تقرير جيمس بيكر لا يعني التزام الإدارة بقرار ما.. ولا يحول دون لعبها على "ورقة الحل": إما طي ملف المحاكمة والإفراج عن الرئيس ورفاقه أو تنفيذ الحكم الصادر سلفاً وليكن الطوفان! بدأت تتحدّد ملامح الوضع الذي سيفرض نفسه على الأميركان في العراق، بعد أن ضاق حيّز التوقعات والخيارات أمامهم، وانحصر في خيارين أساسيين: أولهما التخلّص من الرئيس صدام عن طريق النطق بحكم الأميركان المسبق عليه، وهو أمر يبدو مرجحاً في نظر البعض، نتيجة اعتبارات عديدة أبرزها حقد عائلة بوش الشخصي عليه، رغم الاعتراف بأن هذا الخيار سيزيد الوضع الداخلي سوءاً على سوء، ويدخل البلاد في نفق مجهول لا نهاية له، ويدفع بقوات الاحتلال في قاع المستنقع القاتل أكثر من كل ما مضى. أما ثاني هذين الخيارين فهو العمل على اطلاق سراحه، وطيّ مسلسل المحاكمة المهزلة ضدّه بعد أن نسف الأميركان أنفسهم تهمتين أساسّيتين من التهم الثلاثة التي كانوا يوجهونها له، وهما حيازة أسلحة الدمار الشامل، والتحالف مع تنظيم القاعدة. ولم يبق أمامهم غير تهمة "التصفية- الدكتاتورية" في الداخل، وتهديد الجيران في الخارج، وهي تهمة يُمكن أن تُفصّلَ على مقاس كل نظام وحاكم حسب أهواء الدولة الأكبر"!". لذلك يرجّح البعض الآخر إمكانية سقوطها أمام أي عملية عقلانية لحساب الربح والخسارة تقوم بها الإدارة الأميركية، في ضوء التغيير الحاصل ببارومتر الرأي العام داخل الولاياتالمتحدة تجاه الموقف من العراق.
الأرقام وجديد الأميركان فإذا أخذنا بعين الاعتبار- مثلاً- استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة راسموسين ريبورتس الأميركية حول نجاح الهجمة على الإرهاب، لطلعنا بنتيجة تدحض كل ادعاءات بوش بالنجاح على هذا الصعيد، وتُبيّن حقيقة موقف الأميركيين الذين يوصفون عادة بأنهم لا يُحيطون علماً بما يجري خارج بلادهم، ولا يهتّمون إلا بالهمبرغر والكولا والضرائب وما شابه. تقول الأرقام التي سجّلها هذا الاستطلاع ان 31% من الأميركان يرون أن الحرب ضد الإرهاب تُحقق نتائج ايجابية، بينما يقول 36% منهم أن الإرهابيين هم الذين يحققّون الفوز، في الوقت الذي رأى فيه 22% أن لا أحد من الطرفين قد تغلّب على الآخر. وطالما ان الولاياتالمتحدة هي التي شنّت هذه الحرب، وتدّعي التقدم على طريق تحقيق أهدافها فيها، فإن هؤلاء ال 22% لا يرون ذلك صراحة. .. وهكذا: إذا جمعنا ال 36% + 22% نكون أمام 58% من الذين يدحضون أقوال الرئيس ويعتقدون ان بلادهم لم تحرز بعد أربع سنوات من الحروب الضارية ضد "الارهاب" أي نتيجة ايجابية. هذا هو جديد أميركا الظاهري حتى الآن، أما المخفي فأعظم، وهو ما سيتّضح عندما يطلع الرأي العام الأميركي على حجم الأهوال التي جناها بوش وإدارته نتيجة عقليتهم العدوانية المتغطرسة. أما جديد العراق فقد أصبح يتلخّص من الوجهة العملية، ورغم كل ما تعرّض له بعبارة يرددها الكثيرون هذه الأيام، حتى داخل دوائر صنع القرار السياسي والعسكري في الولاياتالمتحدة، تقول: "إذا أردتم حربا فصدّام، وإذا أردتم سلماً فصّدام"، بمعنى: لو أراد الأميركان خراب الدنيا أكثر من خرابها الحالي، فعليهم السير في خط تصفية الرئيس الأسير. وإذا أرادوا أن تراوح الأمور مكانها، حسبما نسمع كل يوم- بانتظار يوم الحسم الذي لن يكون لصالحهم بطبيعة الحال، فما عليهم إلا إبقاءه على وضعه يراوح بين السجن والمحكمة.. وبالعكس، أما إذا أرادوا حلاّ يخرجهم من أتون فيتنام الجديدة، فما عليهم إلا العودة إليه أيضاً.
ظاهرة داخل السجن لقد أصبح صدام – بالنسبة لهم- وهو في سجنه الداء والدواء معاً، وازدادت قناعتهم بهذا الواقع اصراره على عدم تراجعه عن موقفه رغم كل الإغراءات والاقتراحات لإخراجه من وضعه الحالي، انطلاقاً من إيمانه بأن العمر واحد والرب واحد، والأوطان أبقى من الانسان، ومن قناعته بأن الاحتلال في مأزق خانق، وهو حّر الإرادة، وان كان وراء قضبان الأسر. ولهذا لم يقبل حتى مجرّد مناقشة فكرة ترك العراق إلى أي مكان آخر حسبما فاوضه أكثر من مسؤول سياسي وعسكري أميركي، مفضلاً البقاء في بلده ولو قضى الله ان يكون تحت التراب. هذه الحالة النادرة بين القيادات الرسمية وحتى الشعبية والمقاومة، كان لها الدور الأساس في ازدياد تعلّق الناس به وإنصافه حتى من قبل الكثيرين ممن كانوا في موقع معارضته بشدّة، فتحوّل الرجل الذي أرادوا كسر هيبته إلى ظاهرة خارج الحكم أكثر مما كان على رأسه. وإذا أردنا الدقّة فان هذا الوضع لم يطرأ في الآونة الأخيرة، ولا بدأ مع بداية محاكمته ورفاقه، بل قبل ذلك، فليس سراً أن الاتصالات وتبادل وجهات النظر "حول الحل"، قد تعّددت بصورة غير مباشرة بين الأميركان وأصدقاء للبعث والنظام "السابق" في العراق، وقد نشرت "البيادر" قبل عام من اليوم بعض تفاصيلها إلى جانب نص لإحدى الرسائل التي وجّهها مفوض من مجلس الأمن القومي الأميركي إلى المقاومة- عن طريق وسيط – تناقش موضوع الانسحاب ومستلزماته، وتتساءل تحديداً عن السبب وراء تغيير المقاومة موقفها الذي كان يطالب – في رسالة سابقة – بضرورة ان تسحب قوات الاحتلال عملاءها معها، فأصبح يشترط – حسب آخر رساله- تركهم في العراق لتجري محاسبتهم بعد التحرر.
شروط المقاومة تسقط شروط الاحتلال وإذا كان حبل الأخذ والّرد لم ينقطع من قبل الأميركان، ولو عن طريق طرف ثالث، نظراً لرفض المقاومة والنظام السابق أي حوار مباشر، إلا انه لم يوصل لأي نتيجة. وقد أتى مسلسل المحاكمة المتسارع في هذا السياق ليشكل ضغطاً مضافاً من أجل الوصول إلى تسوية يسعى اليها الاحتلال وفق ما يراه من شروط. لكن محاولاته فشلت أكثر تحت الضغط، ووجهت بشروط القيادة الأسيرة ورجال المقاومة الحقيقية التي وصلت إلى حد طلب الرئيس الأسير من وزير الدفاع الأميركي في آخر لقاء تم بينهما في السجن/ نيسان 2005/ تنفيذ سلسلة من الشروط جاء في آخرها قوله بالحرف، "... وان تعيدوا كل شهيد وشهيدة سقطوا على أرض العراق". بعد ثلاث سنوات ونصف على الاحتلال، وسنة ونصف على هذا الكلام، خرج البرتو فرنانديز، مستشار وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ليعترف من على شاشة "الجزيرة" بتواصل الاتصالات والمحاولات مع المقاومة طوال الفترة الماضية. ولكن عبر وسطاء وأصدقاء للطرفين، وليعترف أكثر – للمرة الأولى وعلى غير عادته المكابرة – بغباء وغطرسة الأميركيين في العراق، الأمر الذي دفع الإدارة إلى إرغامه على التراجع عن كلامه والاعتذار شفهياً وفي بيان رسمي عما بدر منه بطريق "الخطأ". أرغمته الادارة على ذلك بالرغم من اعتراف بوش أخيرا بالأخطاء، وتشبيهه الوضع في العراق بالوضع الذي كان سائداً في فيتنام وحديثه عن تعديل استراتيجية الدولة الأكبر، دون تغيير منفّذ هذه الاستراتيجية دونالد رامسفيلد! هذا الموقف الغريب في تناقضه استوقف صحيفة "نيويورك تايمز"، فتساءلت في افتتاحية عددها الصادر يوم 24 أكتوبر الماضي عن أي تعديل وأي استراتيجية يتحدث الرئيس إذا كان أبو هذه الاستراتيجية وأكثر المتحمسين لها ولأخطائها ما يزال على رأس وزارة الدفاع. فإذا كان الرئيس جاداً في وضع أي استراتيجية جديدة في الوقت الذي يتعذّر عليه فيه الاعتراف بكل الأخطاء المؤكدة والمحزنة التي حدثت في العراق، فإن بإمكانه على الاقل ان يبعث برسالة تعني هذا الكلام من خلال إقالة رامسفيلد، لكي لا يبقى الحال على حاله طوال العامين المتبقيين من ولايته، فيعطي بذلك – حسب قول الصحيفة الأميركية- الدليل للعالم على انه اختار فعلاً طريق الحل للخروج من المأزق. كما يفتح الباب امام القادة العسكريين بشكل خاص لكي يعطوه الجواب الدقيق عن حقيقة ما يجري على الأرض، وأهمية الانسحاب وكيفية المخرج.
تقرير بيكر وآفاق الحل لكن الكونغرس اختار ان يستبق- على ما يبدو- مطلب النيويورك تايمز باتجاه الوصول إلى تصور لا ينحصر فقط برأي العسكر وقائدهم رامسفيلد، فكان قراره بتأليف لجنة خاصة لتقويم الوضع برئاسة وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر، الذي زار العراق واطلع على دقائق ما يجري على أرضه وعاد مذهولاً من سوء ما رأى في ظل قوات الاحتلال. وطالما أن الكونغرس والرئيس يعرفان معاً تركيبة بيكر، وكيف يفكرّ، وماذا يمكن ان يحمل تقويمه من نتائج فقد كان على استعداد مسبق للتعامل مع ما قد يفاجئهم به حتى ولو كان ذلك يتناقض مع ما يصلهم عبر الأقنية السياسة والعسكرية الرسمية. لكن هذا الاستعداد لا يعني بالضرورة الالتزام بقرار معيّن بذاته، ولا يحول دون اللعب على قضية الحل ومحاكمة القيادة العراقية في الوقت نفسه، أو تنفيذ الأحكام التي ستصدر بحقها- ان صدرت-، وإنما على العكس، سيسمح باستخدام كل هذه "الأوراق" وغيرها لصالح الحزب الجمهوري الحاكم مع اقتراب الانتخابات التي ستجري يوم 7 نوفمبر الجاري، خصوصاً وأن هدف مهمته الأساسية- كما تراها الإدارة- تنحصر في وقف النزيف المتصاعد بين قوات الاحتلال، ومحاولة إيجاد وسيلة تخفف من وتيرة الفلتان الأمني والقتل المشاع أمام أعين العساكر الاميركان. وهذا يعني بوضوح أن تقرير بيكر ولجنته ليس قذراً ولن يحمل اجتراحاً لمعجزة، بل مجّرد رؤية من سياسي مجّرب وغير أرعن كغيره، مع انه من نفس الحزب الحاكم، ومن طاقم بوش الأب الذي مهّد لحضور الابن وطاقمه. وهذه الرؤية لن تغيّر على الأغلب من طبيعة وشخصية الإدارة ممثلة برئيسها الذي عّودنا على استغلال كل حدث، مهما صغر أو كبر، في الترويج لنفسه وادارته. وطالما ان الانتخابات ليست إلا وسيلة لفرض ما يريد عبر ديمقراطية الصناديق، فإن كل الاحتمالات واردة من هذا الرئيس تحديداً، وكل البدائل مشروعة في نظرة. ولهذا السبب دعا الرئيس صدام "محكمة الجنايات العراقية"، في رسالة بعثها فريق الدفاع عنه بتاريخ 22 أكتوبر الماضي إلى تأجيل النطق بالحكم- الذي كان مقّرراً إعلانه في 16 من الشهر نفسه ثم أُجّل إلى 5 نوفمبر الجاري- إلى ما بعد الانتخابات ولو بيوم واحد، حتى لا يُستغل هذا الحدث من قبل ادارة بوش، وحتى لا تكون المحكمة ذاتها بوقاً انتخابياً للاحتلال، وأداة اعلامية خاضعة له إلى حّد التفاصيل للتأثير في رأي المواطن الأميركي الذي بدأ يعي حجم المأزق الذي ورطها به الرئيس "الفريد من نوعه" بين العقلاء والمجانين على حد سواء. وأيا كانت النتائج والتوقعات ومزاج بوش، فإن الحل يبقى في إطار: "إذا أردتم حرباً فصدام، وإذا أردتم سلماً فصدام"!