الصدام بين الرئيس الاميركي والسلطة التشريعية بشأن جدولة الانسحاب من العراق، وجملة ما يكتب في الصحافة الاميركية، واستطلاعات الرأي التي تشير الى ان نحو ثلثي الاميركيين يرون ان النصر في العراق (مستحيل)، وسواها، ليست الا مقدمات تمهيدية لتكون الهزيمة ذات وقع اقل من تلك التي حدثت في فيتنام . بيكر - وزير الخارجية الاسبق - حذر من نتائج مماثلة لتلك التي وقعت حين سقطت سايغون داعيا الادارة الاميركية للعناية بمن اسماهم (المتعاونين والعملاء) العراقيين الذين ساندوا الاحتلال، رافضا تركهم لمصير مماثل للفيتناميين الذين لم يستطيعوا الخروج من (سايغون) بحرا او برا للنجاة بأنفسهم من العقاب الذي كان ينتظرهم من قوات(الفيتكونغ). اكثر من ذلك ان بيكر وعددا من المهتمين كتبوا انهم يشعرون بالخجل مما حدث والعار مما يمكن ان يحدث .. ليس فقط للقوات الاميركية بل كذلك لمن اسموهم (بالمتعاونين من العراقيين) الذين لا يجدون الاحترام حتى من (الحكومة العراقية) ذاتها. التمهيد النفسي يجد مبرراته من مجمل الاخبار الواردة من بلاد الرافدين، الاخبار المصاحبة لتوابيت القتلى من قوات الاحتلال ومن الصور المرعبة للواقع الجهنمي في العراق، الذي لا يقتصر على العاصمة بغداد حسب بل المنتشر في كل اراضي العراق ومدنه. الى جانب عرض المآسي اليومية للحياة في العراق، بدءا من فقدان الامن مرورا بفقدان وسائل الحياة الاعتيادية من الماء والكهرباء والخدمات والوقود ووصولا الى الفقر وعمليات القتل والخطف والاعتقالات والاغتيالات وفوضى الحياة الضاربة اطنابها في عموم المحافظات العراقية. الحقيقة ان الذين يسعون الى جدولة سحب القوات من العراق يسعون الى خروج (مشرف) من الجحيم العراقي - كما يصفونه. وهؤلاء حريصون على صورة الولاياتالمتحدة، ومنهم من لا يريد ان تكون المعركة (انتخابية) بين الحزبين - الجمهوري والديمقراطي - بقدر ما هي صراع بين من يسعى الى حقن الدماء الاميركية والعراقية على السواء وبين من يصر على ان (القوة وحدها) هي السبيل الى انتزاع النصر في العراق، مما يعني ان الاستراتيجية (الكونية الاميركية التي يتبناها المحافظون الجدد) يمكن ان تنجح رغم تعثر خطوتها الاولى في العراق. التركيز على ان الاميركيين خدعوا بالاكاذيب التي ساقتها الادارة الاميركية تبريرا للحرب على العراق واحتلاله تجد أساسها المتين ليس فقط على الطبيعة في العراق بعد اربع سنوات من الاحتلال ولكن ايضا في اشهار عدد من اركان الادارة السابقين لورقة الاعتراف ليس بالفشل وحده بل بالاعتراف بخضوع الادارة للكذب واعتمادها الاسلوب ذاته لتمرير العدوان بعد تبريره، ونموذجهم هو (كولن باول)، وسقوط الشعارات الواحد تلو الآخر بدءا من (اسلحة الدمار الشامل) مرورا بقلب نظام الحكم وصولا الى بناء الانموذج الديمقراطي المتين في العراق بعد الاحتلال. العراقيون بدورهم يعون اليوم اكثر من اي وقت مضى انهم ليسوا سوى ضحايا او(فئران تجارب) حسب ما اعلنه بعضهم في الفضائيات. والمقصود هو التنديد بالتحولات المدهشة التي ساقتها الادارة الاميركية منذ الاحتلال والتحولات(الاميبية) في شعارات الادارة الاميركية التي ساقتها وسوقتها تبريرا للحرب والعدوان والاحتلال، والتنصل من التزامات الولاياتالمتحدة من واجباتها ومسؤولياتها المفروضة على الدول المحتلة بقوانين (جنيف) والمتعلقة بالمسؤولية عن ارواح وممتلكات المدنيين وقت الحرب والاحتلال. كما ان المعاناة اليومية للعراقيين اكدت لهم بالملموس المغمس بالدم وبالدمار والالم والحزن الذي زار بيوتاتهم كلها، اضافة الى الخوف من الموت المتربص لكل منهم في الشوارع والازقة واماكن العمل والعبادة والدراسة، ان المسؤول الاول هو الاحتلال. وهنا تتطابق المواقف الشعبية العراقية مع مواقف الشارع الاميركي وتقترب الى حدود الملامسة من مواقف غالبية اعضاء الكونغرس الاميركي. ليس غريبا، اذا ، ان تحفل الصحافة واجهزة الاعلام الاميركية بتلك الاصوات الداعية ليس فقط للانسحاب من المستنقع العراقي بل الى (طرد الرئيس ونائبه) فورا كونهما المسؤولين عما لحق بالعراق وبالمنطقة وبالولاياتالمتحدة من الام ومآس وما يمكن لهما ان يقدما عليه خلال ما تبقى لهما من وقت في سدة المسؤولية الرسمية (كرئيس وكنائب له). ما يجري ارهاصات ما قبل الهزيمة المعلنة والمباشرة للمشروع الاميركي في العراق، بل في ما يسمى (مشروع الشرق الاوسط الكبير). واذا كان الرئيس الاميركي يرى في مواقف الكونغرس اشهارا ب (الاستسلام) فإن الشارع الاميركي يرى غير ذلك تماما، انه يرى ان الانسحاب المجدول من العراق يوفر الدماء العراقية والاميركية وقد يسهم في رسم صورة افضل للولايات المتحدة على مستوى العالم كله.