لا يستطيع أحد أن ينكر أن الفنانين والأدباء والكتاب والصحفيين والشعراء والعلماء والشيوخ هم أحد مصادر القوة لأي بلد, وهم من يطلق عليهم لقب القوة الناعمة. وهم قوة ناعمة بالفعل يستطيعون تحقيق الغلبة لبلدانهم أو ترجيح الموازين لصالحها في أي مجال من المجالات أو ساحة من الساحات دون إراقة نقطة دم واحدة أو استخدام سلاح فتاك من أي نوع وقد استطاعت هذه القوة الناعمة في مصر تعزيز موقف بلدها علي الصعيدين الداخلي والخارجي دوما وفي كل العصور علي امتداد التاريخ المصري الطويل, وقد كان صوت وأغاني أم كلثوم أو عبدالحليم أو شادية أو ألحان الموجي والقصبجي والسنباطي ومحمد عبدالوهاب أو أشعار شوقي وحافظ ورامي أو كتابات محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبدالقدوس أو ابداعات العقاد وطه حسين وهيكل وفن فاتن حمامة وسعاد حسني وعادل إمام ويحيي الفخراني وأحمد زكي.. كان كل هؤلاء وغيرهم هم بالفعل مصدر قوة وثراء لبلدهم في الخارج.. وعناصر موحدة لأمتهم في الداخل. وكان ما يميز المصريون في الأغلب الأعم هو روح تسامحية عالية تجاه رموزهم ونجومهم وقوتهم الناعمة هذه, فأم كلثوم غنت للملك فاروق وعهده ثم غنت لثورة يوليو وفي عهدي الرئيسين جمال عبدالناصر وأنور السادات, ولم يتهمها أحد في أي فترة بأنها كانت من رموز العهد البائد, وظل المبدعون المصريون يعيشون ويتنقلون بين الفترات المختلفة للحكم دونما إتهامات أو تخوين أو تجريح أو محاكم تفتيش علي نطاق واسع, وبقي في الأغلب التاريخ والجماهير هما الحكم والفيصل والميزان الحقيقي للحكم عليهم وعلي عطائهم. الأمر اختلف في السنوات الأخيرة وأصبح يزج بهذه الرموز زجا في السياسة وبشكل فج, ولم يتوقف الأمر حتي علي المعارك الداخلية في مصر مثل معركة توريث الحكم وغيرها, بل امتد نطاق مشاركتهم إلي ساحات معارك خارجية, ليس دفاعا عن مصر في وجه أعداء خارجيين, بل لتقطيع أواصر مصر العربية مع دول شقيقة, وكان النموذج الأبرز لهذا ما حدث قبل وأثناء وبعد المعركة الشهيرة مع الجزائر بسبب مباريات كرة القدم. وبعد الثورة تم تصنيف هؤلاء إلي أصدقاء للثورة أو اعداء لها, ووضعت قوائم سوداء لهؤلاء الأعداء, وتمت محاسبتهم علي نطاق واسع وطرد بعضهم عندما ذهب لزيارة ميدان التحرير الذي أصبح رمزا لهذه الثورة, وفي رأيي أنه من الواجب أن ينحي هؤلاء الفنانون وغيرهم من الرموز أنفسهم وأن ينحيهم أيضا الساسة والجماهير عن هذه المعارك الخشنة التي ليس عليهم أن يخوضوا غمارها, وأن ينأوا بأنفسهم عن كل ما يسئ لفنهم وابداعهم الذي ينبغي أن يتفرغوا له ليرتقوا به لخدمة أوطانهم وأمتهم, وأن ينأوا عن المعارك الصغيرة أو الانحياز لغير قيم الحق والعدل والجمال ولغير مطالب شعوبهم في العيش الكريم والحياة الحرة العزيزة, وساعتها سيظلون في قلوب الجماهير وفوق رؤوسها وعوامل وحدة ليس في مصر وحدها, بل لأمتنا العربية كلها من المحيط الأطلسي غربا إلي الخليج العربي شرقا.