تسلل رنين خافت متحشرج من بين صفحات اكتملت سطورها وأخري منقوصة و ثالثة لا يعلم سوي الله أي كلمات أو أي أخبار سوف تحملها سطورها قبل أن ندفع بها إلي المطبعة. أكوام من أوراق تناثرت في فوضي منظمة لتغطي سطح المكتب جسدت حالة التشتت الذهني و الحيرة التي تملكت فريق عمل صفحة دنيا الثقافة مع استمرار توالي أنباء مرض أو رحيل و اختقاء رموز مثلوا علامة فارقة في الساحة الثقافية, ليبدو الأمر و كأن صيف هذا العام لم يأت محملا فقط بسخونة و حرارة رياح الهند الموسمية و الصحاري الشرقية و الغربية, بل أيضا وبغلالة من حزن شفيف, و حالات تأمل فلسفية واستدلالات وجدانية و عقلية وقراءات جديدة لما سبق أن قرأناه و قر في نفوسنا, و بات في حكم المعلوم, وليتبدد تماما حلم قضاء صيف هادئ استعددا لدورة عمل مكثفة في شهر رمضان.. تلمست أناملي بعد عناء شديد سماعة الهاتف التائه أسفل الأوراق و ما بين الكتب.. جاءني صوته معزيا في أحدث من ضمتهم قائمة الراحلين مؤخرا, و مبلغا إياي أن عميد الأدب العربي طه حسين يتعرض من جديد لهجمة شرسة في القطر المعار إليه. هاهي الدورة تبدأ من جديد و نبدأ مرة أخري من حيث بدأنا في المرة ألأولي..ابن رشد.. ابن عربي.. الغزالي.. الحلاج,ابن عطاء السكندري.. الأفغاني.. الكواكبي..الشيخ مصطفي عبد الرازق..الإمام محمد عبده..السنهوري.. طه حسين.. فرج فودة..نجيب محفوظ.. و أخيرا و ليس آخرا نصر حامد أبو زيد.. اسماء تركت بصمة خاصة في تاريخنا الثقافي, لا يمكن نسيانها, إذ لاتزال رؤاهم وأفكارهم حية, ومثيرة للجدل, بل ربما تشغل حيزا وإن لم نعيه من واقعنا اليومي, ولا يزالون هم شخصيا يحتلون مكانة متجددة في حياتنا الثقافية وإن غيب الرحيل وجودهم المادي عن عالمنا الأرضي.. ولعل جلال لحظة الرحيل و استرجاع ذكري من غيبتهم متوالية الموت خلال الأسابيع الماضية ممن مثلوا جيلا لا يمكن تقييم أعماله بمنأي عن حركة المجتمع المصري والعربي في اللحظة الراهنة( و منهم الجابري عكاشة- فاروق عبد القادر-عفيفي مطر-سناء فتح الله-نصر حامد أبو زيد) هو ما حفزنا أن نحاول أن نقدم اليوم مراجعة لسجل المفكر نصر حامد أبو زيد النقدي, و ولتحليل كتاباته وفكره عبر رؤي المتخصصين, وتسليط الضوء علي بعض الحقائق التي توارت وراء سحب المعارك النقدية و الشخصية التي أحاطت بسيرة نصر حامد أبو زيد أثناء حياته, وأدت لحالة من الخلط والبلبلة, أوقعت الباحث المؤمن بالبحث العلمي و المنهج العقلاني وإعمال العقل والتدبر وقد ورد في القرآن الكريم مبدأ إعمال العقل نحو49 مرة.. قال تعالي.. أفلا تعقلون) البقرة:44).. لقوم يعقلون) البقرة:164).لعلكم تعقلون) البقرة:73) إن كنتم تعقلون( آل عمران118.( أفلا تتفكرون( الأنعام:50) لعلهم يتفكرون( لأعراف176). لقوم يتفكرون( يونس24) أولم يتفكروا..( الأعراف184) أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء..(الأعراف185) أفلم ينظروا إلي السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها..( ق6), وحرية الاجتهاد وإزاحة الخرافة والأسطورة عن الخطاب الديني و محاولات توظيف الدين لخدمة الأغراض الدنيوية و السياسية تحديدا, في نفس المأزق الذي تعرض له من سبقوه من المجددين, ممن دفعوا ثمن مغامرة رفض الاستسلام للمألوف المعروف والمضمون, ورفض سبات العقل والمشاركة في تزييف وعي البشر وإغواء فساد الأيديولوجيات وعزلة المثقف عن البسطاء, ملح الأرض واستمراء حالة الركود الحضاري وتخلف المجتمعات. والإخصاء الفكري, ليبقي من نصر حامد أبو زيد تجلياته الفكرية وأبحاثه التي خولت له شغل كرسي ابن رشد في جامعة( أوترخت الهولندية), وأسئلة حول منهجه في إخضاع الموروث إلي معايير المعاصرة ومفاهيم التحديث, حملناها كلها لأساتذتنا من المتخصصين, علنا نجد لديهم إجابة عنها, ونقدم لها قراءة جديدة أكثر دقة وحيدة بعد رحيل صاحبها المادي القسري عن الميدان, للمرة الثانية والأخيرة...