرضها لأزمة صحية.. لماذا ابتعدت عن الفن؟    انتخاب أحمد أبو هشيمة عضوا بمجلس أمناء التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي    جريمة تهز العراق، أب يقتل 12 فردا من عائلته ثم يتخلص من حياته (صور)    مصدر: حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية منفتحون نحو إنجاح الجهود المصرية في وقف إطلاق النار    زعيمان بالكونجرس ينتقدان تعليق شحنات مساعدات عسكرية لإسرائيل    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 9 مايو في محافظات مصر    الزمالك يشكر وزيرا الطيران المدني و الشباب والرياضة لدعم رحلة الفريق إلى المغرب    بعد إصدار قانون التصالح| هذه الأماكن معفاة من تلك الشروط.. فما هي؟    إعلام فلسطيني: غارة إسرائيلية على حي الصبرة جنوب مدينة غزة شمالي القطاع    6 طرق لعلاج احتباس الغازات في البطن بدون دواء    "الفجر" تنشر التقرير الطبي للطالبة "كارولين" ضحية تشويه جسدها داخل مدرسة في فيصل    سواق وعنده 4 أطفال.. شقيق أحمد ضحية حادث عصام صاصا يكشف التفاصيل    مندوب الجامعة العربية بالأمم المتحدة: 4 دول من أمريكا الجنوبية اعترفت خلال الأسبوع الأخير بدولة فلسطين    أحمد موسى: محدش يقدر يعتدي على أمننا.. ومصر لن تفرط في أي منطقة    رئيس هيئة المحطات النووية يهدي لوزير الكهرباء هدية رمزية من العملات التذكارية    برج الأسد.. حظك اليوم الخميس 9 مايو: مارس التمارين الرياضية    محمود قاسم ل«البوابة نيوز»: السرب حدث فني تاريخي تناول قضية هامة    تعرف على سعر الفراخ البيضاء والبيض بالأسواق اليوم الخميس 9 مايو 2024    إنتل تتوقع تراجع إيراداتها خلال الربع الثاني    ارتفاع ضحايا حادث «صحراوي المنيا».. مصرع شخص وإصابة 13 آخرين    استشاري مناعة يقدم نصيحة للوقاية من الأعراض الجانبية للقاح استرازينكا    وزير الصحة التونسي يثمن الجهود الإفريقية لمكافحة الأمراض المعدية    «زووم إفريقيا» في حلقة خاصة من قلب جامبيا على قناة CBC.. اليوم    عبد المجيد عبد الله يبدأ أولى حفلاته الثلاثة في الكويت.. الليلة    مستشهدا بواقعة على صفحة الأهلي.. إبراهيم عيسى: لم نتخلص من التسلف والتخلف الفكري    وزير الخارجية العراقي: العراق حريص على حماية وتطوير العلاقات مع الدول الأخرى على أساس المصالح المشتركة    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لنا في كل أمر يسراً وفي كل رزق بركة    دعاء الليلة الأولى من ذي القعدة الآن لمن أصابه كرب.. ب5 كلمات تنتهي معاناتك    وكيل الخطة والموازنة بمجلس النواب: طالبنا الحكومة بعدم فرض أي ضرائب جديدة    بالصور.. «تضامن الدقهلية» تُطلق المرحلة الثانية من مبادرة «وطن بلا إعاقة»    محافظ الإسكندرية يشيد بدور الصحافة القومية في التصدي للشائعات المغرضة    طالب صيدلة يدهس شابا أعلى المحور في الشيخ زايد    متحدث الصحة يعلق على سحب لقاحات أسترازينيكا من جميع أنحاء العالم.. فيديو    أول أيام شهر ذي القعدة غدا.. و«الإفتاء» تحسم جدل صيامه    بالفيديو.. هل تدريج الشعر حرام؟ أمين الفتوى يكشف مفاجأة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آلهة وثنية قديمة

‏(1)‏ كان حقا جذابا جدا‏...‏ رغم ضآلته يجر حدقة البصر ناحيته‏...‏ لذلك حين اقترب مني المديرالعام بعد أن خرج من وراء مكتبه الفاره ووقف للحظات يحد النظر إليه لم أتعجب‏...‏ هو
خاطف حقيقة بلونه الأسود الأبنوسي اللامع‏,‏ ومقتحم بلا تلكؤ‏...‏ لم أستغرب‏,‏ لما المدير العام المتشدد في شكله وكلامه مع الموظفين‏,‏ انحني امامي نصف انحناءة‏,‏ ومد يده إلي وسطي‏,‏ وتصيده بين أصابعه وراح يدقق فيه ببطء‏,‏ وود أكبر من مساحة معرفتي بالمدير‏,‏ و كان يبتسم له‏.‏ كان المدير قد بدأ يفرح‏,‏ كنت لأول مرة‏,‏ منذ سنين أراه يفرح‏..‏ كانت السلسلة القصيرة متدلية من وسطي‏,‏والقرد الأبنوسي الصغير المعلق بها‏,‏ تحركة أنامل المدير بعناية وتأمل عميقين‏.‏ ثم صار بخبرة إدارية عريضة‏,‏ يمهد طريق العلاقة فيما بيننا‏,‏ ويدهس بروزات متكلسة أعاقت صفاء التواصل بيننا عبر الأعوام الفائتة‏.‏ أحسست بحمية الصدق الحماسي الراغب في إعادة ترتيب المشاعر الصحية في صدر كل منا‏,‏ وكنت أعاونه‏,‏ وأحاول تجسيد هذا المفهوم الإنساني الجديد الناشئ‏,‏ أصبح استدعائي إلي مكتبه‏,‏ مريحا لي‏,‏ بالضبط مثل الطقس المريح في مكتبة الواسع‏,‏ الذي يتحكم فيه ويجعله آدميا‏,‏ جهاز تكييف ضخم يبرز بواجهه عريضة أنيفة‏,‏ من الحائط‏,‏ ويهمس بالأزيز الخافت‏,‏ الذي حين أسمعه‏,‏ وأنا أفتح الباب وأدلف حاملا الملفات والدوسيهات‏,‏ أدرك أنني حتما سوف أعيش دقائق أو أكثر في حضرة شتاء اضطراري لذيذ‏,‏ مغاير عن حريق الصيف الرسمي القائظ في الخارج‏.‏ لكنني بدأت أتأخر عنده‏,‏ منذ أن شاهد القرد الصغير المتدلي من عروة بنطا لي‏,‏ صار المدير يصطنع الأعذار ليؤخرني عنده‏.‏
أصبحت عند كل استدعاء لي أعرف أنني سوف أمكث عنده ساعة أو بضع ساعة‏,‏ وأن المدير سوف يكلمني بود جديد صادق‏,‏ وأنه‏,‏ سيطلب مني مثل كل مرة‏,‏ أن أفك حصار القرد الشمبانزي من بنطالي ليراه‏...‏ كان يستغرق في التأمل لمسافات أحسها طويلة صامتة‏,‏ وحين يعود بصعوبة‏,‏ كنت أحس به قد أجبر علي العودة‏,‏ وكأن هذا العرق الملحي الذي تصبب منه‏,‏ هو أحد أشياء أرقت سباحته في لجة بحر واسع غامض‏,‏ دائما عند استرجاعه لوعيه‏,‏ يسرع محرجا ويمد ذراعه إلي علبة المناديل الورقة‏,‏ ويجفف عرقه غير المبرر‏,‏ في حضرة هذا الكائن الحديدي الكبير المواجه لنا في الحائط‏,‏ والذي يهمس في وجوهنا همسا رطبا‏,‏ ويملأ فراغ الحجرة الشاسعة‏,‏ بمناخ مريح بارد‏,‏ بعد ان يستجمع تناثر أعضائه المرتبكة‏,‏ يمد صوته الرخيم إلي أذني ويطرقني طرقا مدويا بسؤال غامض التفاصيل غير واضح المدلول‏,‏ مما يجعلني أتلجلج وأرتبك مثله‏,‏ وأحس وأنا أتلعثم في الإجابة‏,‏ بندي ملحي بدأ ينضح من جبهتي‏,‏ هازما هذا المخلص القابع هناك وهو ينتج رشاش الهواء الصاقع فوقنا‏,‏ وبدون أن أشعر‏,‏ أرسل يدي إلي العلبة المستطيلة الموضوعة علي المكتب‏,‏ وأجئ بحفنة من المناديل الورقية‏,‏ وأسرع إلي مصبات المياه المجتهده في جسمي‏,‏ وأحاول محرجا‏,‏ أن أجفف نفسي‏,‏ كان دائما عند عودته من السفر يرجمني بسؤال غريب‏,‏ لا يلامس بالضبط هذا التمثال الدقيق‏,‏ لكنه دائما القرد الأبنوسي‏,‏ قاعدة لانطلاق الحوار‏.‏ كنت قد بدأت أفكر جديا في الاستغناء عن هذا الصنم الذي لايكاد يري‏,‏ وخصوصا بعد سريان عدوي هذه الحالة وانتشارها بين دهاليز وطرقات الشركة مما جعل زميلاتي وزملائي الموظفين‏,‏ يوقفونني في ذهابي ومجيئي‏,‏ ويتأملونه بولع وهم يقضمون احتمالي باستفساراتهم الكثيرة عن القرد‏,‏ حتي ساعي مكاتبنا‏,‏ كان يتقدم إلي نصفي التحتي بإحراج وينحني وهو يلفظ مفردات تمنحني قدرا كبيرا من التبجيل والوقار‏,‏ وكأنه يدرك أنه بتلك الكلمات المضخمة لذاتي‏,‏ يخدر جهاز الرفض العامل في والمستاء من تلك السخافة‏.‏
أيضا حارس البوابة الخارجية لشركتنا‏,‏ أصبح يتربص بي وحين ألوح له‏,‏ يهم سادا علي السكة بجسمه العريض‏,‏ ويغلق منافذ الفكاك‏,‏ وينحني أمامي متأملا سائلا عن مصدر التمثال‏,‏ ويطلب مني إحضار واحد مثله وبأي ثمن‏,‏ صار مستوجبا علي أن أنزع عني هذه اللعنة‏,‏ يجب أن أستغني عن احدي الهدايا التي منحها لي أعز أصدقائي‏...‏ علي أن أتبرأ من هذا القرد الهدية‏,‏ قبل أن يصنع ضدي مشكلة قد تؤثر علي‏.‏ فلتذهب في ستين داهية العلاقة الطيبة الطرية المريحة‏,‏ بيني وبين المدير العام‏,‏ وأهلا بحالة الاستعداء القديمة التي جمعتنا من قبل‏.‏
‏(2)‏
قال لي حيدر صديقي السوداني وهو يشد ملامح وجهه النحاسي‏,‏ ويلفظ أحرفه بعناية مقصوده أنه في كل واحد من الناس‏,‏ بقايا لاله وثني قديم‏,‏ في أعماق الإنسي الغائرة طوطم أثري‏,‏ من حين لآخر يقدم الفرد‏,‏ ذبائحه ونذوره وولاءه لهذا الوثن هأهاها‏...‏ يخرب بيتك ياحيدر‏!!‏
رغم إنني سخرت من تفلسف حيدر تاجر التماثيل الأفريقية القديمة‏,‏ إلا أنني لاحظت مدي الجدية والحسم الذي تلبس صوته الرخيم المموه بلهجة سودانية قريبة إلي حد مامن لهجتنا الصعيدية الجافة المتعطشة‏.‏ كنت أجلس بجواره علي الأريكة المتهالكة‏,‏ ونحتسي شاينا المسائي‏,‏ وأمامنا فرشه المتواضع الذي يعرض للخواجات ولمن أراد‏.‏ الأقنعه والدروع والتماثيل الافريقية البدائية‏.‏ كانت التماثيل من وقت لآخر تتلقي لطمة لينة من منشة في يده‏,‏ وبقية البضاعة مثل الأقنعة والدروع والخناجر والكرابيج الجلدية تتلقي كل فترة‏,‏ استدعاء فوريا إلي حجره‏,‏ وقت أن يرعي انتباهه مسة من غبار أطفأت لمعة النظافة‏,‏ كان يحاصرها بلحمه الخفيف‏,‏ وينكب عليها ملمعا بقطعة فرو الخروف‏,‏ لم يكن حيدر يتعامل مع أشيائه البسيطة كسلعة تؤكله عيشا فقط وإنما كان يتشابك معها ويتأملها كأحد الأجوبة التي عثر عليها البشري لسؤال عسير في زمن بعيد‏...‏ وهو أيضا يظن أن تلك الأسئلة لم تحل حلا كاملا إلي الأن‏,‏ وأن الأجوبة العتيقة‏,‏ مازالت تعمل في وجداننا الي هذا الوقت‏,‏ أو علي الأقل‏,‏ قدر من تلك الأجوية مازال عالقا بجدران ذاكرتنا‏.‏ الطوطم جايز يكون فكرة‏....‏ ماهو لأزم شيء بعينه‏!!‏ لأنني من مدينة أسوان‏,‏ فأنا مدرك أنني لدرجة ما‏.‏
متماس مع البدن الافريقي الشمالي نحن هنا نقطة اللقاء الأولي‏.‏ أحيانا كثيرة المناخ الاستوائي الحار يرمي بصهده وتقلباته إلينا‏,‏ ويقذف كذلك بأجساد نحيلة‏,‏ سوداء‏,‏ طافشة من عبث المناخ القاسي الفقير‏,‏ أو فارة من ميول الأنظمة هناك‏,‏ لاضطهاد الحياة القليلة المتبقية فيهم‏,‏ لذلك قلة منهم يأتوننا هربا من الشح‏,‏ أو لعدم ارتياحهم للركوع الطويل في ليل استوائي مرهق‏,‏ حجب عنهم سلالم الصعود لملكوت الكرامة وهذا الموضوع ليس موضوع القصة الأصلي ذلك النزوح الخجول‏,‏ المصاحب لتقلب أمزجة المواسم القارية‏,‏ لا يمثل عندنا في مدينتا الجنوبية أية ظاهرة بل هم قلة يأتون إلينا‏,‏ وأغلبهم عادة ما يكونون سودانيي المواطن‏.‏ يتهادون ناحيتنا‏,‏ بحكم الحيرة‏,‏ وسهولة الانسلال والانزلاق ولقرب المسافة‏.‏ بعضهم يأخذ مدينتنا كقناة حلم‏,‏ ليعبروا نحو الحلم الكبير الغرب ومنهم من يشق سباحة أقل عسرا‏,‏ ويسافر نحو بحور النفط العربية‏,‏ وهذا أضعف الإيمان‏.‏ وبعض يقيم معنا ويعيش‏,‏ وكان حيدر من هذا النوع الأخير‏,‏ الذي يأتي بمنتوج استهلاكي‏,‏ أو ثقافي‏,‏ مختلف‏,‏ ويفترش الأرصفة ويعيش بما قسمه الرب والترحال لهم‏.‏ ولأنهم طيبون‏,‏ ويصادقون طوب الأرض‏.‏ نشبت صداقتي مع حيدر منذ مدة طويلة‏,‏ لحظة أن وقفت لأتفرج علي بضاعته‏.‏ كنت سائرا في شارع الفنية الذي في آخره مقر الشركة التي أعمل بها‏,‏ وشد انتباهي‏,‏ حيدر وأشياؤه‏.‏ علي الرصيف المقابل‏.‏ كان يلف حول الفرش بمهل ويلكم بمنشته غبار المدينة‏,‏ ويطرده بعيدا عن بضاعته‏.‏ وقفت‏,‏ فبدأ الحوار هامشيا‏,‏ ولما صرت في ذهابي ومجيئي أتوقف مشدودا أمام التماثيل والأقنعة والجلود‏,‏ نما الحوار وتكثف يوما في اثر يوم‏,‏ وأصبح لا يسعه حوار الأثمان والأنواع والخامات‏,‏ بل استطال الكلام ودخل إلي اسم كل قطعة‏,‏ وانتسابها إلي فلكلور القبيلة الفلانية‏,‏ وما تمثله لهم من اعتقاد‏.‏ أدهشني حيدر بأنه ليس بائعا فقط‏,‏ وإنما متأمل لما يتاجر فيه‏,‏ عميق في تأويله للظواهر التي استدعت خفوت نجم إله وثني قديم‏,‏ ليفسح السكة لآخر‏,‏ جاء ليسطو علي حصة من الزمن‏,‏ فيها سيكون هذا الإله مركزا لاهتمام الناس‏.‏ ثم تكلمنا في الحياة والسياسة‏,‏ والتفاصيل العائلية لكل منا‏.‏ كان حين ينهي بضاعته‏,‏ يعود إلي السودان‏,‏ ويمكث مدة ثم يعود بأخري‏.‏ في آخر رجوع له أعطاني هدية‏.‏ تمثالا صغيرا لقرد من فصيلة الشامبنزي مصنوع من الأبنوس‏.‏ كان نموذجا لطوطم قبيلة الدنكا‏.‏ قال لي ضاحكا‏,‏ إن هناك اسطورة افريقية سالفة‏,‏ ملخصها يقول‏,‏ إن الطوطم يذهب لمن يختاره‏.‏
يعني يازول ما اختارت هديتك‏,‏ أنت اللي عملت‏..‏
هاهاها‏...‏ مقبوله منك‏..‏
‏(3)‏
كان في حجم القداحة‏.‏ يهبط بذراعيه في استقامة إلي تحت‏.‏ يكاد ينطق‏.‏ بطنه مكور بهدوء‏.‏ ثدياه طالعان إلي الأمام‏,‏ والحلمتان الدقيقتان تبرزان من تحت الشعر الكثيف‏.‏ فكه متدل قليلا والجزع والظهر يميلان بالرأس نحو الناظر إليه‏.‏ عيناه الضيقتان المحدقتان‏,‏ فيهما حياة لا تعكس قدرة اليد الفنانة التي أبدعته فقط‏,‏ بل تعكس أيضا انه حيوان عادي‏,‏ يحاول أن يكون ذكيا مؤثرا في أعماق من يشاهده‏.‏ كان من الأبنوس النادر‏.‏ كنت أتأمله كثيرا‏,‏ حتي أحسه في بعض الأحيان قطعة من اللحم الدافئ بين يدي‏..‏ كنت أضعه علي المكتب بجوار كتبي وأوراقي‏..‏ بعد حين من الوقت صرت اشتاق اليه في كل مرة ادخل فيها الي بيتنا كنت اجده في يد أبي أو أمي كان كل منهما يؤجل شئونه ويروح إلي المكتب ويقف قبالته‏.‏ كانت أمي تعاني بين أمرين‏,‏ الأول مصالح بيتنا اليومية التي ينبغي أن تفعلها‏..‏ والثاني‏,‏ الذهاب عنده والوقوف قدامه طويلا‏.‏ عندما دخلت البيت مصمما علي عدم تركه مدة غيابي عن البيت لولعي به‏,‏ اتهمني والدي بالقسوة‏,‏ كنت قد انتزعته من بين يديه‏.‏ كان أبي قد ترك قراءة الجرائد اليومية التي يحبها‏.‏ رأيته ممددا علي الأريكة والتمثال في يده‏.‏ وأنا أخرم خرما دقيقا في أذن القرد حتي أمرر عروة السلسلة التي في آخرها قفل صغير كانت أمي قد فهمت ما أنويه‏,‏ فصمتت مخذولة‏,‏ وترسب في قاع مقلتيها حزن غامض‏,‏ وكان أبي يتهمني بالعقوق‏.‏ لم يفصحا عن شيء محدد كان سببا لهذا الحنق‏,‏ بل أصبحا يحنقان علي بلا مبرر‏.‏ لكني صممت علي تحقيق رغبتي‏.‏ في الصباح كنت أعلقه في عروة البنطال بجوار ميدالية المفاتيح وأسير به إلي كل مكان‏.‏ عند العودة إلي بيتنا‏,‏ كان أبي وأمي‏,‏ يهزمان تلكؤ الشيخوخة‏,‏ وغضب الأمراض الروماتزمية المزمنة‏,‏ ويثبان نحوي في خفة ويربطانني بالأهمية المزيفة‏.‏
‏(4)‏
لما طلبني المدير العام‏,‏ طرقت الباب ووقفت حتي جاء صوته من الداخل‏.‏ نظر إلي نصفي التحتي ثم عاد مفجوعا‏,‏ بعدها عادت التكلسات الورمية للنتوء في لحم علاقتنا من جديد‏,‏ وبقي التذمر قابعا بين كلينا ويعطل أي محاولة مني للتصالح‏,‏ ولم أعد أسعد بالمناخ الجليدي اللذيذ المغلف لأجواء غرفة المدير العام‏,‏ ولم أعد استمتع بمؤخرات زميلاتي في العمل وهن يملن أمامي كلما قابلنني‏.‏
‏(5)‏
في الصباح توقفت أمام البوابة الكبيرة للشركة وبغير أن أشعر انحنيت أمام الحارس العريض‏.‏ كنت أتأمل قردا ضئيل الحجم متدليا من بنطاله ويخشخش متخبطا بالمفاتيح الكثيرة المعلقة في السلسلة‏.‏ وأنا أقول متوترا‏,‏ كنت أسرع ماسحا عرقا غزيرا يتصبب مني‏.‏ وأنا أسير في الممرات الضيقة‏,‏ الفاصلة بين أبواب المكاتب‏,‏ كنت أسمع الخشخشة الخافتة وهي تصدر من زملائي‏,‏ وحين رنوت رأيت ذات التمثال اللعين وهو يتأرجح متخبطا بميدالية المفاتيح المعلقة في الأيدي‏,‏ أو‏,‏ في عراوي البنطلونات‏.‏ عند الليل كان أبي قاسيا جدا‏,‏ وأمي لا تعطيني لمسة من رحمتها‏..‏ كانا يتبادلان تمثالهما الصغير فيما بينهما‏,‏ وكلما دخلت عليهما الغرفة أسرعا وخبآه مني وأنكرا وجوده‏.‏ كنت أغافلهما وأتطلع عليهما من شروخ باب الغرفة‏,‏ وكانا حتما يشعران بي‏..‏ كنت أري أربع عيون متقدة بالضيق تلطمني حتي أرتد راجعا إلي وحدتي‏.‏
‏(6)‏
للصبح أنباء يرسلها بإلحاح لمن ينتظره‏.‏ كنت لم أنم بعد‏,‏ وأحس بأنباء النهار وهي تسرع نحوي‏.‏ خرجت مبكرا مستسلما لنداء عتيق يثغو في أعماقي‏.‏ كان زقاقنا النحيل مازال مريضا بداء الليل الذي انسلت قتامته منذ قليل‏.‏ الكل نائم‏,‏ وكاتم في أعماقه مثلي أصواتا تجلجل في فضاءاته‏,‏ حتما منهم من يرفض رداء معادا ومكررا قادما من الأزمان البعيدة‏,‏ ومنهم من استسلم مثلي وراح يعانق أجوبة جاهزة معلقة بالقرب منا‏,‏ في عروة بنطالنا وتتخبط بسلسلة المفاتيح‏,‏ مرسلة خشخشة خافتة تدغدغنا‏.‏
خرجت إلي الطريق العمومي راكضا‏,‏ وضغطت المسافات حتي وصلت لشارع السودانية‏,‏ الذي‏,‏ امتشق هذا الاسم من توافد السودانيين عليه‏,‏ وافتراشهم لأرصفته بالبضائع الأفريقية النادرة عندنا‏.‏ كان حيدر يعد فرشه المتواضع للرزق الصباحي الجديد‏.‏ بعد أن حييته وقفت أمامه حائرا‏,‏ كان يرنو لعيني مباشرة‏.‏ بعد لحظات رأيته يضع يده في جيب جلبابه السوداني المميز‏,‏ ثم يخرج ببطء التمثال الذي أعدته إليه منذ أيام‏.‏ مد ذراعه إلي وبسط كفه لي‏,‏ بخجل وارتباك‏,‏ ذهبت للقرد الصغير والتقطته ورحت أحدق فيه ببعض الغضب في حين كان الماء المالح ينز من كل جزء في جسمي‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.