الإسلام هو الحلقة الأخيرة في منظومة الدين الإلهي الذي بشر به كل الأنبياء والمرسلين من آدم وحتي محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ومن يتأمل آيات القرآن الكريم يعلم أن الإسلام ليس هو تحديدا الرسالة التي نزلت علي محمد صلي الله عليه وسلم, وإنما هو الاسم الجامع لكل الرسالات التي حملها الأنبياء علي اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم.. ولذلك كان من الطبيعي ان يوصف الأنبياء السابقون علي محمد صلي الله عليه وسلم, بأنهم: مسلمون وأن يطلق علي كل من: نوح وإبراهيم وعيسي اسم: مسلم, كما أطلق علي محمد نفس الاسم بسواء. ويكفي ان نقرأ في القرآن الآيات:331,231,128 من سورة البقرة, والآية25 من سورة آل عمران, والآيتين48 من سورة يونس, والآية:19 من سورة النمل لنتأكد من ان هذه الاسماء المتألقة في لوحة النبوة يصفهم القرآن: بوصف مسلمين. هذا الدين المشترك بين المسلمين وغيرهم من الأمم السابقة عليهم هو: التوحيد المطلق, والتصديق برسل الله, وكتبه. ولاينبغي أن نفهم من اشتراك الرسالات الإلهية في دين واحد, أنها تشترك في شريعة واحدة كذلك.... فالدين مضمون ثابت في كل رسالة لايتعدد ولايختلف, وذلك لأنه يتعلق بحقائق الوجود الكلية الثابتة التي لاتتغير. بينما تختلف الشريعة وتتعدد بين رسالة ورسالة أخري من رسالات السماء, ونعني بالدين هنا: البيان الإلهي المتعلق بالأصول العامة المشتركة بين الرسالات الإلهية, مثل العقيدة والأخلاق والعبادات. أما الشريعة فهي القوانين الإلهية التي تنظم حياة المؤمنين وتصرفاتهم الاجتماعية التي تتغير من زمان لزمان ومن مكان لآخر.وإذا كان أمر الدين واحدا في فلسفة الإسلام, فإن الشريعة ليست كذلك, إنها تختلف باختلاف الناس وبيئاتهم وأزمانهم وأماكنهم وأحوالهم. ومن هنا أكد القرآن علي اختلاف الشرائع بين المؤمنين:( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة){ المائدة/84}. ونحن نلاحظ انه بالرغم من اختلاف الشرائع بين جماعات المؤمنين, فإن وحدة الدين تنشيء من علاقات المودة مايشبه صلة الرحم, التي تربط بين المؤمنين جميعا حيثما كانوا وكيفما كانت شرائعهم ورسالاتهم. وهذا هو واقع العالم الإسلامي الذي استوعب جميع أديان العالم المعروف, حيث التقي في محيطه الغربي بالأديان الإبراهيمية: اليهودية والمسيحية, والتقي في محيطه الشرقي بالهندوسية والبوذية, وقدم للتاريخ نماذج مضيئة للترابط الإنساني الذي ينبع من الأخوة الإنسانية الممزوجة بأخوة الإيمان, بل هذه هي تجربتي الشخصية في صعيد مصر, حيث عشنا كمسلمين قرونا متطاولة جنبا الي جنب مع إخواننا المسيحيين الأقباط. ذا ماتقدمنا خطوة أخري في بيان علاقة الإسلام بالأديان وجدنا أن هذه الوحدة العضوية لم تتوقف عند حدود الدين الجوهرية: عقيدة وعبادة وأخلاقا, بل امتدت لتشمل علاقة نبي الإسلام بالأنبياء السابقين, وعلاقة القرآن بالكتب السماوية السابقة, فنبي الإسلام يصدق إخوانه الانبياء, ويؤمن بهم, ويتمم مابدؤوه من دعوة الناس إلي الله.. ويقرأ المسلمون في هذا المعني قرآنا يتلي علي مسامعهم صباح مساء:( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير){ البقرة/285}. وقد صور محمد صلي الله عليه وسلم, هذه الوحدة العضوية التي تجمع بينه وبين إخوته من الأنبياء والمرسلين عبر التاريخ, في كلام جميل رائع يقول فيه: أنا أولي الناس بعيسي ابن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لعلات, أمهاتهم شتي ودينهم واحد أي: أن الأنبياء يشبهون إخوة من أب واحد وأمهات شتي, والأب الواحد هو الدين الذي يجمعهم جميعا, والأمهات التي تفرقهم هي الأزمنة والأمكنة التي يختلف بها نبي عن نبي, ورسول عن رسول. والشيء نفسه يقال عن القرآن الكريم: إنه يصدق الكتب السماوية في صورتها الأولي التي لم تبتعد فيها عن منبعها الإلهي. ونحن نتعلم من القرآن أن الإنجيل مصدق ومؤيد للتوراة, وأن القرآن مصدق ومؤيد للإنجيل وللتوراة, ولكل ماسبقه من الكتب السماوية:( نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل. من قبل هدي الناس) آل عمران سماحة الإسلام مع الأديان إن دينا تتأسس فلسفته في علاقته بالرسالات الإلهية الأخري علي هذه الوحدة العضوية التي بيناها في الفقرات السابقة, ومن خلال نصوص صريحة لامجال فيها لغموض او خفاء, لابد وأن ينشيء حضارة سمحة ومنفتحة علي الحضارات الأخري تتعامل معها من منطلق التعارف والتكامل وليس من منطلق الصراع أو الإقصاء. ولو رحنا ندلل علي هذه الفرضية فإن وقت الكلمة لايتسع لتفصيل القول في ذلك ولكن اكتفي بتسجيل الحقائق التالية: يقرر القرآن الذي يحفظه كثير من المسلمين عن ظهر قلب أن الله لو شاء أن يجعل الناس علي دين واحد وعقيدة واحدة ولون واحد ولغة واحدة لفعل, لكنه لم يشأ ذلك, وشاء بدلا منه ان يخلقهم مختلفين في أديانهم وعقائدهم وألوانهم ولغتهم, وأن يستمر هذا الاختلاف إلي آخر لحظة في عمر هذا الكون:( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) هود/.811 ويترتب علي هذا الاختلاف الذي أراده الله للناس ان تختلف الأديان والعقائد, وتبقي مختلفة إلي ان يرث الله الأرض ومن عليها. ويمكن أن نقول: إن اختلاف العقائد واستمرارها حقيقة قرآنية وكونية معا, ومن هذا المنطلق لايمكن للمسلم ان يتصور اجتماع البشرية كلها علي عقيدة واحدة او دين واحد, ولا أن يتصور تحويل الناس إلي دين واحد, حتي لو كان هذا الدين هو: الإسلام, وما دام الأمر كذلك فإن العلاقة بين المسلم وغير المسلم هي علاقة التعارف, وهذا ماحدده القرآن في نص صريح واضح يقول:( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ان الله عليم خبير) الحجرات/.31 استعراض تاريخ الحضارة الإسلامية يبرهن علي التزام هذه الحضارة بالأصول القرآنية, التي تحدثنا عنها, مع الأديان والحضارات والشعوب التي انفتحت عليها, ولا نستطيع بطبيعة الحال ان نتقصي تاريخ الحضارة الإسلامية في هذا المجال.. ولكن نركز فقط, وفي إيجاز شديد علي تاريخ الإسلام وسماحته مع المسيحية رسالة ورسولا وأتباعا. فالقرآن فيه حديث جميل عن سيدنا عيسي عليه السلام وعن أمه مريم العذراء عليها السلام.. وفيه سورة مريم, وفيه سورة أخري تسمي سورة الروم وهم المسيحيون الشرقيون الذين كانوا يتاخمون حدود الدولة الإسلامية, ويشكلون الجار الأقرب للمسلمين.. وهنا يحدثنا التاريخ ان الفرس الوثنيين حين هزموا الروم المسيحيين, سخر الوثنيون العرب من المسلمين وعيروهم بهزيمة الروم.. ولما شكا المسلمون أمرهم الي النبي صلي الله عليه وسلم, نزل وعد الله بأن الروم سيغلبون الفرس في بضع سنوات قلائل, وأن المؤمنين من مسلمين ومسيحيين سيفرحون بنصر الله.. وهنا نقرأ قول الله تعالي:( غلبت الروم. في أدني الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الامر من قبل ومن بعد. ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وعد الله لايخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون){ الروم/2 6}. وقد صدق وعد الله, وفرح المسلمون لانتصار الروم المسيحيين.. ويلفت النظر في هذه الآيات أن القرآن ذكر كلمة المؤمنون عنوانا جامعا ينطبق علي المسلمين وعلي الروم.. وهذا العنوان هو وحدة الدين التي تحدثنا عنها من قبل, والتي كادت تجعل من الفريقين امة واحدة في مقابل أمة الوثنية والشرك.. وسورة الروم هذه من السور المتقدمة جدا في نزول القرآن, مما يعني أن علاقة الأخوة بين المسلمين والمسيحيين علاقة مقررة منذ السنوات الأولي من تاريخ المسلمين, وأنها استمرت حتي السنوات الاخيرة في عصر الرسالة المحمدية, حيث نقرأ في سورة المائدة خطابا من الله لرسوله يقول فيه( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لايستكبرون) المائدة/.28 وما قلناه عن موقف الإسلام من المسيحية ينطبق بالقدر نفسه علي اليهودية التي انفتح عليها الإسلام في المدينة,ووجد فيها أوجه شبه عديدة بينها وبينه في مفهوم التوحيد ومفهوم الشريعة وتغنينا صحيفة المدينة, أو وثيقة المدينة التاريخية عن الاستفاضة في بيان صلة الإسلام باليهودية, ويكفي أن أشير الي احدي فقرات هذه الوثيقة التي تنص علي ان اليهود أمة من المؤمنين: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم, وعلي اليهود نفقتهم وعلي المسلمين نفقتهم كدليل علي أن الإسلام يوفر حرية اختلاف الدين, وحرية الاستقلال الاقتصادي للآخرين من منطلق الأخوة في الأديان. المزيد من مقالات د.احمدالطيب