ملخص ما نُشر: يلفت نظر الراوى خبر عن بيانو فى مدرسة ببنها يُقال إنه يعزف عزفا ذاتيا متنبئا بالهزات الارتدادية فى أعقاب زلازال القاهرة عام 1992، ويهجس أن هذا البيانو هو نفسه الذى اشتراه من روسيا لشقيقه الموسيقى وطالب طب الأسنان وكان لفاطمة الجميلة من الجنوب اللبنانى التى كانت زميلة الراوى أثناء فترة دراستهما العليا هناك، وكانت تربط بينهما صداقة تطورت إلى حب متردد خلال رحلة شحن البيانو وقبيل عودة الراوى إلى مصر، وبينما يتعقب الراوى حقيقة أعجوبة البيانو المنذر بالتوابع، تستدعى ذاكرته لحظات اقتراب حميم ورهيف من فاطمة التى كانت تكبح هذا الحب لخوفها من فقرهما المشترك والفوارق الطائفية والحنين لوطنها وناسها إن ارتبطت به وعاشت معه فى مصر، رحلة فى غابة بكر، ولحظة عزف باهر وأغنية حب مشتركة، اقتراب وحذر، ثم يصل البيانو إلى مصر بدون فاطمة، ويستقر لثقله فى بئر سلم بيت الراوى بشارع ترابى بسيط، ليكتشفه الفقراء والمجاذيب وأولاد الحى، ويغدو مصدر إزعاج للراوى وشقيقه الموسيقى، ويتفقان على بيع البيانو قبل أن تدمره أيادى الأطفال والمجاذيب وعابرى السبيل. لأننى ممن يستيقظون باكرا، فقد لاحظت لعدة أيام قبل أن يرحل البيانو عن بئر السلم أن يدا ما تعبث خفيفا بمفاتيح العزف فى وقت مبكر، بين الفجر وقبل الشروق، ومن هذا العبث الخفيف كانت تتهادى معزوفة، مقطع من لحن صغير جميل لا نشاز فيه، مقطع يتكرر بدقة كأنه يُعزَف من نوتة يتقيد بها العابث أو العازف. والغريب أننى عندما كنت أطل من الشرفة بعد انقطاع العزف، لا أعثر على أحد يخرج من باب البيت. ولعدة أيام تكاسلت عن استجلاء السر. لكن فى اليوم الذى كان سيجىء فيه ونش صغير لينقل البيانو إلى ظهر سوزوكى تنقله إلى مشتريه الذى لم أكن أعرفه، وكان أخى هو الذى يعرفه، لأنه تطوع فى القيام بهذه المهمة التى كان أليق فى فهمها عنى. فى هذا اليوم، وفى الوقت ما بين الفجر وقبل الشروق، ظللت متأهبا للهبوط على الدرج بخفة قدمين فى حذاء رياضى، وما أن تناهى إلى سمعى أول العزف حتى تساحبت وهبطت سريعا وخفيفا. وفى ثوان خاطفة كنت فى عتمة بئر السلم أواجه البيانو. لم أر العازف الذى توقف لظهورى، ثم سمعت بكاء طفليا لبنت، بنت صغيرة تبينت شبحها فى العتمة، مقوسة الساقين وحافية ورجحت أنها من عيال نحمده، كانت لا تتجاوز الرابعة ولا تجيد نطق ما تريد أن تقوله، «ساسا ساسا ولَبِّنا خلاس عُنْتِس عُنْتِس تالا تالا تلالا لم»، كانت الطفلة ترتعد خوفا، وفهمت مما تنطق به أنها تقسم بربنا ألا تعود لعمل هذا ال تاراتارا تارارا رم. إذن هى التى كانت تعزف. فتحت ضلفة الباب المغلقة، فتدفق النور الذى أضاء المكان بزرقة رمادية، وأخذت أربت على البنت حتى تطمئن وتكف عن البكاء. كانت تبكى بدموع حقيقية وأنفها الصغير يمخط. ونجحت بصعوبة فى جعلها تهدأ وتمسح دموعها ومخاطها فى كمها. ثم أعدتها أمام البيانو ووضعت يديها على المفاتيح التى كانت قد أزاحت عنها الغطاء. وشجعتها أن تعزف. وعزفَت دون أن تنظر إلى المفاتيح، بل كانت تنظر نحوى غير مطمئنة لا تزال، لكنها أبدا لم تخطئ النغمة التى كانت تعزفها، هذا المقطع من اللحن الجميل المجهول الذى مكثت أسمعه لعدة أيام سابقة، فى الوقت ما بين الفجر وقبل الشروق. ومع اشتداد تدفق نور الصبح من الباب المفتوح على مصراعيه، استطعت أن أتبين حركة أصابعها الصغيرة على مفاتيح البيانو، كانت شيئا مختلفا تماما عن وجهها المبقع برغم نمنمة ملامحه، مختلف عن شعرها الملبد بالوَسَخ، مختلف عن قدميها الحافيتين وساقيها المقوستين، كانت أصابع صغيرة لطيفة، تتألق بمرونة وجمال آخاذ وهى تتنقل بسلاسة على مفاتيح البيانو. كانت أصابعها الصغيرة ترقص وهى تعزف، وفى هذه اللحظة تعرفت بوضوح على إيقاع اللحن الذى كانت تعزفه، تذكرت قصيدة فؤاد قاعود المرفرفة التى سكبها الشيخ إمام فى لحن مختلف عن كل ألحانه «الثورية»، لحن عاش معى بأدق مقاطعه، ولا يزال: أنا/ بالف/ كل حى وافوت/ من الزقا/يق المعوِّجة واخش/ فى ال/عُطُوف وبق/طع الشوا/رع الطويلة /وانحدف على ال/حرمْلِك ال/مدهون تُراب واحس/ رع/شة النهود من خلف/ باب /مردود/ مردود واطيّ/ر ال/كلام/ حمام/ حمام لمش/ربيه خلفها عيون/ عيون بتب/عت/ السلام دوم تك تك / دوم تك تك / دوم تك تك... كان فالسا واضح الإيقاع رائقا، حالة تحليق استثنائى فى مسار المغنى الضرير الذى كان يُلبِّث أقدامه بالأرض حتى لا يفقد ثبات خطاه، ولعل لحظة الطيران هذه كانت أمتع لحظات حياته الموسيقية، شيخ متمرد يغنى فالسا راقصا فوق السحب، إشراقة تجل حلت فى كيان الرجل الذى كان مؤهلا موسيقيا لهذا الحلول، فمن أين جاءت بنت نحمده التى لم تتجاوز الرابعة بمثل هذا الفالس؟ لم أجد تفسيرا إلا فى أن البيانو الذى سحرته أنامل فاطمة، تركت فيه شيئا من روحها الوثابة الحلوة، فأيقظت هذه الروح لحنا غافيا فى أطراف الأصابع المنمنمة لبنت نحمده الماخطة مقوسة الساقين وحافية الأقدام، شىء كاستدراج النسيم وأصوات الطبيعة لفرخ العصفور حتى يُطلق الأغنية المخبوءة فى صندوق شدوه البكر. وددت حينئذ لو ألغى اتفاق بيع البيانو، لكن الفرصة كانت قد أفلتت، ثم إننا كنا فى حاجة ماسة للنقود. *** الصخب الذى استُقبل به البيانو يوم هبط على شارعنا، ناظره صخب آخر يوم رحيله، لكنه لم يكن صخب رجال كبار أشداء يحاولون إثبات فتوتهم فى مواجهة جبل صغير ثقيل أسود لامع، بل كان صخب العيال والمجاذيب الذين وضح عمق ارتباطهم بالبيانو فى هذه الفترة الزمنية المحدودة التى لم تتجاوز أشهر قليلة. وقفوا مذهولين ومقبوضين بحسرة بينما البيانو يطل من باب بيتنا منزلقا على زحافات ذات عجلات تم دفعها تحت البيانو بطريقة احترافية قام بها ثلاثة رجال فقط جاءوا مع وكيل المشترى، أحدهم سائق «ونش بشوكة» جاء لتحميل البيانو، والثانى سائق سيارة سوزوكى نصف نقل جاءت لنقل البيانو إلى مستقره الجديد الذى لم أعرف عنه شيئا، وكان هناك رجل ثالث هو أقواهم بدنيا، ووضح أنه عتال متخصص فى مثل هذه الأمور. قاد العتال عملية إنزال البيانو عن عتبة باب البيت إلى أرض الشارع عبر جسر مائل من لوحى خشب سميكين بمثابة مسارين لعجلات الزحافتين اللتين كان البيانو يتحرك عليهما. وكانت زحمة عيال الشارع، وفى طليعتهم عيال نحمده بالطبع، يشهقون مع كل حركة يتحركها البيانو، بينما كان المجذوب الذى منعناه بالقوة أكثر من مرة من تحطيم مفاتيح البيانو بخبْطِه المجنون، يهذى بصوت عال متابعا بجسده كله حركة البيانو «أأ آووو عاااااا ههووووه هاااااه»...ثم انفجر يصرخ مندفعا تجاه البيانو الذى أخذ يرتفع فى الهواء محمولا على شوكتى الونش باتجاه الصندوق المفتوح للسوزوكى. واندفعنا نحوه نرده مخافة أن يهوى عليه البيانو ويسحقه. وفى هذه الدقائق شديدة البطء والحذر التى استغرقها الونش لوضع البيانو على ظهر نصف النقل، كان العيال يتحولون إلى سرب نحل هائج، يتصايحون ويدفع بعضهم بعضا ويتعاركون ويجرون حول السيارة نصف النقل. وبعد أن أغلق السائق ضُلف صندوق السيارة حيث ينتصب البيانو، راح بصعوبة شديدة يتفادى ظيطة العيال الذين كانوا يجرون أمام السيارة وحولها. وأسرع السائق فى اندفاعةٍ متهورة يخرج من شارعنا الترابى إلى الشارع الرئيسى لأن المجذوب بدأ يقذف السيارة بالطوب، ويقلده العيال، ثم طارت السيارة مبتعدة حتى اختفت باتجاه الكوبرى الجديد على النيل. همد الأولاد وتناثروا عند رأس الشارع واقتعد المجذوب إحدى عتبات البيوت هناك. وفى هذه اللحظة من السكون والفراغ المفاجئ اكتشفت ملمحا كان هناك طول الوقت ولم انتبه لمحتواه. كانت البنت التى ضبطتها تعزف الفالس العجيب بين الفجر وقبل الشروق، تقف إلى جوار مدخل بيتنا صامتة واضعة أصبعها فى فمها، وجهها ملطخ بالأوساخ، ومخاطها يطل من أنفها المنمنم ويختفى على إيقاع أنفاسها، حافية وبساقين مقوستين، تنظر نحو مدخل الشارع فى شرود، حيث أخذت السوزوكى البيانو على ظهرها واختفت، وكان واضحا أنها بالت على نفسها وهى واقفة، ودون أن تحس أو تعبأ بذلك، وغالبا منذ فترة، لأنها كانت تقف على بقعة مبتلة من التراب! *** كان يوم ثلاثاء ذلك الذى عاودت فيه توجهى إلى بنها لأضمن أن تكون المدرسة مفتوحة. ركبت القطار السريع فى التاسعة، فكنت هناك فى التاسعة والنصف، وفى الساعة العاشرة إلا خمس دقائق كنت فى مكتب مديرة المدرسة. وحتى لا أثير ريبتها حاولت تقديم نفسى بصورة محايدة ومقنعة وبعيدة عن الإعلام، وأنكرت تماما أن أكون الشخص نفسه الذى سبق الاتصال تليفونيا وحادث مُدرِّسة الموسيقى. زعمت أننى مدرس فى كلية العلوم، وأدرس فيزياء الظواهر الخارقة، وأننى قرأت ما كُتِب عن البيانو لديهم، وأريد دراسة الظاهرة إن كانت حقيقية. وطمأنتها إلى أن ذلك بحث علمى لن يطلع عليه إلا العلماء فقط. طلبت لى المديرة فنجانا من القهوة، واستدعت مُدرِّسة الموسيقى التى كانت ملامحها تعكس استعدادا وراثيا للذعر، بيضاء ولوزية العيون ونحيفة وقلقة النظرات، لم يكن ينقصها غير بيانو «مسحور» أو «مسكون» ليقف بذعرها على حافة الجنون. عرّفتها المديرة بى، وعرفتنى بها، بالصفة المزورة التى أدليت بها بالطبع، لكننى احسست أن الآنسة روزا عازورى لم تكن تصدق غير هواجسها، وهواجسها أنبأتها أننى الشخص نفسه الذى كررت الإفلات منه عبر الهاتف، لكنها كانت من الهشاشة بحيث كتمت هذا كله فى داخلها، وإن كانت نظرات ارتيابها تكشف عنه، لكنها لم تكن لتناقش أوامر المديرة: أن تذهب معى وترينى «البيانو إياه»، ورجوت المديرة أن أُترَك بعض الوقت بجوار البيانو، لعل الظاهرة الغريبة تتكرر أمامى. وبسطت المديرة كفيها مرحبة، وإن كانت ملامحها تتمنى ألا يحدث شىء، ألا يُصدِر هذا البيانو إنذاره، وألا تحدث الهزة الارتدادية التى يتنبأ بها. كانت مديرة مدرسة، وكانت حالة الذعر بين التلاميذ تضغط عليها بقلق زائد وعبء إضافى، حتى وإن كان كل شىء يمر على ما يرام. ذهبت بى روزا إلى حيث يقبع البيانو فى حجرة الموسيقى بالطابق الأرضى عند زاوية الفناء. وقرب باب الغرفة المغلق نادت « داده أم أيمن» فأقبلت الدادة التى لابد أنها هى نفسها العاملة التى ذكرتها مراسلة الجريدة، امرأة سمينة ثقيلة الخُطى ترتدى جلبابا بلون فيروزى على صدره بادج أحمر باهت باسم المدرسة. كانت تجر وراءها مقشة طويلة اليد مما يعنى أنها كانت تعمل، قالت لها روزا أن تفتح لى الغرفة وأن تفرِّجنى على البيانو وانصرفت مسرعة كأنها تفر. فاستغربت لتصرفها، لكن أم أيمن سرعان ما ازاحت استغرابى عندما نقدتها جنيها بعد أن فتحت باب الغرفة ودعتنى لدخولها «اتفضل ياسعادة البيه» ثم خفضت صوتها مقتربة منى وهى تهمس «أصل الميس روزا ماعدتش بتدخل الأوضة من يوم ما حصل اللى حصل». «وأيه اللى حصل ياام أيمن» سالتها. وكانت إجابتها «يوه هوه انت مش عارف» «وتفلت فى عبها وهى تقول بذعر مصطنع» حابس حابس... أصله البعيد مسكون.. وكشف نفسه بعد الزلزال». وفى تناقض واضح مع ما أبدته من ذعر حيال البيانو المسكون توجهت بلا ذرة من خوف إلى جسم كبير مستور بغطاء رمادى رجّحْتُ أنه البيانو. وعندما أزاحت الغطاء صدم البيانو بصرى.... كان أبيض عاجيا فلم أهتم بمعرفة ماركته، وبهر بياضه اللامع بصرى برغم عتمة الغرفة الصغيرة التى تكدست فيها الآلات الموسيقية، وشدت الدادة لى كرسى البيانو لأجلس، وهمّت بالانصراف وهى توصينى «لو اشتغل لواحده ما تخافش يابيه، دا عادى خالص واحنا خدنا على كده، اصل اللى عليه طيب، يمكن علشان خاطر العيال الصُغيَّرة». لم يكن هو بيانو فاطمة التى وضعت كل روعة مواهبها وإشراق جمالاتها وأعمق أشواقها فى سلة واحدة، سلة الرغبة الأسيانة فى الهروب من «التعتير» وتربصات الطائفية ولوعة الحينى إلى الوطن والأهل، لم يكن بيانو أصابع بنت نحمده التى تشى بموهبة خارقة يخفيها الحفا والوسخ وخيط المخاط تحت أنفها المنمنم الجميل، لم يكن البيانو الذى شد خيطا خفيا فى نسيج المجذوب حتى كان يعوى ويرتمى ويتشبث به عندما نريد إبعاده كأننا ننتزع قلبه، ولم تكن فى قلبه غير رغبة أن يهوى بكل أصابعه العشرة وثقل كفيه على مفاتيح هذا الشىء ليضج ضجيجا كأنه كان يترجع فى صدره، يشفيه من ألم غامض غائر هناك، فينشرح ويتهلل، ويغنى أغنية مجذوب مشوشة، لكنها أغنية. لم يكن بيانو «تشايكوفسكى» الأسود اللامع الذى انتقل إلى شارعنا الترابى فى صندوق له عطر غابات الشمال، وتراحم البشر، وتكاتف سواعد الشبان فى لحظة حب أخوى لابن حتتهم. لكنه كان يشبه كل ذلك، يشبه المطاوعة الخارقة لأصابع الطفلة، وضربات المجذوب، وفرح الأولاد الحفاة، فقد كان يدوِّم بخفوت أصخت له سمعى فبدا جليا فى صمت غرفة الموسيقى المدرسية الصغيرة، تدويم لحن دوّار دوران ما يعتمل فى سريرة الأرض، ويتوق للتفجُّر، للارتجاج، للاهتزاز، لإخراج طاقة محبوسة لاسبيل لانطلاقها إلا بالرقص، رقص الأرض، رقص البشر، ورقص كل الكائنات. ولم يعد عندى شك فى أن هذا المسكون، لم يكن يعزف غير رقصة الرنين المدوِّم فى السيمفونية الأربعين لموتسارت، ولحن أغنية يا أنا يا أنا لفيروز، رقصة الفالس المترنم فى أغنية الشيخ إمام، رقصة الطاحونة الدوارة فى بلاد السلاف كلها، وورقصة البوليكا النوبية، والدبكة الشامية، رقصة الدوران النشوان عند المولوية، رقصة التنانير الملونة، وربما حلقة الذكر أو العديد المصرى. فكلها تدور، دوران الأرض حول محورها، وحول الشمس، دوراننا حول أشواقنا التى لم ترتو، ولن ترتوى، لكنها تتصبر بالذكرى الطيبة لمخلوقة حقيقية مثل فاطمة، وتتجدد بمعجزة أصابع بشرية صغيرة تستخرج لحنا كاملا من المجهول، أو معجزة اصابع من العاج والأبنوس تعزف وحدها لحن طاحونة دوارة فى قلب كوكبنا الذى لايكف عن الدوران. ----------------------------- ( انتهت )