الولايات المتحدة تؤمن بالديمقراطية. ولنسلم جدلا بان ايمانها صادق الى ما لا نهاية. وهي، استمرارا لهذا الايمان، نصبت حكومة عراقية، صحيح ان بعض اعضائها لصوص وأكثريتهم نصابون وجميعهم عملاء، الا انهم، لنعترف هنا ايضا، جاءوا الى السلطة بوسائل ديمقراطية وصوّت لصالح فسادهم المعلن ثلثا الشعب العراقي، مما يجعل مقاومتهم، ومقاومة الاحتلال الذى يحميهم، عملا ارهابيا. برغم ذلك، فلو جاز ل"الديمقراطية العراقية" "وهذه ليست نكتة" ان تقطع ميلا اضافيا واحدا فقط، لتسأل الشعب العراقي، سؤالا من قبيل: هل تؤيد بقاء قوات الاحتلال لمدة عشرة دقائق بعد انتهاء التصويت؟ فان الجواب المتوقع سيكون: اخرجوهم الآن. لا نريد ان نرى وجوههم للحظة واحدة. ما حصل، هو ان الولاياتالمتحدة ونصابيها المحترفين، صمموا لانفسهم "ديمقراطية" وفازوا بها، وتركوا كل ما عداها ليقع تحت طائلة الارهاب. وهذا ما كان يفعله الرئيس العراقى السابق صدام حسين. فهو صمم لنفسه "ديمقراطية" على مقاسه، ليفوز بها، تاركا كل من عداه يذرع المنافى طولا وعرضا بحثا عن "تمويل" لفساده الخاص ولبضاعته الفاسدة. ودع عنك اسلحة الدمار التى لم يمكن العثور عليها أبدا، فان المعنى الامريكى لديمقراطيتها الراهنة فى العراق، يثبت بما لا يقبل الشك انه كانت هناك ديمقراطية مزدهرة فى عهد صدام، مما لا يستوجب الاطاحة بها ابدا. هذان النموذجان، البوشى والصدامي، للديمقراطية يقولان معا شيئا واحدا: الديمقراطية ليست صعبة ابدا. وحسب النموذج الراهن، فانه يمكن لأى مجرم او حرامى او عميل او طاغية ان يفوز بها من دون عناء، بل ومن دون ان يكون لديه مرشحين معروفين. حتى اذا ما وقفت وراءه "الديمقراطية الأولى فى العالم"، لتزكى ما فعل، فان حظه سيكون نازلا من السماء، وسيكون بوسعه ان يرتكب مثل هذه الديمقراطية الى يوم يبعثون. *** الرئيس مبارك اثبت هو الآخر، انه يعرف من اين يؤكل كتف الديمقراطية. فهو اختار السؤال المناسب، وفاز فيه. انما ليلقن معارضيه درسا لن ينسوه أبدا، وهو ان الشعب الذى تظاهروا به فى الشوارع ليس هو الشعب المصرى الذى يُعتمد عليه فى صناديق الاقتراع. هنا ايضا، ثبت ان الديمقراطية ليست صعبة. فالحزب الحاكم فى مصر اجرى تعديلا دستوريا، هزيل القيمة ومحدود الفاعلية، ولكن عمل منه قصة، حتى بدا ان الديمقراطية المصرية توشك ان تتفوق على الديمقراطية السويسرية، بميلها المفرط لاجراء الاستفتاءات. ولولا تمزيق ثياب الصحافيات امام المصورين لتعرية انتماءآتهن غير الديمقراطية، لكان بوسع الرئيس مبارك ان يمد لسانه لجميع الديمقراطيات فى العالم، بالقول "احنا اللى خرمنا التعريفة" فلا حاجة لمطالبتنا بالمزيد من الديمقراطية. ولكن هل كان بوش وصدام ومبارك بحاجة الى ديمقراطية على مقاس الحذاء؟ ألم يكن بالامكان، المضى فى المهارة السياسية ميلا أبعد، لكى تبدو العملية متوافقة مع افضل الممارسات الديمقراطية، ليحصدوا النتيجة نفسها؟ حقيقة لا زيفا، كان بوسع الرئيس العراقى السابق صدام حسين، رغم كل الاتهامات المتعلقة بدكتاتوريته، ووحشية نظامه، ان ينظم انتخابات وفقا لافضل المقاييس الغربية، ويزيد اليها بدعوة مراقبين دوليين، ويترك الاذاعة والتلفزيون لخصومه وحدهم، ويوفر لهم كل الضمانات الأمنية، ويدفع بنفسه ثمن دعايتهم الانتخابية ضده، من دون ان يقول هو كلمة واحدة، ومن ثم ليجد نفسه فى النهاية فائزا، بنسبة مريحة لكى يحكم من دون صخب أى معارضة تتهمه بالدكتاتورية. هناك آليات كثيرة يسمح تعلمها بفوز أى أحد. مجرم مثل هتلر، وغبى مثل بوش، ومنافق مثل بلير، ودعى مثل بيرلسكوني، كلهم فازوا فى انتخابات لا يعيبها عيب من الناحية التقنية ولا من الناحية الدستورية ولا حتى من الناحية الاخلاقية. وهى تسمى "لعبة" لانها لعبة فعلا، غايتها اقناع عدد اكبر من الناخبين بتسليم امورهم لهذا الحزب او ذاك، لفترة من الوقت. فاذا لم تحدث كارثة تجعل الوعود الانتخابية مجرد فضيحة تستوجب الستر "والانسحاب لتبديل الوجوه"، فان قوة الاستمرار، وخشية المجتمع الطبيعية من التغيير، تكفيان بحد ذاتهما لتوفير ارجحية لفوز اى احد ولبقاء أى حزب فى السلطة لعشرات السنوات... من دون ان يبدو على الديمقراطية، بافضل مقاييسها الغربية، أى عيب. فاذا زيد على ذلك القليل من الرشاوي، والقليل من الفساد، والقليل من شراء الضمائر، عند الضرورة، فان أى أحد، سوف يستطيع بالتأكيد ان يفوز أكثر مليون مرة مما يستحق. بالكثير من هذا "القليل" مثلا، تمكن حزب امعات مثل حزب أياد علاوي، على تفاهة تاريخه السياسى وتواضع مستواه الاخلاقي، ان يفوز بعدد أكبر من المقاعد فى البرلمان العراقي، مما استطاع الشيوعيون العراقيون، وهم حزب عريق، ويشهد الله انهم على سطحيتهم السياسية وضيق افقهم العقائدي، أكثر نزاهة من كل اولئك الذين جاءوا، بمعيتهم، برفقة الدبابات الامريكية الى العراق. *** الدرس هنا ليس عسيرا على الفهم. وهو ان ارتكاب ديمقراطية، وفقا لأفضل المقاييس الغربية ولأكثر شروطها تعقيدا، لا يعنى ابدا ان الحاكم العربى سيخسر سلطته. ويكاد يكون فوزه مضمونا من دون اعمال نصب، ولا اعتقالات ولا تعذيب ولا حتى تمزيق ثياب. استطلاع رأي، مستقل بالفعل، كان يكفى ليدل الرئيس مبارك انه يمكن ان يفوز بالسلطة حتى لو وافق على جميع شروط المعارضة، وحتى لو زاد عليها بتنازلات اضافية من عنده. ولكنه لم يفعل. لماذا؟ لانه يريد ان يلعب اللعبة التى تلائم مقاس حذائه. وليس مستعدا للعب أى لعبة أخري. حتى لو خبط الناس رأسهم بالحيط. هكذا. تياسة فحسب. والحال، فان احتكار السلطة بالبطش والقوة اصعب بكثير من الفوز بها فى انتخابات. مع ذلك، فان طبائع الاستبداد، وصومعة العجرفة التى يسكن فيها الكثير من الطغاة، هى التى تجعلهم غير مستعدين لتغيير طريقتهم فى العيش، حتى وان حصلوا على النتيجة نفسها بوسائل أخري، ورغم كل الصداع والملاحقات الناجمة عن تياسة السياسة او سياسة التياسة التى تميل قلوبهم اليها وحدها. لا يفترض بالخسارة ان تكون قضية. ومع ذلك، فاذا كان الفوز مهما الى ذلك الحد، فانه ليس صعبا فى جميع الاحوال. والديمقراطية ليست صعبة أبدا. صنع ديمقراطية ليس هو المشكلة. المشكلة... هى ما نفعله بها.