متولي: نتائجنا أمام الترجي لن تؤثر على النهائي.. ولا خلافات بين الشناوي وشوبير    النيابة تعاين موقع حريق مخزن مصنع شركة الأدوية بأسيوط الجديدة (احترق بالكامل)    أستاذ تمويل يوضح كيف تنعكس أموال "رأس الحكمة" على حياة المواطن    حماس تدعو الدول العربية لاتخاذ إجراءات تجبر الاحتلال على إنهاء الحرب    حدث في 8 ساعات| الرئيس السيسي يشارك في القمة العربية.. ومصر ترفض طلبات إسرائيلية    "زراعة النواب" تطالب بوقف إهدار المال العام وحسم ملف العمالة بوزارة الزراعة    إنطلاق المشروع القومي لتطوير مدربي المنتخبات المصرية لكرة القدم NCE    جامعة بني سويف من أفضل 400 جامعة عالميا.. والرابعة محليا    بالفيديو.. كواليس كوميدية للفنانة ياسمين عبد العزيز في حملتها الإعلانية الجديدة    بالفيديو.. نصيحة هامة من الشيخ خالد الجندي إلى الأباء والأمهات    بالفيديو.. خالد الجندي: أركان الإسلام ليست خمس    باسم سمرة يعلن انتهاء تصوير فيلم اللعب مع العيال    شي جين بينغ بمناسبة قمة البحرين: العلاقات الصينية العربية تمر بأفضل فترة في التاريخ    الهلال السعودي يراقب نجم برشلونة    وزارة الصحة: إرشادات مهمة للحماية من العدوى خلال مناسك الحج    حريق في طائرة أمريكية يجبر المسافرين على الإخلاء (فيديو)    وزيرا التعليم والأوقاف يصلان مسجد السيدة نفيسة لتشييع جثمان وزير النقل السابق - صور    قرار حكومى باعتبار مشروع نزع ملكية عقارين بشارع السبتية من أعمال المنفعة العامة    نقابة المهن الموسيقية تنعي زوجة المطرب أحمد عدوية    مترو التوفيقية القاهرة.. 5 محطات جديدة تعمل في نقل الركاب    سكاي: فونيسكا الخيار الأول لخلافة بيولي في ميلان    فانتازي يلا كورة.. الثلاثي الذهبي قبل الجولة الأخيرة في بريميرليج    لجنة مركزية لمعاينة مسطح فضاء لإنهاء إجراءات بناء فرع جامعة الأزهر الجديد في برج العرب    نائب محافظ الجيزة يتابع ميدانيا مشروعات الرصف وتركيب بلاط الإنترلوك بمدينة العياط    "الصحة" تنظم فاعلية للاحتفال باليوم العالمي لمرض التصلب المتعدد .. صور    كيف تؤثر موجات الطقس الحارة على الصحة النفسية والبدنية للفرد؟    "هُتك عرضه".. آخر تطورات واقعة تهديد طفل بمقطع فيديو في الشرقية    التموين: وصول 4 طائرات تحمل خمسة آلاف خيمة إلى أهالي قطاع غزة    هالة الشلقاني.. قصة حب عادل إمام الأولي والأخيرة    جامعة الفيوم تنظم ندوة عن بث روح الانتماء في الطلاب    شرطة الكهرباء تضبط 13 ألف قضية سرقة تيار كهربائي    15 يوما إجازة رسمية بأجر في شهر يونيو المقبل 2024.. (10 فئات محرومة منها)    السفير المصري بليبيا: معرض طرابلس الدولي منصة هامة لتسويق المنتجات المصرية    تفاصيل اجتماع وزيرا الرياضة و التخطيط لتقييم العروض المتُقدمة لإدارة مدينة مصر الدولية للألعاب الأولمبية    وكيل الصحة بالقليوبية يتابع سير العمل بمستشفى القناطر الخيرية العام    التصلب المتعدد تحت المجهر.. بروتوكولات جديدة للكشف المبكر والعلاج    إطلاق مبادرة لا للإدمان في أحياء الجيزة    قطع مياه الشرب عن 6 قرى في سمسطا ببني سويف.. تفاصيل    نجم الأهلي مهدد بالاستبعاد من منتخب مصر (تعرف على السبب)    فنانات إسبانيات يشاركن في الدورة الثانية من ملتقى «تمكين المرأة بالفن» في القاهرة    الخارجية الكورية الجنوبية تعرب عن تمنياتها بالشفاء العاجل لرئيس الوزراء السلوفاكي    هل يجوز الجمع بين الأضحية والعقيقة بنية واحدة؟.. الإفتاء توضح    ببرنامج "نُوَفّي".. مناقشات بين البنك الأوروبي ووزارة التعاون لدعم آفاق الاستثمار الخاص    بمشاركة مصر والسعودية.. 5 صور من التدريب البحري المشترك (الموج الأحمر- 7)    بدء التعاقد على الوصلات المنزلية لمشروع صرف صحي «الكولا» بسوهاج    "العربة" عرض مسرحي لفرقة القنطرة شرق بالإسماعيلية    توقيع بروتوكول تجديد التعاون بين جامعة بنها وجامعة ووهان الصينية    جولة جديدة لأتوبيس الفن الجميل بمتحف الفن الإسلامي    قرار قضائي جديد بشأن سائق أوبر المتهم بالاعتداء على سيدة التجمع    أمير عيد يؤجل انتحاره لإنقاذ جاره في «دواعي السفر»    دون إصابات.. تفاصيل نشوب حريق داخل شقة في العجوزة    الطاهري يكشف تفاصيل قمة البحرين: بدء الجلسة الرئيسية في الواحدة والنصف ظهرا    أنشيلوتي يقترب من رقم تاريخي مع ريال مدريد    «الداخلية»: ضبط 13 ألف قضية سرقة تيار كهربائي خلال 24 ساعة    أعطيت أمي هدية ثمينة هل تحق لي بعد وفاتها؟.. أمين الفتوى يوضح    محكمة العدل الدولية تستمع لطلب جنوب إفريقيا بوقف هجوم إسرائيل على رفح    نتيجة الصف الرابع الابتدائي الترم الثاني 2024 عبر بوابة التعليم الأساسي (الموعد والرابط المباشر)    نجمة أراب أيدول برواس حسين تُعلن إصابتها بالسرطان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنفاق المقاومة فى البوسنة التى انتقلت تجربتها إلى غزة
يحيى غانم يكشف ملامح النضال المشترك بين حركة حماس والمعارضة فى سراييفو
نشر في اليوم السابع يوم 22 - 01 - 2009

◄أخذونى كى أشاهد الرئيس البوسنى الراحل عزت بيجوفيتش ابن ال 70 عاما وهو يستخدم النفق للدخول والخروج إلى العالم
كان يوما من أيام شهر ديسمبر عام 2003 عندما فرغت من المهمة التى اضطرتنى إلى الخروج من البوسنة حيث كنت أقوم بتغطية الحرب هناك - إلى كرواتيا، وكان على أن أجد طريقا للعودة إلى البوسنة مرة ثانية، وهو الأمر الذى كان أقرب للمستحيل، حيث قام الصرب بإغلاق مطار سراييفو بقصف مركز من مواقعهم الحاكمة للجبال المحيطة للمطار، ناهيك عن قطعهم أغلب الطرق البرية، فى حين تكفل الجليد الكثيف بقطع الطرق القليلة الأخرى التى لا يسيطرون عليها.
جلست فى مقر إقامتى فى العاصمة الكرواتية زغرب أقلب الأفكار، وكلما أمعنت فى التفكير، كلما أحسست بأن العودة للبوسنة ميئوس منها. وفجأة دق جرس الهاتف لكى أسمع صوتا محببا لنفسى، ألا وهو صوت الشيخ عمر باشيتش، مفتى المسلمين فى جمهورية كرواتيا، الذى تعرفت لأول مرة عليه أثناء اصطحابه وزير الخارجية الكرواتى فى ذلك الوقت، شيباروفيتش فى مهمة إلى مصر بتكليف من الرئيس الكرواتى، فرانيو تودجمان إلى مصر للقاء رئيسها حسنى مبارك، كى يطلب منه الاعتراف باستقلال بلاده عن الاتحاد اليوغوسلافى. وقد بعث الرئيس الكرواتى الشيخ باشيتش فى صحبة وزير الخارجية فى بادرة تؤكد حسن العلاقات بين المسلمين فى بلاده وبين الحكومة. سمعت صوت الشيخ عمر باشيتش -الذى يتميز بالعمق- على الهاتف، وهو يهنئنى بمناسبة أظن الآن أنها كانت ليلة النصف من شعبان، ويدعونى إلى ليلة صلاة وحلقة ذكر فى المسجد الكبير بالعاصمة زغرب، وقد كان.
انتحى بى مفتى كرواتيا جانبا، حيث سألنى عن أحوالى، فقلت له إننى أرغب فى العودة إلى البوسنة، وقد تقطعت بى السبل بسبب الحصار الصربى، وهو ما دفع الرجل الذى يتحدث العربية بطلاقة حيث تلقى تعليمه الثانوى والجامعى فى سوريا - كى يهون على الأمر، قائلاً: «... لا تحزن، فإذا كنت ترغب فى ذلك حقا، فإننى قادر على إعادتك، ولكن عليك أن تقرر بشكل نهائى؛ فالرحلة لا يفوق مشاقها، سوى خطورتها...!».
لم أفهم مغزى كلمات الرجل، إلا أننى أكدت له رغبتى، وذلك قبل أن يختم قائلاً: «...على بركة الله، فلتنتظرنى غدا فى محل إقامتك الساعة 12 ظهرا...». وحاولت عبثا أن أستفهم من الرجل السبيل إلى البوسنة، إلا أن الرجل قال لى بشكل قاطع: «... لكل حادث حديث، ومن الأفضل لك ولنا ألا تعرف مقدما أى شىء عن الطريق الذى سنقطعه...!».
ظهيرة اليوم التالى، كنت أقف بباب المنزل حاملا أغراضى على ظهرى، حتى ظهرت سيارة الشيخ عمر ذات الدفع الرباعى، وبجواره جلس عملاق يرتدى السواد وحول رأسه عصابة سوداء، وتتدلى على صدره لحية كثيفة شديدة السواد، والذى عرفه لى الشيخ بكنيته وكانت ال(المدرس)، والتى ينطقونها هناك باللغة العربية.
وبالطبع، أدركت على الفور أن الكنية ليست سوى اسم حركى للرجل الذى اتضح أنه هو الآخر- يتحدث العربية الفصحى أفضل منى، وذلك بالرغم من كونه بوسنيا! كان واضحا أن الرحلة ستقتصر على هذه كاتب السطور، وذلك العملاق، بالإضافة إلى رفيق له، والسائق.
على حافة الجبل!
قبل أن أحتل مقعدى فى السيارة، انتحى بى الشيخ عمر قائلاً: «... لولا ثقتنا المطلقة فيك، ما كنا سمحنا لك بأن تذهب فى هذه الرحلة، فما ستراه خلالها لم يره سوى بعض من كبار المسئولين البوسنيين، وبعض من المقاتلين الثقاة...!».
تركنى الشيخ عمر، وأنا أتعجب من حديثه، فما هذا الذى سأطلع عليه، والذى بدا سر الأسرار؟! ومع بداية الطريق، تعرفت شيئا، فشيئا على ذلك العملاق الذى تميز بوجه ذى ملامح طفولية! فبعد دقائق استطعت أن أستشف من الحوار الدائر فى السيارة أن هذا العملاق الملقب بال (مدرس) ليس سوى أحد كبار القادة العسكريين البوسنيين المقربين من رئيس الجمهورية. أيضا، فقد استشففت من الحوار أن الرجل ليس عسكريا محترفا، إنما هو احترف القتال عقب بدء الصرب عدوانهم على البوسنة. وبمرور الوقت، علمت أن اسمه الحقيقى كاظم، وأنه كان يعمل قبل الحرب مدرسا للعلوم الشرعية فى معهد دينى فى سراييفو، وهو السبب فى اسمه الحركى (المدرس)، وأن عربيته الفصحى، يرجع الفضل فيها لجامعة الأزهر الشريف التى تلقى فيها العلوم الشرعية. وفيما بعد، كتب لى أن أتمتع بالقرب من هذه الشخصية فى فترات، أعتبرها من أخصب فترات حياتى إنسانيا ومهنيا. بعد ما يقرب من أربع ساعات، كنا قد عبرنا جانبا من الحدود الجبلية غير المأهولة التى تفصل بين جمهورية كرواتيا والبوسنة، وبدأنا نضرب فى جبال البوسنة، حيث كان الليل قد أرخى ستائره التى تكاد تظن أنها ستائر ثلجية صبغت بالسواد؛ فالرؤية تكاد تكون معدومة بسبب عدم وجود قمر، بالإضافة إلى تشبع الجو برطوبة شديدة ناجمة عن تساقط الثلوج.
كان الطريق الذى سلكه السائق الشاب وعرا وخطرا بشكل لا يصدقه عقل، حيث كان الطريق الجبلى يضيق أحيانا حتى يكاد إطارا السيارة فى الجانب الأيمن يلامسان حافة هاوية سحيقة القرار أسفل الجبل! كنت فى بعض اللحظات أشعر بشعر رأسى يكاد يقف رعبا من المشهد الرهيب، وقد ساد صمت مطبق السيارة.
لا أدرى كم من الوقت استغرقه ذلك الجزء من الرحلة، فقد بدا لى أن الوقت قد تحول إلى مخلوق مطلق يمتد بلا نهاية فى المكان. وبالرغم من أن الكثيرين قد شهدوا لكاتب السطور بقوة الأعصاب، إلا أن تلك الساعات كانت كفيلة بأن تحول ما تعودت أن أفخر به من أعصاب فولاذية إلى شظايا متناهية فى الصغر!
فجأة، توقفت السيارة وقد لاح فى الظلام أمامها أشباح تتحرك، سرعان ما طمأننى كاظم بأنهم مقاتلون بوسنيون، قائلاً: «... دقائق وتكون فى داخل سراييفو...!». سألت الرجل عن المكان الذى نحن فيه، فقال إن هذه النقطة تقع خلف جبل إيجمان الذى يحيط بالعاصمة البوسنية، وبإن السر الذى على وشك أن أطلع عليه ليس سوى نفق سرى يمتد من هذه النقطة، ويجرى تحت كل من جبل إيجمان ومدرج مطار سراييفو الواقع خلفه، ويصل إلى مشارف العاصمة البوسنية التى يسيطر عليها الجيش البوسنى.
السير تحت رواسى جبل أشم !
وقفت مذهولا أمام مدخل النفق الذى تم تمويهه بشكل يصعب رصده. وقبل أن نبدأ الرحلة، أعاد كاظم تعليماته، حيث قال: «... هذا النفق سر عسكرى مات ويموت فى سبيله الكثيرون سواء مما قاموا بإنشائه، أو يقومون بحمايته، أو ممن حاولوا إفشاء سره للصرب، وهو يعد واحدا من الشرايين القليلة جدا التى تحفظ حدا أدنى من الأوكسجين لنا فى ظل هذا الحصار الرهيب، فعبر هذا النفق نقوم بنقل السلاح للمدافعين عن سراييفو، وعبره نحاول قدر الاستطاعة تمرير بعض مواد الإغاثة والإعاشة للمحاصرين، كما أن يتنقل عبره كبار المسئولين من وإلى العاصمة. نحن نثق بك، ولذا كشفنا لك عما هو سر الأسرار، والذى لا يعلم به غالبية مسئولينا البوسنيين... هل تفهمنى...؟!». وأرفق العملاق سؤاله الأخير بنظرة، أفهمتنى المسئولية الخطيرة المترتبة على تلك الثقة المطلقة.
وبعد ذلك بأيام، كان أول لقاء لى مع المذيع اللامع ونجم محطة تليفزيون الجزيرة أحمد منصور، الذى اضطر إلى سلوك نفس هذا النفق السرى كى يصل إلى العاصمة سراييفو فى مهمة صحفية -لحساب مجلة المجتمع الكويتية التى كان يشغل منصب مدير تحريرها وألمع صحفييها فى ذلك الوقت- حيث كانت لنا سويا أيام عصيبة فى تلك المحرقة.
وقفت أمام مدخل النفق السرى، وأنا أتساءل حول كيفية نجاح المقاتلين البوسنيين فى بناء هذا النفق وسط تلك الظروف غير المواتية، وتحت حصار وقصف صربى لا يهدأ؟! النفق يبدأ بمدخل مموه بشكل جيد، بحيث يعتقد من يراه عن بعد أنه جزء طبيعى من الجبل. يرتفع سقف مدخل النفق إلى ما يقرب من 2.5 متر، ثم ينخفض إلى مترين قبل أن يبدأ فى الزحف إلى أسفل الجبل.
نظرت إلى القائد العسكرى كاظم سائلاً إياه: «... كم يبلغ طول النفق...؟!».
ابتسم المدرس وقال: «... لا تقلق، إنه لا يزيد على كيلو متر واحد...».
سألته: «... وكم يبلغ ارتفاع سقفه فى المنتصف...؟»، فرد قائلاً: «... لماذا كل هذه الأسئلة؟ أرجو ألا تكون تفكر فى أن تكتب تحقيقا عنه...!».
قلت للرجل: «... بالطبع لا، ولكننى قلق إزاء قدرتى على تحمل عبوره...».
ضحك القائد العسكرى بشدة، وهو يربت على ظهرى بقوة قائلا باللهجة المصرية: «... عيب على شاب مصرى أن يتحدث هكذا، فأنت لها بإذن الله، أنا سمعت أنك خضت تجربة الحرب، وأنك واجهت مواقف أصعب بكثير، هيا، هيا، فلا يوجد وقت نضيعه، فالمفترض أن نصل إلى سراييفو قبل الفجر...».
نظرت لذلك العملاق متشككا فى ظنه بقدرتى على عبور النفق، خاصة أن جسدى كله كان يهتز تحت وطأة كفه الهائل وهو يربت على ظهرى ضاحكا، وأنا الذى لا أعتبر نفسى صغير الحجم!
رحلة لعبور النفق
بدأت الرحلة بالنزول بشكل شبه عمودى تحت سطح الأرض، وذلك قبل أن يبدأ النفق فى الظهور أمامنا بشكل أفقى، وهو يلتوى بانحناءات بعضها حاد لدرجة أنك لا ترى ما بعد هذه الانحناءة. وبعد فترة من السير، اكتشفت أن كلام القائد العسكرى حول ارتفاع سقف النفق وعرضه، وطوله ينطبق على الجزء الأول منه فقط؛ فكلما قطعنا شوطا، اقترب سقف النفق من أرضيته وضاق عرضه، مما اضطرنا للانحناء بشدة أثناء السير. وبطول جسم النفق، تم تعليق مصابيح صغيرة للغاية يفصل بين كل منهما مسافة مترين، ولا تكاد تضىء من حولها.
إلا أن المشكلة لم تقتصر على انخفاض سقف النفق ولا ضيق عرضه، ولا صعوبة التنفس فقط، وإنما كان علينا أن نعانى من مشكلة إضافية ألا وهى القضبان الحديدية التى امتدت على الأرض، وقطع الخشب التى تثبتها فى الأرض (الفلنكات) والتى يتم وضع عربات عليها لنقل السلاح والمؤن.
أيضا، فقد كان علينا أن نكافح المياه الجوفية التى اختلطت بالتربة، فحولتها إلى مزيج طينى كان علينا أن ننتزع أقدامنا منه فى كل خطوة. بعد أن قطعنا ما يقرب من الكيلومتر، أحسست بأننى أختنق، وبأننى لا أشعر بجسدى. بدأت أتعثر فى (الفلنكات) التى تصل بين قضبى الحديد، حتى انتهى بى الحال على أرضية النفق.
وللوهلة الأولى، لم أستطع الرد على القائد العسكرى البوسنى كاظم الذى أخذ يصيح من ورائى مشجعا إياى على النهوض ومواصلة السير، مؤكدا أننا أوشكنا على الانتهاء من النفق. نظرت إلى كاظم وقد جلس إلى جوارى على أرضية النفق، ولمته على عدم إخبارى بحقيقة النفق. صمت كاظم قليلا، حيث قال: «... لقد خشيت بعد هذه الرحلة عبر الجبال أن أبوح لك بمواصفات النفق بما يدفعك للتراجع بعد كل ما اجتزناه، أنا آسف على عدم إبلاغك بالحقيقة كلها من قبل بداية الرحلة، إلا أنه كما تعلم فقد كانت التعليمات ألا أكشف لك عن سر النفق قبل أن نصل إليه، ولكن لا عليك يا صديقى، لنسترح جميعا قليلا قبل أن نستأنف المسير، فما أمامنا أصبح متساويا مع ما قطعناه، بحيث لم يعد التراجع الآن له معنى...».
وبعد ما يقرب من خمس دقائق، همّ كاظم بالنهوض، إلا أنه أشفق على، فقام بانتزاع حقيبة الظهر من على كاهلى مصرا على أن يحملها هو بدلا منى للتخفيف عنى. واستأنفنا المسير لمدة 20 دقيقة قبل أن أتوقف وأنفاسى لاهثة، وقلت له وأنا أريح ظهرى على حائط النفق: «... إلى هنا، ولن أستطيع السير، إنك تكذب على كما فعلت أول مرة، فمن الواضح أن طول النفق يزيد على 2.5 كيلومتر، فلكم أن تتركونى هنا وبعد ساعات سأستكمل أنا المسيرة وحدى...».
جعل كاظم يقسم بالله أننا أوشكنا على الانتهاء، وتحت ضغط تشجيعه استأنفت المسيرة. بعد دقائق سمعت كاظم يصيح بى قائلاً: «... أمعن النظر أمامك وسترى فتحة الخروج من النفق...». ونظرت، إلا أنه يبدو بسبب ما كنت أعانيه، لم أر شيئا مما قاله.
دقائق قليلة، وشعرت بألم فى رئتى، وذلك قبل أن أشعر براحة لم استشعرها من قبل، فقد كنا قد خرجنا بالفعل من فتحة النفق بدون أن ألحظ ذلك بفعل التعب الشديد. ارتميت على ظهرى وأنا أتأمل النجوم القليلة التى بدت ترصع سماء سراييفو، وأنا أملأ صدرى بهواء شتاء البوسنة البارد، حامدا الله على خروجى من هذا النفق الذى بدا لى كقبر. تجمع عدد من المقاتلين البوسنيين حولى أنا وكاظم يتحدثون إلينا ونحن مستلقيان على ظهرينا على الأرض، فى حين سارع البعض منهم لإحضار بعض من الماء.
نظر لى كاظم وهو يبتسم قائلاً: «... لقد كنت واثقا من أنك ستعبر النفق بالرغم من صعوبة ذلك خاصة أول مرة، فبالرغم من أننا نستخدمه طوال الوقت، إلا أنه صعب علينا نحن أيضا...». ابتسمت لكاظم وقلت له مداعبا: «... لن أسامحك...». ويبدو أنه أخذ كلامى مأخذ الجد، فبادر بالقول: «... لقد كانت تجربة مفيدة على كل الأصعدة؛ فمن ناحية أكدت لك ضرورة أن تتوقف عن التدخين، ومن ناحية أخرى، فإنها أوضحت لك بعدا جديدا من معاناتنا، ومن جهة ثالثة، فإنها ستوضح لك مدى السقوط الأخلاقى الذى وصل إليه المجتمع الدولى، عندما تعلم أن عزت بيجوفيتش رئيس الجمهورية الذى تخطى السبعين من عمره يضطر أن يسلك هذا النفق خارجا وداخلا عاصمة بلاده التى يرأسها...!!». اعتدلت على جانبى، وقلت لكاظم: «... أنت لا تنطق الصدق، فلا يمكن لشيخ تخطى السبعين أن ينجح فى عبور هذا النفق، فالأمر فوق طاقة كثير من الشباب، ناهيك عن الشيوخ...». رد كاظم - وهو يجذبنى من ذراعى لاستنهاضى - قائلاً: «... سأثبت لك صدقى قريبا...!».
بعد ذلك بأيام، وجدت كاظم يطرق باب مقر إقامتى طالبا منى الإسراع بركوب سيارته إذا كنت أرغب فى رؤية الرئيس البوسنى خارجا من النفق السرى وهو قادم من العاصمة المجرية بودابست، حيث شارك فى قمة منظمة الأمن والتعاون الأوروبى.
لقاء مع الرئيس
وعندما وصلنا النفق، وجدت عددا من المقاتلين، وثلاثة من كبار مساعدى الرئيس يتحلقون حول فتحة النفق، وقد وضعوا مقعدا أمامه. ولم تمر دقائق حتى ظهر الشيخ الذى تخطت سنوات عمره السبعين، مبهور الأنفاس لكى يتكئ على أذرع مساعديه ليجلس على المقعد. بعد دقائق التفت الرئيس مخاطبا إياى: «... هل مازلت هنا منذ أجريت ذلك الحوار معى، أم أنك رحلت ثم قدمت مرة أخرى (وكان الرئيس بيجوفيتش رحمة الله عليه يتمتع بذاكرة حديدية)...؟». رددت على الرئيس قائلاً: «... لقد رحلت، ثم عدت مرة ثانية سيادة الرئيس...». ابتسم بيجوفيتش وقال: «... أعتقد أنك مؤمن بقضيتنا، ولست مجنونا...».
قلت له إننى مؤمن ليس فقط بالقضية، ولكننى على يقين بأن الله سينصر البوسنيين، بالرغم من أن كل الظروف والقوى تبدو ضدهم، لدرجة أن يسمح المجتمع الدولى للصرب أن يجبروا رئيسا منتخبا بشكل ديمقراطى أن يدخل عاصمة بلاده بهذا الشكل! وعند هذا الحد، سمعت من بيجوفيتش هذا الرجل العظيم الذى لم يتخل عن شعبه فى أحلك الظروف ما لن أنساه ما حييت! أشار الرئيس إلى لكى أقترب منه، قبل أن يقول لى: «... وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، أنا لا أضيق من اضطرارى أن أدخل عاصمة بلادى بهذه الطريقة، فبعد كل شىء، ألا تتفق معى بأن سراييفو تلك المدينة العظيمة الشامخة، تستحق من أى شخص أن يحنى هامته لها وهو يدخلها، حتى لو كان هذا الشخص رئيس الدولة... يا بنى، انظر دائما إلى الجانب المشرق من الأشياء...». فى تلك اللحظة، شعرت بأن العالم كله يجب أن ينحنى ليس لعظمة يراها بيجوفيتش فى مدينة سراييفو، وإنما أن ينحنى لعظمة ذلك الرجل الذى آمن بقضية شعبه وبلاده، فملكت عليه روحه، فضحى، وجاهد قبل أن يكافئه الله هو وشعبه بأن
مَنّ عليهم بالنصر.
الشاهد، أننى استحضرت هذا المشهد من مشاهد تلك المذبحة التى أقيمت للشعب البوسنى على مدار ما يزيد على أربع سنوات، أثناء متابعة المحرقة التى أقامتها إسرائيل للشعب الفلسطينى المجاهد فى غزة. إلا أن نفس هذا المشهد يستحضرنى هو، كلما استمعت ورأيت أطرافا تهاجم الضحية لمحاولتها رفع سكين الاحتلال والحصار، وأخيرا العدوان عن رقبة شعب بأسره، تماما كما خبرت نفس الهجوم الشرس الذى شنته أطراف عديدة على المقاومة البوسنية.
ومن واقع معايشتى للمقاومة البوسنية، فقد وقعت فى أخطاء بسبب الحصار النفسى والمعنوى والمادى الرهيب التى كانت واقعة تحته، وهو الأمر الذى قد ينسحب على المقاومة الفلسطينية فى غزة، وإن كان يجب التأكيد على أن الحرب والحصار على الأخيرة أشد فى وطأته أضعاف ما رأيته من معاناة المقاومة فى البوسنة. إلا إنه يبقى أن الحساب لا يجب، ولا يمكن أن يكون بالمشاركة فى ذبح المقاومة، سواء بالتعامل الدبلوماسى (البارد) مع العدوان، أو بمحاولة جز رقبتها من الأذن إلى الأذن بتدجينها.
البوسنة والهرسك
هى إحدى جمهوريات يوغوسلافيا السابقة. تقع فى جنوب أوروبا. يحدها من الشمال والغرب والجنوب كرواتيا، من الشرق صربيا والجبل الأسود، لها منفذ من جهة الجنوب الغربى على البحر الأدرياتيكى (تحتله كرواتيا).
تمثل البوسنة المناطق الوسطى والشرقية والغربية، أما هرسك فهى اسم منطقة حوض نهر نيريتفا، ومن الناحية السياسية فالبوسنة والهرسك كانتا فى السابق منطقتين تفصل بينهما سلسلة جبال إيفان ثم اندمجتا على يد ملك البوسنة بان كوترومانيتش (1322-1353) ومنذ ذلك الوقت ظلتا دولة واحدة، وإن كثر الكروات فى الهرسك. وبالقرب من مدينة موستار يمكن زيارة منبع نهر نيريتفا ورؤية قلعة حجرية فى أعالى الجبال كانت تعود للملك هرسك الذى سميت الأراضى التابعة له باسمه.
لمعلوماتك...
◄1994 وقعت أبشع المذابح فى آخر هذا العام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.