قوتان كبيرتان في الشرق الأوسط واحدة منهما ثبتت نفسها في موقع القيادة الإقليمية بينما تمر الأخري باضطراب ثوري خلق لها فرصة كبيرة بنفس القدر الذي يعرضها فيه لمخاطر هائلة. هذا هو حال تركيا ومصر اللتين تتجهان لتأسيس مجلس أعلي إستراتيجي بينهما. تأسيس هذا المجلس يعد أول خطوة كبيرة في مجال السياسة الخارجية تتخذها مصر في العهد الثوري, ولهذا دلالاته. فمنذ الثورة استقبلت مصر الكثير من الزائرين, وسافر رئيس وزراء مصر ووزير خارجيتها لعدة دول, وصدرت عن مسئولين مصريين تصريحات مختلفة كان لها اتجاه عام دون أن تخلو من تناقض وكان فيها نوايا لكن لم يكن فيها الكثير من الأفعال والتعهدات المحددة, وفي هذا السياق يبدو قرار تشكيل المجلس الإستراتيجي بين مصر وتركيا أبرز قرارات السياسة الخارجية المصرية في المرحلة الجديدة. للقرار من الناحية المصرية أكثر من مغزي, ففيه مؤشر علي أن مصر الجديدة لا تنظر بعين الشك إلي القوي الشرق أوسطية غير العربية بغير تمييز, كما كان الحال في مصر الناصرية التي وضعت في خانة المنافسين ومصادر التهديد كافة الدول غير العربية في الإقليم, فحذرت الدول العربية من العلاقة مع غير العرب في المنطقة, وحاولت تحصين العالم العربي ضد تدخلاتهم في شئون العرب. ومع أن مصر الناصرية نجحت في مسعاها هذا إلي حد كبير, إلا أن هذا النجاح لم يدم سوي لفترة قصيرة انتهت بهزيمة ناصر في1967, ففقدت مصر القدرة علي مواصلة القيام بدور المركز الجاذب للعرب بعيدا عن دول الجوار. ومنذ ذلك الوقت وتاريخ المنطقة هو عبارة عن عملية مستمرة من تزايد نفوذ دول الجوار الإقليمي في العالم العربي, ومن تزايد تفتت العالم العربي وتحوله إلي ساحة للتلاعب والتنافس بين دول الجوار. المجلس الأعلي الاستراتيجي بين مصر وتركيا يشير إلي إدراك نخبة صنع السياسة الخارجية المصرية لواقع الحال الذي يقضي بأن العالم العربي أصبح أكثر اندماجا في إقليم الشرق الأوسط الأوسع, وأن مصلحة مصر ومصالح دول المنطقة يمكن تحقيقها عبر التعاون بين دول الإقليم العربية وغير العربية, وأن علي الدول العربية أن تختار من بين دول الإقليم غير العربية الحلفاء المناسبين لمواجهة احتمالات الانهيار الإقليمي واسع النطاق المحدقة, ولتحييد أثر الأطراف الإقليمية المشكوك في نواياها. لقد تعاونت مصر مع تركيا كثيرا خلال السنوات الأخيرة, غير أن التعاون المصري التركي في المرحلة السابقة كان تعبيرا عن الضرورات المترتبة علي تغير موازين القوي أكثر منه انعكاس لقرار إستراتيجي بعيد المدي بتطوير وتعميق علاقات التعاون بين البلدين. يشهد علي هذا القدر من الغيرة والتنافس الذي تم التعبير عنه في أكثر من مناسبة وبأكثر من طريقة, كما يشهد عليه الشعور بالضيق والحرج من تزايد مكانة تركيا في المنطقة, ونظرة الإعجاب والتقدير التي تمتعت بها تركيا ورئيس وزرائها أردوغان بين مصريين وعرب اعتادوا توجيه التقدير والإعجاب لمصر وقيادتها, وكذلك الحديث المتزايد عن النموذج التركي بعد أن كانت مصر هي النموذج الأوحد لشعوب المنطقة لعقود. تحررت مصر الجديدة من هذه العقدة, ولم تعد النخب المصرية المؤثرة في صنع القرار تشعر بالذنب والحرج إزاء تراجع مصر وصعود آخرين, ولم يعد لدي مصر ما يعوق تعميق تعاونها مع تركيا دون تحفظات, خاصة وأن الدور التركي المتزايد في المنطقة يتوافق من الناحية الموضوعية مع المصالح الوطنية لمصر. فتركيا تسعي للعب دور رئيس في المنطقة, وهو الدور الذي يؤهلها للقيام به موقعها وحجمها السكاني وإنجازها الاقتصادي والسياسي. ويميز تركيا في السعي لتعزيز دورها ومكانتها الإقليمية الحرص علي تجنب الدخول في صراعات حول النفوذ الإقليمي مع قوي الإقليم الأخري, وسعيها للتعاون مع القوي الإقليمية الأخري وفقا لما يسميه وزير الخارجية التركي بمبدأ صفر صراعات. ورغم أن تركيا لن يكون بإمكانها تجنب التورط في الصراعات بشكل كامل, فحالة الشرق الأوسط حبلي بصراعات تعبر الحدود وتلقي بأثقالها علي أبواب كافة دول الإقليم رغم إرادتها. في نفس الوقت فإن زيادة الدور التركي قد يأتي خصما من دور آخرين حتي لو لم تسع أنقرة إلي ذلك, الأمر الذي قد يكون سببا في الصراع في إطار لعبة توازن القوي القديمة قدم المجتمع البشري. غير أن السمة البارزة للسياسة التركية هي سعي أنقرة لزيادة دورها الإقليم عن طريق إتباع قواعد جديدة مختلفة لقواعد مباراة توازن القوي الصفرية التي سادت الشرق الأوسط منذ تشكله. فالسياسة التركية الراهنة تلتزم قواعد التنافس الدولي السلمي القائم علي الاعتدال والتنافس القائم علي الإنجاز الاقتصادي والسياسي, والتي تحرص علي وضع سياستها الخارجية علي أسس أخلاقية ومبدئية مقبولة من الجيران. غير أن كل هذا قد لا يكفي للتأسيس لدور إقليمي قيادي مقبول, اللهم إلا إذا كان هذا الدور مرتبط بتحقيق مصالح الجيران وشركاء الإقليم, وهو ما تحرص تركيا علي تحقيقه. فالاقتصاد التركي الذي يعد الأكبر والأحدث والأسرع نموا في المنطقة بات يمثل قاطرة للنمو في عدد من البلدان التي تعتمد علي التجارة مع تركيا لتنشيط اقتصادها, وعلي مساهمة استثمارات تركية في نمو الاقتصاد وخلق فرص عمل, حتي أن الاقتصاد التركي يمكن أن يلعب في الشرق الأوسط دور مشابه للدور الذي لعبه الاقتصاد الياباني ثم الصيني في آسيا, والذي سبق للاقتصاد الألماني أن لعبه في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. تركيا بهذا المعني هي قوة اعتدال إقليمي, لها تصورات لا تسعي لفرضها علي أحد, ولها مصالح تجتهد لتجعلها متكاملة مع مصالح الآخرين, وفي منطقة يعز فيها الاستقرار, فإن تركيا تصبح حليفا مرغوبا, وهو ما عبرت عنه مصر في اتجاهها لتأسيس مجلس للحوار الاستراتيجي مع تركيا. بالإضافة إلي المصالح الاقتصادية التي يمكن لمصر أن تجنيها من علاقات تعاون وثيق مع تركيا, فإن تعاون البلدين فيما يخص الصراع العربي-الإسرائيلي يمكن له أن يوفر قوة دفع تحقق تقدم في الاتجاه السليم, فمصر لاعب رئيس في هذا الملف, ولا يستطيع أحد أن ينزع منها ذلك, لكن تركيا أصبحت لاعبا مهما أيضا في هذا المجال بسبب القبول الذي تتمتع به لدي أطراف الانقسام الفلسطيني, وبسبب دورها المحتمل في تقرير مسار الأمور ومصيرها في سوريا. وبينما تحتفظ تركيا بعلاقات مع إسرائيل, فإن علاقاتها معها تعرضت للتوتر دون قطيعة, الأمر الذي يخلق تشابها موضوعيا بين السياستين المصرية والتركية في هذا الخصوص رغم الاختلافات الناتجة عن الوضع الجيو-إستراتيجي للبلدين. التعاون المصري الوثيق مع تركيا أمر مهم لتعزيز موقع مصر في علاقاتها بأطراف إقليمية أخري لديها مواقف ملتبسة إزاء ما يحدث في مصر منذ الثورة. فحلفاء مصر التقليديين في الخليج محشورون بين الخوف علي مصر والخوف منها, فمصر المضطربة وغير المستقرة تقلق أهل الخليج وآخرين اعتادوا الاستناد إلي مصر في تعزيز أمنهم واستقرارهم, لكن مصر الديمقراطية المزدهرة تثير مخاوف البعض في الخليج وخارجه, لما قد يسببه ذلك من ضغوط علي نظم الحكم هناك. وكانت المخاوف الخليجية إزاء مصر قد تزايدت بسبب تصريحات وزير الخارجية السابق الدكتور نبيل العربي بشأن استعادة العلاقات بين مصر وإيران في وقت كانت فيه العلاقات بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي تمر بواحدة من أسوأ أزماتها بسبب تورط إيران في التدخل في الشئون الداخلية لبلاد خليجية, خاصة البحرين التي كانت تمر بأزمة كادت تطيح بنظام الحكم وبالتوازنات الطائفية في البلد الواقع علي التخوم العربية-الفارسية والسنية-الشيعية. وقد نجحت الجهود المصرية في احتواء الأزمة, الأمر الذي ساهم في دفع علاقات مصر بالخليج خطوة للأمام, إلا أن تدعيم العلاقات المصرية التركية, وتأسيس مجلس للحوار الاستراتيجي بين مصر وتركيا يقدم دليلا أكثر وضوحا علي طبيعة التزامات مصر الإقليمية في المرحلة المقبلة, وأنه إذا كان لمصر أن تختار شريكا إقليميا من بين إيران وتركيا, فإنها تختار تركيا الموثوق في اعتدالها والتزاماتها.