«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آلهة وثنية قديمة

‏(1)‏ كان حقا جذابا جدا‏...‏ رغم ضآلته يجر حدقة البصر ناحيته‏...‏ لذلك حين اقترب مني المديرالعام بعد أن خرج من وراء مكتبه الفاره ووقف للحظات يحد النظر إليه لم أتعجب‏...‏ هو
خاطف حقيقة بلونه الأسود الأبنوسي اللامع‏,‏ ومقتحم بلا تلكؤ‏...‏ لم أستغرب‏,‏ لما المدير العام المتشدد في شكله وكلامه مع الموظفين‏,‏ انحني امامي نصف انحناءة‏,‏ ومد يده إلي وسطي‏,‏ وتصيده بين أصابعه وراح يدقق فيه ببطء‏,‏ وود أكبر من مساحة معرفتي بالمدير‏,‏ و كان يبتسم له‏.‏ كان المدير قد بدأ يفرح‏,‏ كنت لأول مرة‏,‏ منذ سنين أراه يفرح‏..‏ كانت السلسلة القصيرة متدلية من وسطي‏,‏والقرد الأبنوسي الصغير المعلق بها‏,‏ تحركة أنامل المدير بعناية وتأمل عميقين‏.‏ ثم صار بخبرة إدارية عريضة‏,‏ يمهد طريق العلاقة فيما بيننا‏,‏ ويدهس بروزات متكلسة أعاقت صفاء التواصل بيننا عبر الأعوام الفائتة‏.‏ أحسست بحمية الصدق الحماسي الراغب في إعادة ترتيب المشاعر الصحية في صدر كل منا‏,‏ وكنت أعاونه‏,‏ وأحاول تجسيد هذا المفهوم الإنساني الجديد الناشئ‏,‏ أصبح استدعائي إلي مكتبه‏,‏ مريحا لي‏,‏ بالضبط مثل الطقس المريح في مكتبة الواسع‏,‏ الذي يتحكم فيه ويجعله آدميا‏,‏ جهاز تكييف ضخم يبرز بواجهه عريضة أنيفة‏,‏ من الحائط‏,‏ ويهمس بالأزيز الخافت‏,‏ الذي حين أسمعه‏,‏ وأنا أفتح الباب وأدلف حاملا الملفات والدوسيهات‏,‏ أدرك أنني حتما سوف أعيش دقائق أو أكثر في حضرة شتاء اضطراري لذيذ‏,‏ مغاير عن حريق الصيف الرسمي القائظ في الخارج‏.‏ لكنني بدأت أتأخر عنده‏,‏ منذ أن شاهد القرد الصغير المتدلي من عروة بنطا لي‏,‏ صار المدير يصطنع الأعذار ليؤخرني عنده‏.‏
أصبحت عند كل استدعاء لي أعرف أنني سوف أمكث عنده ساعة أو بضع ساعة‏,‏ وأن المدير سوف يكلمني بود جديد صادق‏,‏ وأنه‏,‏ سيطلب مني مثل كل مرة‏,‏ أن أفك حصار القرد الشمبانزي من بنطالي ليراه‏...‏ كان يستغرق في التأمل لمسافات أحسها طويلة صامتة‏,‏ وحين يعود بصعوبة‏,‏ كنت أحس به قد أجبر علي العودة‏,‏ وكأن هذا العرق الملحي الذي تصبب منه‏,‏ هو أحد أشياء أرقت سباحته في لجة بحر واسع غامض‏,‏ دائما عند استرجاعه لوعيه‏,‏ يسرع محرجا ويمد ذراعه إلي علبة المناديل الورقة‏,‏ ويجفف عرقه غير المبرر‏,‏ في حضرة هذا الكائن الحديدي الكبير المواجه لنا في الحائط‏,‏ والذي يهمس في وجوهنا همسا رطبا‏,‏ ويملأ فراغ الحجرة الشاسعة‏,‏ بمناخ مريح بارد‏,‏ بعد ان يستجمع تناثر أعضائه المرتبكة‏,‏ يمد صوته الرخيم إلي أذني ويطرقني طرقا مدويا بسؤال غامض التفاصيل غير واضح المدلول‏,‏ مما يجعلني أتلجلج وأرتبك مثله‏,‏ وأحس وأنا أتلعثم في الإجابة‏,‏ بندي ملحي بدأ ينضح من جبهتي‏,‏ هازما هذا المخلص القابع هناك وهو ينتج رشاش الهواء الصاقع فوقنا‏,‏ وبدون أن أشعر‏,‏ أرسل يدي إلي العلبة المستطيلة الموضوعة علي المكتب‏,‏ وأجئ بحفنة من المناديل الورقية‏,‏ وأسرع إلي مصبات المياه المجتهده في جسمي‏,‏ وأحاول محرجا‏,‏ أن أجفف نفسي‏,‏ كان دائما عند عودته من السفر يرجمني بسؤال غريب‏,‏ لا يلامس بالضبط هذا التمثال الدقيق‏,‏ لكنه دائما القرد الأبنوسي‏,‏ قاعدة لانطلاق الحوار‏.‏ كنت قد بدأت أفكر جديا في الاستغناء عن هذا الصنم الذي لايكاد يري‏,‏ وخصوصا بعد سريان عدوي هذه الحالة وانتشارها بين دهاليز وطرقات الشركة مما جعل زميلاتي وزملائي الموظفين‏,‏ يوقفونني في ذهابي ومجيئي‏,‏ ويتأملونه بولع وهم يقضمون احتمالي باستفساراتهم الكثيرة عن القرد‏,‏ حتي ساعي مكاتبنا‏,‏ كان يتقدم إلي نصفي التحتي بإحراج وينحني وهو يلفظ مفردات تمنحني قدرا كبيرا من التبجيل والوقار‏,‏ وكأنه يدرك أنه بتلك الكلمات المضخمة لذاتي‏,‏ يخدر جهاز الرفض العامل في والمستاء من تلك السخافة‏.‏
أيضا حارس البوابة الخارجية لشركتنا‏,‏ أصبح يتربص بي وحين ألوح له‏,‏ يهم سادا علي السكة بجسمه العريض‏,‏ ويغلق منافذ الفكاك‏,‏ وينحني أمامي متأملا سائلا عن مصدر التمثال‏,‏ ويطلب مني إحضار واحد مثله وبأي ثمن‏,‏ صار مستوجبا علي أن أنزع عني هذه اللعنة‏,‏ يجب أن أستغني عن احدي الهدايا التي منحها لي أعز أصدقائي‏...‏ علي أن أتبرأ من هذا القرد الهدية‏,‏ قبل أن يصنع ضدي مشكلة قد تؤثر علي‏.‏ فلتذهب في ستين داهية العلاقة الطيبة الطرية المريحة‏,‏ بيني وبين المدير العام‏,‏ وأهلا بحالة الاستعداء القديمة التي جمعتنا من قبل‏.‏
‏(2)‏
قال لي حيدر صديقي السوداني وهو يشد ملامح وجهه النحاسي‏,‏ ويلفظ أحرفه بعناية مقصوده أنه في كل واحد من الناس‏,‏ بقايا لاله وثني قديم‏,‏ في أعماق الإنسي الغائرة طوطم أثري‏,‏ من حين لآخر يقدم الفرد‏,‏ ذبائحه ونذوره وولاءه لهذا الوثن هأهاها‏...‏ يخرب بيتك ياحيدر‏!!‏
رغم إنني سخرت من تفلسف حيدر تاجر التماثيل الأفريقية القديمة‏,‏ إلا أنني لاحظت مدي الجدية والحسم الذي تلبس صوته الرخيم المموه بلهجة سودانية قريبة إلي حد مامن لهجتنا الصعيدية الجافة المتعطشة‏.‏ كنت أجلس بجواره علي الأريكة المتهالكة‏,‏ ونحتسي شاينا المسائي‏,‏ وأمامنا فرشه المتواضع الذي يعرض للخواجات ولمن أراد‏.‏ الأقنعه والدروع والتماثيل الافريقية البدائية‏.‏ كانت التماثيل من وقت لآخر تتلقي لطمة لينة من منشة في يده‏,‏ وبقية البضاعة مثل الأقنعة والدروع والخناجر والكرابيج الجلدية تتلقي كل فترة‏,‏ استدعاء فوريا إلي حجره‏,‏ وقت أن يرعي انتباهه مسة من غبار أطفأت لمعة النظافة‏,‏ كان يحاصرها بلحمه الخفيف‏,‏ وينكب عليها ملمعا بقطعة فرو الخروف‏,‏ لم يكن حيدر يتعامل مع أشيائه البسيطة كسلعة تؤكله عيشا فقط وإنما كان يتشابك معها ويتأملها كأحد الأجوبة التي عثر عليها البشري لسؤال عسير في زمن بعيد‏...‏ وهو أيضا يظن أن تلك الأسئلة لم تحل حلا كاملا إلي الأن‏,‏ وأن الأجوبة العتيقة‏,‏ مازالت تعمل في وجداننا الي هذا الوقت‏,‏ أو علي الأقل‏,‏ قدر من تلك الأجوية مازال عالقا بجدران ذاكرتنا‏.‏ الطوطم جايز يكون فكرة‏....‏ ماهو لأزم شيء بعينه‏!!‏ لأنني من مدينة أسوان‏,‏ فأنا مدرك أنني لدرجة ما‏.‏
متماس مع البدن الافريقي الشمالي نحن هنا نقطة اللقاء الأولي‏.‏ أحيانا كثيرة المناخ الاستوائي الحار يرمي بصهده وتقلباته إلينا‏,‏ ويقذف كذلك بأجساد نحيلة‏,‏ سوداء‏,‏ طافشة من عبث المناخ القاسي الفقير‏,‏ أو فارة من ميول الأنظمة هناك‏,‏ لاضطهاد الحياة القليلة المتبقية فيهم‏,‏ لذلك قلة منهم يأتوننا هربا من الشح‏,‏ أو لعدم ارتياحهم للركوع الطويل في ليل استوائي مرهق‏,‏ حجب عنهم سلالم الصعود لملكوت الكرامة وهذا الموضوع ليس موضوع القصة الأصلي ذلك النزوح الخجول‏,‏ المصاحب لتقلب أمزجة المواسم القارية‏,‏ لا يمثل عندنا في مدينتا الجنوبية أية ظاهرة بل هم قلة يأتون إلينا‏,‏ وأغلبهم عادة ما يكونون سودانيي المواطن‏.‏ يتهادون ناحيتنا‏,‏ بحكم الحيرة‏,‏ وسهولة الانسلال والانزلاق ولقرب المسافة‏.‏ بعضهم يأخذ مدينتنا كقناة حلم‏,‏ ليعبروا نحو الحلم الكبير الغرب ومنهم من يشق سباحة أقل عسرا‏,‏ ويسافر نحو بحور النفط العربية‏,‏ وهذا أضعف الإيمان‏.‏ وبعض يقيم معنا ويعيش‏,‏ وكان حيدر من هذا النوع الأخير‏,‏ الذي يأتي بمنتوج استهلاكي‏,‏ أو ثقافي‏,‏ مختلف‏,‏ ويفترش الأرصفة ويعيش بما قسمه الرب والترحال لهم‏.‏ ولأنهم طيبون‏,‏ ويصادقون طوب الأرض‏.‏ نشبت صداقتي مع حيدر منذ مدة طويلة‏,‏ لحظة أن وقفت لأتفرج علي بضاعته‏.‏ كنت سائرا في شارع الفنية الذي في آخره مقر الشركة التي أعمل بها‏,‏ وشد انتباهي‏,‏ حيدر وأشياؤه‏.‏ علي الرصيف المقابل‏.‏ كان يلف حول الفرش بمهل ويلكم بمنشته غبار المدينة‏,‏ ويطرده بعيدا عن بضاعته‏.‏ وقفت‏,‏ فبدأ الحوار هامشيا‏,‏ ولما صرت في ذهابي ومجيئي أتوقف مشدودا أمام التماثيل والأقنعة والجلود‏,‏ نما الحوار وتكثف يوما في اثر يوم‏,‏ وأصبح لا يسعه حوار الأثمان والأنواع والخامات‏,‏ بل استطال الكلام ودخل إلي اسم كل قطعة‏,‏ وانتسابها إلي فلكلور القبيلة الفلانية‏,‏ وما تمثله لهم من اعتقاد‏.‏ أدهشني حيدر بأنه ليس بائعا فقط‏,‏ وإنما متأمل لما يتاجر فيه‏,‏ عميق في تأويله للظواهر التي استدعت خفوت نجم إله وثني قديم‏,‏ ليفسح السكة لآخر‏,‏ جاء ليسطو علي حصة من الزمن‏,‏ فيها سيكون هذا الإله مركزا لاهتمام الناس‏.‏ ثم تكلمنا في الحياة والسياسة‏,‏ والتفاصيل العائلية لكل منا‏.‏ كان حين ينهي بضاعته‏,‏ يعود إلي السودان‏,‏ ويمكث مدة ثم يعود بأخري‏.‏ في آخر رجوع له أعطاني هدية‏.‏ تمثالا صغيرا لقرد من فصيلة الشامبنزي مصنوع من الأبنوس‏.‏ كان نموذجا لطوطم قبيلة الدنكا‏.‏ قال لي ضاحكا‏,‏ إن هناك اسطورة افريقية سالفة‏,‏ ملخصها يقول‏,‏ إن الطوطم يذهب لمن يختاره‏.‏
يعني يازول ما اختارت هديتك‏,‏ أنت اللي عملت‏..‏
هاهاها‏...‏ مقبوله منك‏..‏
‏(3)‏
كان في حجم القداحة‏.‏ يهبط بذراعيه في استقامة إلي تحت‏.‏ يكاد ينطق‏.‏ بطنه مكور بهدوء‏.‏ ثدياه طالعان إلي الأمام‏,‏ والحلمتان الدقيقتان تبرزان من تحت الشعر الكثيف‏.‏ فكه متدل قليلا والجزع والظهر يميلان بالرأس نحو الناظر إليه‏.‏ عيناه الضيقتان المحدقتان‏,‏ فيهما حياة لا تعكس قدرة اليد الفنانة التي أبدعته فقط‏,‏ بل تعكس أيضا انه حيوان عادي‏,‏ يحاول أن يكون ذكيا مؤثرا في أعماق من يشاهده‏.‏ كان من الأبنوس النادر‏.‏ كنت أتأمله كثيرا‏,‏ حتي أحسه في بعض الأحيان قطعة من اللحم الدافئ بين يدي‏..‏ كنت أضعه علي المكتب بجوار كتبي وأوراقي‏..‏ بعد حين من الوقت صرت اشتاق اليه في كل مرة ادخل فيها الي بيتنا كنت اجده في يد أبي أو أمي كان كل منهما يؤجل شئونه ويروح إلي المكتب ويقف قبالته‏.‏ كانت أمي تعاني بين أمرين‏,‏ الأول مصالح بيتنا اليومية التي ينبغي أن تفعلها‏..‏ والثاني‏,‏ الذهاب عنده والوقوف قدامه طويلا‏.‏ عندما دخلت البيت مصمما علي عدم تركه مدة غيابي عن البيت لولعي به‏,‏ اتهمني والدي بالقسوة‏,‏ كنت قد انتزعته من بين يديه‏.‏ كان أبي قد ترك قراءة الجرائد اليومية التي يحبها‏.‏ رأيته ممددا علي الأريكة والتمثال في يده‏.‏ وأنا أخرم خرما دقيقا في أذن القرد حتي أمرر عروة السلسلة التي في آخرها قفل صغير كانت أمي قد فهمت ما أنويه‏,‏ فصمتت مخذولة‏,‏ وترسب في قاع مقلتيها حزن غامض‏,‏ وكان أبي يتهمني بالعقوق‏.‏ لم يفصحا عن شيء محدد كان سببا لهذا الحنق‏,‏ بل أصبحا يحنقان علي بلا مبرر‏.‏ لكني صممت علي تحقيق رغبتي‏.‏ في الصباح كنت أعلقه في عروة البنطال بجوار ميدالية المفاتيح وأسير به إلي كل مكان‏.‏ عند العودة إلي بيتنا‏,‏ كان أبي وأمي‏,‏ يهزمان تلكؤ الشيخوخة‏,‏ وغضب الأمراض الروماتزمية المزمنة‏,‏ ويثبان نحوي في خفة ويربطانني بالأهمية المزيفة‏.‏
‏(4)‏
لما طلبني المدير العام‏,‏ طرقت الباب ووقفت حتي جاء صوته من الداخل‏.‏ نظر إلي نصفي التحتي ثم عاد مفجوعا‏,‏ بعدها عادت التكلسات الورمية للنتوء في لحم علاقتنا من جديد‏,‏ وبقي التذمر قابعا بين كلينا ويعطل أي محاولة مني للتصالح‏,‏ ولم أعد أسعد بالمناخ الجليدي اللذيذ المغلف لأجواء غرفة المدير العام‏,‏ ولم أعد استمتع بمؤخرات زميلاتي في العمل وهن يملن أمامي كلما قابلنني‏.‏
‏(5)‏
في الصباح توقفت أمام البوابة الكبيرة للشركة وبغير أن أشعر انحنيت أمام الحارس العريض‏.‏ كنت أتأمل قردا ضئيل الحجم متدليا من بنطاله ويخشخش متخبطا بالمفاتيح الكثيرة المعلقة في السلسلة‏.‏ وأنا أقول متوترا‏,‏ كنت أسرع ماسحا عرقا غزيرا يتصبب مني‏.‏ وأنا أسير في الممرات الضيقة‏,‏ الفاصلة بين أبواب المكاتب‏,‏ كنت أسمع الخشخشة الخافتة وهي تصدر من زملائي‏,‏ وحين رنوت رأيت ذات التمثال اللعين وهو يتأرجح متخبطا بميدالية المفاتيح المعلقة في الأيدي‏,‏ أو‏,‏ في عراوي البنطلونات‏.‏ عند الليل كان أبي قاسيا جدا‏,‏ وأمي لا تعطيني لمسة من رحمتها‏..‏ كانا يتبادلان تمثالهما الصغير فيما بينهما‏,‏ وكلما دخلت عليهما الغرفة أسرعا وخبآه مني وأنكرا وجوده‏.‏ كنت أغافلهما وأتطلع عليهما من شروخ باب الغرفة‏,‏ وكانا حتما يشعران بي‏..‏ كنت أري أربع عيون متقدة بالضيق تلطمني حتي أرتد راجعا إلي وحدتي‏.‏
‏(6)‏
للصبح أنباء يرسلها بإلحاح لمن ينتظره‏.‏ كنت لم أنم بعد‏,‏ وأحس بأنباء النهار وهي تسرع نحوي‏.‏ خرجت مبكرا مستسلما لنداء عتيق يثغو في أعماقي‏.‏ كان زقاقنا النحيل مازال مريضا بداء الليل الذي انسلت قتامته منذ قليل‏.‏ الكل نائم‏,‏ وكاتم في أعماقه مثلي أصواتا تجلجل في فضاءاته‏,‏ حتما منهم من يرفض رداء معادا ومكررا قادما من الأزمان البعيدة‏,‏ ومنهم من استسلم مثلي وراح يعانق أجوبة جاهزة معلقة بالقرب منا‏,‏ في عروة بنطالنا وتتخبط بسلسلة المفاتيح‏,‏ مرسلة خشخشة خافتة تدغدغنا‏.‏
خرجت إلي الطريق العمومي راكضا‏,‏ وضغطت المسافات حتي وصلت لشارع السودانية‏,‏ الذي‏,‏ امتشق هذا الاسم من توافد السودانيين عليه‏,‏ وافتراشهم لأرصفته بالبضائع الأفريقية النادرة عندنا‏.‏ كان حيدر يعد فرشه المتواضع للرزق الصباحي الجديد‏.‏ بعد أن حييته وقفت أمامه حائرا‏,‏ كان يرنو لعيني مباشرة‏.‏ بعد لحظات رأيته يضع يده في جيب جلبابه السوداني المميز‏,‏ ثم يخرج ببطء التمثال الذي أعدته إليه منذ أيام‏.‏ مد ذراعه إلي وبسط كفه لي‏,‏ بخجل وارتباك‏,‏ ذهبت للقرد الصغير والتقطته ورحت أحدق فيه ببعض الغضب في حين كان الماء المالح ينز من كل جزء في جسمي‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.