أطلت الفتنة الطائفية بوجهها القبيح علي أرض الأزهر الشريف والتي لم تعرف التمييز الديني بين أبنائها منذ الفتح الإسلامي لمصر, فالوحدة الوطنية تزامنت مع بداية الفتح الإسلامي لمصر وكشفت عن أصالة البعد الديني بين المصريين الذين كانوا يعانون من اضطهاد الرومان وعلي مر التاريخ عاش أبناء الوطن الواحد متحابين واختلطت دماؤهم في الدفاع عن تراب هذا الوطن ضد العدو الخارجي. فمصر التي يتعانق علي أرضها الهلال والصليب تحت لواء الوحدة والمواطنة أصبحت اليوم تنزف دما بسبب الأحداث التي يفتعلها الجهلاء من المسلمين والمسيحيين, فشائعة تنطلق هنا أو هناك تمس طرفا مسلما وآخر مسيحيا أصبحت شرارة توقد نار الفتنة التي تكاد تعصف بأمن واستقرار الوطن في مشهد غريب, لأن الإسلام والمسيحية منذ قرون يتعانقان علي أرض مصر ولا يتصارعان, فهل غاب دور العلماء ورجال الدين من الطرفين ؟ وما هي الضوابط التي تحول دون تكرار تلك الجرائم ؟, ولماذا غاب صوت العقل أمام تلك الخلافات ؟!.. الإسلام يكفل حرية العقيدة الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية يقول: إن الدين الإسلامي لا يجبر أحدا علي الدخول فيه وهذا واضح في قول الله عز وجل لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي, وبذلك فإن الإسلام يحترم حرية العقيدة ويحرص علي عدم التعرض لمن يخالفنا في العقيدة, والإسلام يهدف من ذلك إلي أن تكون عقيدة الإنسان راسخة لا تتزعزع, ولذلك يعطي الحرية الكاملة للناس في اعتناق الدين الذي يوافق رغباتهم, فهو يقوم علي الاقتناع والإيمان عن يقين ولا يجبر أحدا أو يكرهه علي أن يعتنقه لأنه لا بديل عن الحرية الكاملة حتي تتأصل العقيدة في النفوس ويستقر الإيمان في القلوب, لأن الإيمان الحق يصنع المجتمع القوي الصحيح الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج, وعلي كل مسلم أن يرعي ذلك ويعمل به. والرسول الكريم صلي الله عليه وسلم وجهه ربه لأن يترك الناس علي حريتهم الشخصية في الإيمان والاعتقاد وذلك في قول الله تعالي أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين والحكمة من ذلك أن يستقر الإيمان عن يقين في القلوب فتتحقق الأخلاق الحميدة ويبني المجتمع الذي تحكمه الأخلاق وتوجهه المثل العليا فيعيش المجتمع قوي البنيان متماسك اللبنات وكل أفراده يتعاونون علي الخير, كما أن الحق سبحانه وتعالي قال ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن, وقد وضح القرآن الكريم أن الأقباط هم أقرب الناس إلي المسلمين فقال تعالي ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري, كما أنه صلي الله عليه وسلم أوصي وصاية خاصة بأقباط مصر فقال ستفتح لكم مصر من بعدي فاستوصوا بأهلها خيرا, ومن كل هذا يتضح لنا أن حسن معاملة أصحاب الديانات الأخري من الواجبات الشرعية في الإسلام, وحتي نتغلب علي أصوات الفتنة التي تظهر بين الحين والآخر فعلينا جميعا مسلمين وأقباطا أن نحكم صوت العقل لأن كل الأديان تحض علي السلام والرحمة والبر. وثيقة المدينة وأول وحدة في التاريخ ويضيف الشيخ محمود عاشور أن الرسول صلي الله عليه وسلم عندما هاجر من مكةالمكرمة للمدينة المنورة كان أول شيء فعله أن بني المسجد وقام بالإخاء بين الأوس والخزرج, ثم قام صلي الله عليه وسلم بإقامة أول وحدة وطنية في التاريخ وتمت تلك الوحدة بميثاق المدينة الذي عاهد فيه اليهود أن لهم ما للمسلمين من حقوق وعليهم ما علي المسلمين من التزامات وقد كفل لهم الإسلام كل حقوقهم, وأيضا عندما استقبل وفد نصاري نجران وأقامهم في مسجد قباء وأمرهم بأن يؤدوا صلواتهم وطلب من سيدنا عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف أن يقوما برعايتهم وخدمتهم, وحين استقبلهم الرسول صلي الله عليه وسلم قالوا له لا نريد الدخول في الإسلام فقال لهم لكم ذلك, ونحن علينا أن نفعل ما فعله رسول الله لأنه صلي الله عليه وسلم قدوتنا وهذا أيضا من قول الله عز وجل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة, وعلي ذلك فالمسلم مطالب بالالتزام بسنة رسول الله في التعامل مع أصحاب الديانات الأخري. حماية دور العبادة واجبة وعن ضرورة حماية دور عبادة غير المسلمين يقول الدكتور محمد الدسوقي أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دارالعلوم جامعة القاهرة إن تعاليم الإسلام واضحة في ذلك, فقد أمر بحماية دور العبادة لغير المسلمين وبخاصة أهل الكتاب من اليهود والنصاري لأنهم أتباع ديانات سماوية نؤمن بها, ونؤمن بالكتب التي أنزلت علي رسلهم, والمسلمون مطالبون بحماية دور العبادة لغيرالمسلمين كما يحمون المساجد ويدافعون عنها, وأهل الكتاب في المجتمع الإسلامي لهم كافة الحقوق ولهم الحرية في أداء العبادات الخاصة بهم, والتاريخ الإسلامي شاهد علي ذلك, فعندما طلب البعض من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يصلي في كنيسة عندما فتح القدس, رفض عمر وخشي أن يقول الناس لقد صلي عمر في هذا المكان فهو لنا ويتم هدم الكنيسة وهذه كانت أخلاق صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم, والمشكلة التي نعاني منها في واقعنا المعاصر تحتاج لأسلوب لا يعرف اللين في معاقبة كل من يرتكب الجرائم الطائفية, كما أنه لابد من قانون يحرم التظاهر أمام دور العبادة, لأن هناك أيادي خفية تريد العبث في هذه القضايا المرتبطة بأمن واستقرار الوطن, ويجب علي كل مسلم أن يعرف أنه عندما يتعرض لدور العبادة لغير المسلمين فإنه بذلك قد عصي الله عز وجل, لأن الحق سبحانه وتعالي قال في كتابه الحكيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين, وإذا كان الإسلام يحفظ حرية العقيدة فإنه كذلك يأمر ويحث علي عدم التعرض لدور العبادة, والرسول صلي الله عليه وسلم قد نهي عن التعرض لأهل الكتاب فقال في الحديث الشريف من آذي ذميا فأنا حجيجه يوم القيامة وأيضا ينصح الإسلام بحسن الكلمة وعدم التجريح فقال تعالي ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم. المصالح العامة مقدمة علي الخاصة من جانبه يشير الدكتور محمد الشحات الجندي الأمين العام للمجلس الأعلي للشئون الإسلامية إلي أن أبناء الوطن باختلاف عقائدهم عاشوا علي المقولة التي وحدت الشعب المصري وهي الدين لله والوطن للجميع, وهذا يستلزم أن نترجم تلك المعاني لواقع ملموس ولا نردد تلك العبارات فقط ونعيش علي أقاويل كانت تنفذ في الماضي فعاش المجتمع في سكينة, والدين الإسلامي يدعو للتعايش السلمي وقبول الآخر واحترام العقائد, والمسيحية تدعو لنفس القيم والمبادئ الراقية التي من شأنها أن تحفظ العلاقة بين المسلم والمسيحي في كل مجالات الحياة لكن ما نشاهده اليوم يتمثل في انتهاك للحرمات وسوء الظن وانتشار الشائعات وغياب الشفافية في التعامل, كل ذلك لأن المصلحة العامة للوطن أصبحت غائبة عن عقول الناس من الطرفين, وعلينا أن ندرك قول الله تعالي واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة, فالفتنة التي نشاهدها اليوم تنتقل من مكان لآخر في ربوع الوطن قد تقضي علي الأخضر واليابس. والوطن في الوقت الحالي في حاجة شديدة لجهود كل أبنائه مسلمين ومسيحيين حتي ينهض من جديد, وهذا يؤكد أن كل أبناء الوطن من ذوي الإنتماءات الدينية المختلفة يتسع الوطن لهم ويحتاج لجهودهم, وعليهم مراعاة المصالح العامة للوطن بغض النظر عن اختلاف العقيدة وأن تكون بينهم علاقة متوازنة تراعي واجبات الانتماء الوطني, وعلي الجماعة الوطنية في عمومها وبكل مكوناتها من ذوي الانتماءات الدينية المختلفة ومن ذوي الطبقات والحرف والمذاهب المتنوعة أن تراعي المصالح العليا للوطن وتحفظ الأمن والعلاقة المتوازنة بين عناصرها وأن تراعي واجبات الانتماء الوطني, وأولها بالنسبة لذوي الأديان والمذاهب المتعددة النزول علي مقتضيات المساواة الكاملة والمشاركة في كل الحظوظ التي يوفرها الوطن لأبنائه جميعا علي اختلاف أديانهم وأن تكون المساواة كاملة في الفرص المتعلقة بالتعليم والعمل والمناصب الحكومية وغيرها. الأخوة في الوطن واقع نعيشه أما الشيخ شوقي عبد اللطيف وكيل أول وزارة الأوقاف فيقول: إن ما يحدث علي أرض مصر غريب علي أهلها, فالإسلام والمسيحية يتعانقان ولا يتصارعان, فسماحة الإسلام تأمرنا بمودة المسيحيين وتؤكد أنهم أقرب لنا مودة, والمسيحية تعانق الإسلام وقد بشر المسيح بظهور نبي آخر الزمان, وما حدث في الحبشة دليل علي تعانق المسيحية والإسلام فقد أكرم النجاشي المهاجرين الأوائل من المسلمين علي أرض الحبشة واعتني بهم وساندهم بعد أن سمع تعاليم الإسلام من خلال دستوره الخالد وهو القرآن الكريم, وحديث القرآن عن السيدة مريم العذراء والسيد المسيح, وقد أكد النجاشي هذه الحقيقة التي يجب أن ننشدها وأن نستضئ بنورها فقال: إن الذي جاء به عيسي ومحمد ليخرج من مشكاة واحدة, فالوحدة المصرية نعيشها منذ القدم واقعا ونمارسها فعلا يوميا, فالمسلمون والمسيحيون في مصر صف واحد علي مر التاريخ, وبداية الوحدة الوطنية تزامنت مع بداية فتح مصر وكشفت عن أصالة البعد الديني بين المصريين الذين كانوا يعانون من اضطهاد الرومان لعقيدتهم المسيحية, كما أن القرآن الكريم يوصي بالتعايش السلمي مع الآخر فقال تعالي قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون, وقد وضح القرآن الكريم أن الأقباط هم أقرب الناس إلي المسلمين فقال تعالي ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري, كما أن الرسول صلي الله عليه وسلم أوصي بحسن التعامل مع أصحاب الديانات الأخري فقال صلي الله عليه وسلم في الحديث الشريف من أذي ذميا فأنا حجيجه يوم القيامة, كما أنه صلي الله عليه وسلم أوصي وصاية خاصة بأقباط مصر فقال ستفتح لكم مصر من بعدي فاستوصوا بأهلها خيرا مواجهة الفتنة ضرورة وعن ضرورة التصدي للفتنة الطائفية يقول الدكتورالأحمدي أبو النور وزير الأوقاف الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية: إن ما يحدث اليوم علي أرض مصر من انتشار الفتنة يستلزم القيام بإجراءات شديدة وحازمة وحاسمة لمنع انزلاق الوطن في دائرة يصعب الخروج منها, فلا يعقل أن تقوم الجهات المسئولة بمحاصرة كل تلك المشاكل في فترة واحدة, وبالتالي لا بد من التكاتف الشعبي والعمل يدا واحدة لوقف كل من تسول له نفسه أن يهدد استقرار الوطن, ومواجهة الفتنة الطائفية يستلزم أن نحدد جذورالمشكلة, فالأقباط والمسلمون يعيشون معا منذ قديم الزمان, وكانت هناك بعض الأزمات في العلاقة لكنها كانت طارئة وكانت تجد العقلاء الذين يتدخلون ويحسمون الأمور وهي في مهدها, لكن اليوم أصبحت مصر وكأنها تربة خصبة للخلاف الطائفي بين المسلمين والمسيحيين, وهذا لا يعقل في ظل الظروف الخطيرة التي يعاني منها الوطن داخليا وخارجيا, ويستلزم الأمر لحسم الأمور ووأد الفتنة اتخاذ أقصي إجراءات وأشد عقاب, لأن المساس بأمن الوطن خط أحمر, وهنا نؤكد أن العلماء ورجال الدين من الطرفين قام كل منهم بدوره, لكن هناك أشياء غير مفهومة في إثارة كل هذا الكم من المشاكل الطائفية وفي نفس الوقت وبنفس الأسباب وفي أماكن بعينها. دور العلماء والمواطن أما الشيخ أحمد ترك إمام وخطيب مسجد النور بالعباسية فيقول: إن من يقومون بمثل هذه الأحداث لا يفهمون حقيقة الإسلام أو المسيحية, فكل الديانات والشرائع السماوية تدعو للسلام, وهنا تقع مسئولية كبيرة علي علماء الدين الإسلامي ورجال الدين المسيحي في نشر تلك القيم التي جاء بها الإسلام ودعت إليها المسيحية, فلابد أن يقوم الدعاة بواجبهم من خلال المنابر وأن يتم التركيز علي قيم قبول الآخر وعدم التصارع, والسعي لنشر المودة بين الناس وتعليمهم بأمور الدين الصحيح, وكيف كان الرسول صلي الله عليه وسلم يتعامل مع من يخالفه في العقيدة, علي الجانب الآخر يجب أن يقوم رجال الدين المسيحي بدورهم في توعيه الأخوة الأقباط بكل ما حملته المسيحية من قيم التسامح والمودة. وأشار إلي أن الفضائيات والبرامج الدينية التي تقدم فيها يجب أن نواجه ما تحمله من فكر متشدد وهذا لن يكون بغير مواجهة الفكر بالفكر, والمواطن العادي مسلما كان أو مسيحيا عليه مسئولية كبيرة في التصدي لتلك الدعاوي التي تكاد تهلك الجميع وتدخل المجتمع في نفق مظلم, فعندما يسمع ما لا يعرف عليه أن يتوجه للمسجد أو للكنيسة حتي لا يفعل ما لا تحمد عقباه أو يضلله أصحاب السوء الذين يتربصون بمصر ويحاولون إشعال نار الفتنة بين أبناء المجتمع الواحد, والمؤكد أن علماء الدين الإسلامي ورجال الدين المسيحي تقع عليهم مسئولية كبيرة في التعريف بالمخاطر التي يمر بها الوطن وأهمية المشاركة والوقوف صفا واحدا لأن الكثير من القواسم المشتركة تجمع أبناء الوطن الواحد بغض النظر عن اختلاف الدين.. [email protected]