يواجه النموذج الديمقراطى الذى جاءت به الولاياتالمتحدة إلى العراق تحديا كبيرا مرة بعد أخرى يكاد يدفع إلى التشكيك فى جدوى أو مدى صلاحية النظام الديمقراطى. على الطريقة الغربية لمجتمعاتنا العربية أو بالأحرى مدى جاهزية المجتمع العربى نفسه للديمقراطية، صحيح أن العبارتين مختلفتان تماما، ولكنهما تؤديان إلى نتيجة واحدة، هى ما يحدث فى العراق حاليا. فالمجتمع وتكوينه وطبيعته ومدى جاهزيته هو الذى يحدد ما إذا كانت الديمقراطية ممكنة أم مستحيلة فى دولة ما. فإذا نظرنا إلى المجتمعات الغربية العريقة فى الديمقراطية ، سنجد أن الفرد هو النواة الحقيقية والرئيسية للمجتمع، وليس الأسرة أو القبيلة أو العشيرة، بمعنى أن الصوت الانتخابى والرأى الحر يبدأ فى التكون باستقلالية تامة منذ أن يصبح المرء شابا يافعا قادرا على الانفصال عن كنف أبويه والإنفاق على نفسه وشق طريقه فى حياته بمفرده ودون مساعدة الآخرين، وبالتالى يصبح قادرا على الاختيار واتخاذ القرار فى شتى شئون حياته دون تدخل من أحد، وهو ما يجعله صوتا انتخابيا سليما ونقيا ، فيستطيع أن يتجه يمينا أو يسارا أو يبقى فى المنتصف، أو يتطرف يمينا أو يسارا، لا أحد سيناقشه فى ذلك، لا والده ولا جده ولا كبير عائلته. وأضف إلى ذلك أن ارتفاع مستوى التعليم فى معظم الدول الغربية إلى نسب تصل إلى 100% يجعل الفرد أو “الناخب” قادرا على التقييم الموضوعى للأمور عندما يتعلق الأمر بالانتخابات فى شتى مجالات حياته ، بداية من انتخاب رئيس بلديته أو رئيس مدينة أو حاكم ولايته أو إقليمه، ونهاية بانتخاب البرلمان العام للدولة التى ينتمى إليها ، ثم انتخابه لرئيس يقوده. ومن أساسيات الحياة الديمقراطية فى المجتمعات الغربية أن الأقلية لا تحكم ، ولا الأغلبية الضئيلة أيضا، وأن الأغلبية المطلقة هى التى يحق لها فقط أن تهيمن وتقرر، ولكن أيضا فى إطار احترام حقوق الأقليات، ولا يبقى أمام أى “أقلية” إلا أن تلتزم بما تقره الأغلبية، أو أن تسعى للتغيير من خلال اقتراعات سحب الثقة من الحكومة، أو الانتظار لحين قدوم انتخابات جديدة، حتى يمكنها الحديث عن وجهة نظرها أمام الناخب، الذى كما قلنا أنه ناخب حر ومستقل ويمثل نواة للمجتمع فى حد ذاته. ويحدث العكس تماما فى مجتمعاتنا العربية ، ولن نقول الإسلامية، باعتبار أن النموذج الإسلامى فيه العديد من التجارب الناجحة أو على الأقل القريبة من الحياة الديمقراطية السليمة، مثل نماذج تركيا وماليزيا وإندونيسيا، وغيرها. ففى المجتمعات العربية، تسود العائلة، وربما القبيلة بالكامل ، فتصبح العائلة أو القبيلة هما النواة الرئيسية الأولى للمجتمع وليس الفرد، بل إن إرادة الفرد تذوب تماما داخل هذا الإطار الأكبر ، فالشاب البالغ من العمر 25 عاما قد لا يملك قراره فى يده ، ويصبح صوته فى الانتخابات رهن إشارة أو إرادة كبير العائلة، سواء الأب أو الجد أو غيرهما، وربما يتوقف رأيه على قرار زعيم القبيلة أو العشيرة أو الطائفة، وهنا تتدخل هيمنة الطائفة الدينية أو العرقية بكل سهولة. والنتيجة أن الشاب لا يستطيع أن يصوت فى الانتخابات لمرشح يرى أنه الأصلح، فالقبيلة أو العشيرة أو الطائفة تتحرك ككتلة انتخابية واحدة ، فأسرة فلان تصوت لمرشح واحد يمثلها فقط ، والقبيلة “الفلانية” تصوت لمرشح القبيلة ، والشيعة يصوتون للشيعة ، وأى حديث غير ذلك عن إرادة فردية تتحول فى مجتمعات كهذه إلى “خيانة” وخروج عن الشرعية القبلية أو المجتمعية! ولهذا ، يصبح نادرا فى مجتمعاتنا العربية التى تطبق الديمقراطية ، أو على الأقل تسعى جاهدة إلى ذلك ، أن ينجح مرشح فى انتخابات ما وهو لا يمثل قبيلته أو قريته أو طائفته ، فلا يمكن أن ينجح مرشح سنى عن قرية غير سنية ، ولا يمكن أن يتفوق مرشح من قبيلة ما لا ترضى عنه القبيلة الرئيسية فى قرية أو بلدة ما. فى مجتمعاتنا العربية ، القرية تصوت ، والقومية تصوت ، والطائفة تصوت ، ولكن الفرد لا مكان له إلا فى حالات نادرة. ونظرة إلى الانتخابات الديمقراطية التي جرت في مجتمعاتنا – ومن بينها العراق – في السنوات الأخيرة تؤكد هذا المعنى ، والعراقيون أنفسهم جربوا ذلك في أكثر من مرة ، فبات الحديث يدور عن تقاسم السلطة بين الأطياف الرئيسية ، وبات طبيعيا أن يكون رئيس الدولة من هنا ، ورئيس الحكومة من هناك ، ورئيس البرلمان من الطرف الثالث ، كل ذلك وفقا لمتوالية حسابية عددية لا علاقة لها على الإطلاق بالديمقراطية. يحدث ذلك في الوقت الذي يرأس فيه الولاياتالمتحدة مثلا الآن شخص أسود رغم أن السود في المجتمع الأمريكي لا يشكلون أغلبية بين السكان ، ولو حدث أن انتخب رئيس ما في دولة عربية لا ينتمي إلى القومية الأكثر عددا لقامت حروب ومعارك وأعمال عنف لا نهاية لها ، ويحدث الشيء نفسه على المستويات الأصغر ، أي في الانتخابات العامة والمحلية ، والأمثلة كثيرة. قد تكون هناك رغبة حقيقية من المجتمعات العربية في تطبيق الديمقراطية ، وهناك محاولات جادة ، والعراق أحد الأمثلة ، رغم التحفظ على “ملابسات” مجيء الديمقراطية إلى العراق ، ولكن تبقى المشكلة الأكبر في الإجابة عن سؤال : من الذي يدير المجتمع؟ الفرد أم الأسرة أم القبيلة أم الطائفة؟ ولكن .. وعلى طريقة من فقد شيئا ثمينا في شارع مظلم فيذهب للبحث عنه في شارع آخر مضيء .. فإن هذه المشكلة يمكن حلها عن طريق حل مشكلة أخرى مرتبطة بها وهي مشكلة التعليم ، فكما سبق الذكر ، فإن ارتفاع مستوى الأمية في مجتمعاتنا العربية إلى نسب تفوق 30% في بعض الدول يمثل مشكلة حقيقية وجوهرية ، وهي نسبة لا تتيح قيام حياة ديمقراطية سليمة ، لأن رفع مستوى التعليم هو الذي من شأنه رفع قيمة الفرد في مجتمعه ويجعل منه النواة الأولى والحقيقية في مجتمعه. الخلاصة أن الديمقراطية الحقيقية في عالمنا العربي ستصبح أمرا واقعا عندما يأتي اليوم الذي يذهب فيه الناخب العربي إلى لجنة الاقتراع ليدلي بصوته لمرشح من قبيلة أخرى أو من قومية أخرى ، أو عندما يدلي بصوته لمرشح ما بناء على مواصفاته الشخصية وبرنامجه الانتخابي فقط ، لا جنسه أو لونه أو انتمائه ، أو على الأقل عندما يدلي بصوته دون تأثير من كبير العائلة أو زعيم العشيرة أو شيخ القبيلة ، ودون أن يتهمه أحد بالخيانة!