في حالة غير مألوفة من الاجتراء علي الواقع والتاريخ, قال الدكتور صاحب المناصب الرفيعة في الجامعات الاسلامية أمام عدد لا بأس به من حملة الأقلام, ان مصر واجهت الهزيمة في معركة3791, وان أهازيج النصر لا علاقة لها بما جري علي مسرح العمليات. وعندما حاول عدد من الكتاب والصحفيين اقناعه بالتراجع أمام الحقيقة التي اعترف بها كل المسئولين العسكريين والسياسيين بإسرائيل ومعهم كل مراكز الدراسات الاستراتيجية والعسكرية في العالم, رفض باصرار, وتمسك بما قاله وزاد عليه كثيرا من الصفات القاسية والشديدة البشاعة حول الأداء والنتائج. لم ير الرجل شيئا ايجابيا في المعركة. التخطيط سيئ والقرار فاسد والأداء فوضي والنتائج كارثة. واذا كان هذا الدكتور الذي درس القانون وعمل بالأزهر قبل أن يحال إلي المعاش وبعلاقاته ومكانته العلمية والوظيفية وجد عملا مرموقا بالجامعات الاسلامية, يعيش تحت ظلال هذه الرؤية التي تتناقض والواقع, فان هناك اعلاميا شغل وظائف ذات بريق ونفوذ قال في لقاء تليفزيوني منذ أسابيع ان معركة يونيو7691, معركة وهمية, وظل يتحدث عن هذه النكبة بتسطيح بالغ ولم ينس ان يصف قادة وضباط وجنود الجيش الإسرائيلي بالجبن والتخاذل وعدم الكفاءة. وهكذا يمكن القول ان الرجلين وجهان لعملة واحدة كلاهما عجز عن رؤية الواقع وكل منهما يعيش عالمه الخاص معزولا عن التيار العام للناس. وبما أنني بحكم عملي عشت معركة أكتوبر واقتربت من صناع القرار ودوائر التخطيط والتدريب ومراحل الاستعداد وقضيت معظم أيام وليالي القتال شرق القناة, وكتبت آلاف المقالات والتحقيقات والتقارير عن العمليات الحربية, وحضرت وشاركت في عشرات الندوات والمؤتمرات التي دارت حول المعركة سواء في مصر أو بالخارج, بالاضافة إلي التأريخ للمعركة من خلال خمسة كتب أعيد طباعة معظمها أكثر من مرة, فقد أتيحت لي الفرصة لسماع وجهات نظر مختلفة حول المعركة, كان أكثرها سوءا القول بأن الحرب ليست أكثر من مسرحية جري اعدادها بدقة بمشاركة كل الاطراف الاقليمية والدولية, والأقل سوءا القول بأن مصر انتصرت خمسة أيام, وحققت إسرائيل الانتصار علي امتداد خمسة أيام, وكان هناك خمسة أيام تعادل فيها الطرفان. وقد جرت مناقشة هذه الطروحات ودحضها ولكن ما لم أتوقعه, هو القول ان مصر واجهت الهزيمة في هذا المعركة. ولم يتوقف الدكتور أمام حقائق الحرب ونتائجها ولا قدر الفرق بين يوم5 أكتوبر ويوم6 أكتوبر, أين كانت مصر في اليوم الأول, وأين أصبحت في اليوم الثاني؟ كانت ترقد في قاع هزيمة بالغة القسوة ومساء اليوم الثاني كانت تقف فوق قمة الانتصار. ولم تسمح له ملكاته ومعارفه وعلمه أن يدرك أن إسرائيل قبل السادس من أكتوبر كانت هي التي تهاجم المواقع المصرية, وتستولي عليها وتترك خلفها آلاف الضحايا من القتلي والجرحي, أما يوم السادس من أكتوبر فمصر هي التي هاجمت المواقع الإسرائيلية, واستولت عليها وتمكن رجالها من قتل وجرح وأسر الآلاف. وعندما يقرأ الدكتور صاحب المناصب الرفيعة بالجامعات الاسلامية الوثائق الأخيرة التي أفرجت عنها إسرائيل المتعلقة بمعركة أكتوبر, سيعرف أن قادة إسرائيل كلهم اعترفوا بالهزيمة, بل إن ديان طالب الحكومة بالعودة إلي حدود عام.8491 واذا كانت اسرائيل, وهي الطرف صاحب المصلحة في القول بالانتصار, تعترف طبقا للوثائق المنشورة بالهزيمة وتقر بالانتصار المصري, فهل سيجد الدكتور الوقت لمراجعة نفسه؟ أم أنه ولأسباب خاصة به سيصر علي القول بهزيمة مصر في السادس من أكتوبر؟! اما الاعلامي الذي يمثل الوجه الآخر للعملة والذي قال بأن نكبة يونيو7691 حرب وهمية, فإننا نسأله, وهل كان احتلال القوات الاسرائيلية لسيناء والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة أمرا وهميا أيضا؟ أم أن قصة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية ليست أكثر من شائعات مغرضة أطلقها العدو ورددتها من بعده الدوائر الامبريالية والصهيونية؟! ومرة أخري, ان الرجلين وجهان لعملة واحدة الأول يري الانتصار هزيمة والآخر يري الهزيمة انتصارا استنادا إلي مقولهتم الشهيرة, ان الهدف من الحرب كان اسقاط الزعيم والنظام السياسي, وبما أن الزعيم مازال باقيا وهكذا النظام, فإن هدف الحرب لم يتحقق, وبالتالي لم ينتصر العدو في حربه الوهمية. وهي نفس المقولة التي ترددت عقب هزيمة.6591 محاكاة الحرب لسنوات طويلة أشارك وأشهد الاحتفالات بانتصار أكتوبر3791, وكلها كانت تعتمد علي استضافة متحدثين من كبار القادة الذين شاركوا بكفاءتهم وتميزهم وعلمهم وخبرتهم وأدائهم الفذ في صناعة هذا الانتصار أو من الضباط والصف والجنود الذين برزوا خلال فترة الحرب. ولكن هذا العام وللمرة الأولي أشهد عملا متميزا واحتفالا مختلفا تماما فقد رأت مدارس طيبة استعادة المشهد الافتتاحي للمعركة, وأن يقوم التلاميذ الذين تتراوح أعمارهم بين6 و21 عاما بمحاكاة العمليات الحربية التي تمت أثناء اقتحام القناة والاستيلاء علي خط بارليف. وبحماسة لانظير لها, بدأ تدريب هؤلاء التلاميذ صغار السن علي أداء هذه المحاكاة وجري أعداد الملابس المختلفة ونماذج الأسلحة من بنادق ودبابات وطائرات ومدفعية بالاضافة إلي القوارب والكباري, كما تمت اقامة نماذج للساتر الترابي والمواقع الحصينة لخط بارليف ومدافع الماء وسلالم الحبال. وأمام الضيوف والمدعوين, وفي مقدمتهم اللواء عبدالمنعم سعيد الذي كان قائدا لاحد الألوية خلال فترة الحرب والآباء وأولياء الأمور وعدد من كبار المسئولين عن التعليم, بدأت المحاكاة يوم الاثنين الاول من نوفمبر. وأشهد أن الأداء كان جيدا والذي لاشك فيه أن كل من شارك أو شهد هذا العمل لن ينسي طوال حياته هذه اللحظات المفعمة بالمشاعر والحماسة خاصة والصغار يستدعون هذه اللحظات التاريخية المجيدة في تاريخ مصر. وسيلعب الخيال دورا في الحفاظ علي صورة الحرب بعد تجسيدها بهذه الصورة المدهشة. أما بالنسبة للكبار فقد انعشت المحاكاة ذاكرتهم بصورة لاتنسي وقد رأيت دموعا تنساب من بعض العيون أثناء مشاهدة مشهد ارتفاع العلم فوق مواقع العدو شرق القناة. وياللمفارقة ناس من الكبار ينكرون الانتصار, ويأتي الرد من هؤلاء الصغار العباقرة بهذه الصورة البالغة الجمال ومن ادارة مدرستهم صاحبة الخيال والقدرة علي الابتكار والتجديد وهي تستهدف شحذ ذاكرة وخيال الصغار. المزيد من مقالات عبده مباشر