سئمت إعادة كتابة اليوميات فى كراسى الشخصى بعد أن امتلأ ثلثه تقريبا.. كان خطى «قصيرا».. لا أعرف كيف أصفه بغير هذه الصفة، كان قصيرا ومستديرا وسميكا، يستقر على السطر ويعلو أو يهبط عنه بمقدار بسيط كأنه يلتف حول السطر أو يتحد معه. كان واضحا منمقا، يكشف عن عنايتى شبه المرضية بالشكل، وكان اكتنازه دليلا على تحفظى وعزلتى. أكتب عادة بخط النسخ، بالحبر الأسود السميك.. الصفحة أيضا سميكة، لا تشف، لكنى أترك ظهر الصفحة خاليا من الكتابة.. أترك أيضا ربع الصفحة الأخير فارغا.. أحب أن تكون آخر كلمة حبيسة السطر، معلقة فى فراغ الصفحة التى تعد بالاكتمال لكنها لا تكتمل أبدا.. فى المقابل أحرص على إكمال السطر بالتمام، ولا أحب الهوامش فى أول السطر وفى آخره. ضد الفراغات على مستوى السطر، مع الفراغات على مستوى الصفحة. هكذا تبدو الصفحة المكتوبة بخط اليد على النقيض التام من صفحة الكتاب المطبوع، ناقصة ومختلة التوازن. صفحة اليوميات المنقولة لا تشبه فى شىء صفحة اليوميات الأصلية المكتوبة بخط عايدة. كانت عايدة تهوى الشطب وتعيد كتابة بعض الجمل فى الهوامش، وتكمل الصفحة إلى آخرها وكأنها تقيس حجم وقيمة الكتابة بمدى اكتمال الصفحة وانتفاخها. وكانت تضع دوائر حول بعض الكلمات، أحيانا بقلم أحمر كأنها تذكر نفسها بضرورة تغيير الكلمة أو إيضاحها. تطلق سهما من الدائرة الحمراء صوب الهامش وتكتب بخط سريع وغالبا غير مقروء ملحوظة على الكلمة أو الجملة التى أحاطتها بدائرة. يبدو خطها متعجلا تميزه الشارطات الحادة والنقط الطائرة بعيدا عن الأحرف. لم يكن هناك أى وجه تشابه بين خطى وخطها، وحرصت على زيادة هذه الفجوة بمراعاتى التنميق والتحسين فى الخط عند نسخ الفقرات. أفكر أولا ثم أكتب ثانية، لا أترك لنفسى حرية الاسترسال بلا رقيب على شكل النص المنسوخ.. تمنيت لوهلة أن أعطى كراسى لناشر ليصوره وينشره تماما كما هو، مكتوبا باليد، بأسطر زرقاء باهتة وبدون الرسوم الكثيرة التى كانت عايدة تحرص على تضمينها اليوميات. قررت ذات صباح أن أستعين بالكمبيوتر لنقل نص اليوميات. كان لهذا القرار دور فى سير الكتابة، جعلنى أكثر حرية فى التعامل معها وأكثر لهفة على التعديل والتبديل بما يتلاءم مع تصورى عن عايدة. لم يعد يكفينى نقل الفقرات بالتتابع الزمنى المفترض أو بتصور العلاقات المشار إليها فى الكراسات الثلاث وسد الفراغات وإعادة الترتيب كما فعلت مع الصفحات المنقولة الخاصة بعمليات الإجهاض وقبلة حسام الأولى. أصبح لتدخلى فى الكتابة طعم يفوق طعم التلصص على مشاعر عايدة والتماهى معها. كان زوجى يمد رأسه من الباب ويرانى منهمكة فى الكتابة والتفكير، يحدثنى فأرد عليه بعد جملتين أو ثلاث، ويزداد غيظى منه لو سألنى ماذا نأكل اليوم أو اقترح أن نخرج لتناول الطعام فى مطعم. أصبحت مشغولة بالكمبيوتر إلى حد الهوس، أحمله معى إلى الفراش مثل حيوان أليف وأصحو على صورتى وأنا جالسة أمام صفحة الديسكتوب وأيقونة الفايل الوحيد المؤمن عليه بكلمة سر تقفز أمام عينى وتذكرنى بحضورها، فايل «يوميات عايدة». ثلاث كراسات استطعت الحصول عليها قبل وفاة عايدة وقبل انتهاء صداقتنا.. الأول يحتوى معظمه على تفاصيل عن علاقتها بزوجها الثانى وبداية علاقة حب قصيرة بكريم السحيمى انتهت مثلما بدأت بفتور وتوتر ثم زال التوتر وحلت محله مشاعر تواطؤ وخبرة طويلة بحدود كل منهما وأنانية مشتركة جعلت العلاقة تبدو مستقرة فى خانة الصداقة الملتبسة. فى نفس هذا الكراس إشارات لى ولزوجى لم أستطع أن أغفر لعايدة كتابتها أو حتى التفكير فى كتابتها. وظللت زمنا أتخيل أنها قرأتها على كريم أو على حسام أو حتى على زوجها الأول أسامة وفضحت ما كان يجب أن يظل سرا بيننا. فى الكراس الثانى والثالث مقاطع كثيرة تخص حسام. بدايات الحب خصتها عايدة بصفحات كثيرة وتفاصيل لم تخبرنى بها، لكنها قررت فى لحظة ما من سير العلاقة أن تقطعها وخصت أسباب القطيعة بالصمت والكتمان. عرفت فيما بعد أن لأسامة يدا فى انتهاء العلاقة، كان يحمى ممتلكاته الأولى بعد سنوات من فقدانه لها، ويضع حسام فى المكانة التى يليق بها فى سلم الصداقة، فى القاع. عرفت أيضا أن حسام عندما اكتشف سرقة عايدة لكارت الماستركارد فى غيابه واستخدامها للنقود فى تجديد أثاث شقتها وشراء بعض الملابس والمجوهرات انقطع عن زيارتها وعن استلام الرسائل التى ترسلها إليه تشرح فيها الأسباب أحيانا وأحيانا أخرى تثور على غبائه وصمته. وعندما أرهقته بالرسائل التليفونية والمطاردات وافق أن يعود إليها بشرط أن تذهب لطبيب نفسى. وافقت عايدة وتابعت الذهاب للطبيب والكذب عليه وعلى الطبيب. ثم حملت حسام تبعة رعونتها بحنكة الكذابين المدمنين وبكت بحرقة فى حضن أسامة المفتوح لها دوما. كان لسفر حسام المتكرر دور فى خلل التركيبة التى عولت عليها عايدة آمالها فى الاستقرار. كان قد عاد ليستقر فى البلد ويبدأ حياة جديدة، عاد بعنف ونهم المغترب متشوقا لتكوين صداقات والانتشار فى المحافل والحصول على اعتراف الجميع فردا فردا بسعة ثقافته وتحضره. لم يبخل على اجتماعاتنا بتصوراته عن التغيير المنشود ولا على عايدة بالاهتمام والرعاية التى كانت تحلم بها. ثم قرر لسبب غير معلوم أن يعاود السفر. لم تصمد واجهة الاستقرار والانتماء التى احتمى بها فى البداية أمام الخراب المستشرى والملل الذى دب إلى نفسه والشعور بالعجز أمام بحر هائج من المفاسد والفرص الضائعة. حاولت عايدة السيطرة على خوفها من ابتعاده عنها وادعت أنها أول من شجعته على ذلك. ثم بدأ العد التنازلى بين المقربين. خالد قال إنها لن تحتمل الغياب وأنها ستجد حبا غيره، متصورا أنها نفس الروح الشفافة التى تقرأ قصصه المتواضعة وتحثه على الاستمرار فى الكتابة. أسامة لاذ بالصمت وكان يعرف من عايدة قصة السرقة ويكتم السر، وكريم لم يخف شماتته وساعده لسانه الطويل على النيل فى الخفاء من عايدة ومن حسام معا. أما هى فكانت ترى وتعرف رأى كل واحد منهم، وتسألنى فى غيابهم عن رأيى فى حسام فأثنيها عن فكرة الارتباط الدائم وأشجعها على التركيز فى عمل معرض فردى، معرض واحد فقط يصنع لها سمعة وبريقا وينتشلها من حيرة العلاقات المرتبكة التى تستمتع بالوقوع فى براثنها. تنفث دخان السيجارة فى الهواء وتفكر بجدية تضحكنى وتغيظنى فى آن واحد، ثم تقول لإغلاق باب الالتزام وفتح باب السفسطة you're maybe right طبعا كنت أعرف أنى على حق وكنا جميعا نتفق فى أن عايدة ضيعت حياتها فى التخبط والشك. في النهاية أقيم المعرض فعلا ولكن بعد وفاتها. أقامه أسامة وكريم وخالد وساعدتهم أنا بكتابة نص المطبوعة واختيار بعض فقرات من اليوميات لعرضها مكبرة بخط عايدة على حائط المدخل. لم أجرؤ على التصريح بكيفية حصولى عليها، ولم يطل أحد التساؤل عن مصدرها، كنا مشغولين بإعادة صياغة سمعة عايدة وإضفاء معنى على هامشيتها وموتها المبكر، شأن كل تأبين. فاجأنى نبأ وفاة عايدة مثل طعنة فى القلب. رن الهاتف وكان أسامة هو المتحدث. اتصل بى من بيت عايدة، ترددت قليلا فى الرد حين رأيت رقم عايدة ظاهراً على شاشة التليفون. بعد غياب دام ما يقرب من ستة أشهر، لم أصدق أنها تريد محادثتى. فكرت أنها فى ضائقة مالية أو فى ورطة تريدنى أن أخرجها منها. كان قلبى يدق بعنف وكانت مشاعر الظلم التى خلفتها بغيابها عنى وهجرها لى تطفو على السطح وتغرقنى بقسوة ووحشية فى بحر هادر من الأحاسيس المتباينة. رفعت السماعة وقلت أيوة يا عايدة. سمعته يبكى بحرقة، وأدركت رغم خنقة الدموع أن المتحدث رجل. سألته مستغربة: أسامة؟ قال آه.. وأجهش فى بكاء مر. كررت السؤال مرة ثانية ببلاهة وارتباك، لم يرد وزاد نحيبه. انخلع قلبى وطفرت الدموع دون أن أدرى سببا واضحا لبكائى. ماذا حدث؟؟ ماذا يمكن أن يحدث؟؟؟ تمنيت سرا أن تكون خناقة جديدة يريدان إشراكى فيها، وأن يخيب ظنى وتكون عايدة هى التى طلبت منه الاتصال بى. قال بصوت متحشرج ممكن تيجى دلوقتى. لم يكن سؤالا، كان أمرا أو تصريحا بالدخول. ثم انقطع الخط. كان ضوء الشمس الساطع يغمر الغرفة. حاولت تبين ساقى فى الضوء لكنى لم أستطع رؤيتهما، كأنهما انفصلا عن جسدى. هويت على المقعد أمام مكتبى فيما ظل رأسى غارقا فى عتمة الزاوية بين جدارين. لم أذهب إلى بيت عايدة مباشرة. بكيت وحدى بحرقة، بحرقة من فاتته أشياء وندم عليها. ثم استقر ألم الرأس فى مؤخرة الجمجمة مثل نبض الحديد الساخن. ثم نمت. تناولت حباية منومة ونمت. ولم أشعر إلا وزوجى يوقظنى. كانت الساعة الثامنة مساء وريح باردة تتسرب من نافذة الغرفة. فتحت عينى وأخبرته. بكيت حتى ابتلت المخدة وابتلت أطراف شعرى معها، بكيت بنشيج مكتوم وزوجى يحاول رفع رأسى عن المخدة ومطرقة ألم الرأس المهولة تعيد تثبيتها فى مكانها. بعد دورة البكاء الأولى والثانية، قمت متكئة على ذراعه وتركته يحتضننى ويربت على. تركته يرعى خيبتى وندمى على ضياع الوقت والفرصة. كانت ستة أشهر قد مضت بلا مكالمات، وكأن الأخبار قد انقطعت من العالم عندما انقطعت أنا عن زيارة عايدة. صمت عميق حل على حياتى وخلف وراءه شعورا أعترف بأنه ساعدنى على الابتعاد عنها، شعورا بالخفة والتفاؤل، الخفة لأنى لم أعد أحتمل تعقيد حكايات عايدة وعلاقاتها بأصدقائها، والتفاؤل لأنى تصورت أن المياه ستعود لمجاريها عندما يحين الوقت، بشروطى لا بشروطها. ثم مر الوقت وتوقف الزمن، توقف زمن عايدة فجأة وبلا ترتيب مسبق. عندما أتناول حباية منومة لا تزورنى الأحلام. أنام وكأنى لم أنم من قبل، أقول لمن يسألنى فى الصباح: نمت زى الطوبة. الحبوب المنومة تتسلل إلى الجسد عبر المخ وتخلف شعوراً بالعمق والثقل، أنام وكأنى كيس من الرمل يغطس فى البحر وأصحو شبه دائخة من تأثير الحباية. عيب هذا النوع من النوم هو غياب الأحلام، أو ندرتها. لذلك لا أتناول الحبوب إلا عند الضرورة. رغم أن فترة الحلم تحتل عادة ما يوازى ساعة ونصف الساعة فقط من ثمان ساعات نوم، إلا أنى أفضل النوم القلق بمصاحبة الأحلام على النوم الهادئ بدونها. بعبارة أخرى النوم البطىء المصحوب بفترات تطول أو تقصر من الأوهام والخيالات والأفكار على النوم العميق الخالى من كل هذا. حبوب منع الأحلام تغلق الباب فى وجه الزائرين. تجعل الحلم جداراً أملس تنزلق عليه الصور بهدوء وتسقط فى بحر النسيان بلا رجعة. بعد أن جاءنى نبأ وفاة عايدة، تسلل الحلم رغم سد الحبوب المنيع، تسلل ليجعلنى أراها. كنت فى بيت يشبه بيتنا الريفى القديم. أجلس فى غرفة بابها مفتوح لكنى محبوسة فيها. أعرف أن شخصاً ما جاء بى إلى هنا وحبسنى. أسمع صوت أنفاسه قادماً من الغرفة المجاورة لكنى لا أعرف من هو، لا شك رجل، لا شك صديق أو قريب، لا شك أنى جئت بكامل إرادتى. لكنى أريد أن أخرج الآن ولا أستطيع. أتسلل بعد برهة من باب البيت المفتوح. أراها فرصة للهرب. البيت يشكل نصف دائرة ويحيط به سور وممر من الأشجار. أركض بموازاة السور وأكتشف أنى أعود لنفس النقطة التى بدأت الركض منها. لا أمل فى الخروج. تأتى عايدة لزيارتى، لا أعرف كيف دخلت ولا يهمنى أن أعرف. سعيدة لرؤيتها، لكنها منهكة، تنام على فراشى وتقول إننا سنتحدث غداً. قادمة من مكان بعيد، ملابسها متربة قليلاً رغم ما عهدته فيها من أناقة. حقيبتها عند باب الغرفة، لا تنصت إلىَّ وأنا أخبرها عن إحساسى بالسجن. ربما لا تصدقنى. تنام بعمق دون أن تبدل ملابسها. فى غرفة أخرى، الوقت قبيل المغرب، صديقة أخرى تظهر فى نفس الحلم، فى نفس البيت، فى غرفة كبيرة تشبه الدائرة. لم أرها منذ سنوات، ما الذى جاء بها من عالم النسيان إلى عالم الحلم. كانت تحدثنى عن أبنائها. ترتب الغرفة وهى تتكلم، تطوى ملابس خرجت لتوها من المنشفة. تقول إنى جاحدة، لا أدرى كم أنا محظوظة، تشير لأن الكل يحبنى، وزوجى أيضاً، وهذا يكفى. تقول إنى ناجحة، ناجحة. فهمتِ؟
ترتيب الحلم لا أذكره، أعتقد أنه انتهى بمحاولة خروجى من البيت ثم عودتى لنفس نقطة البداية. صحوت من النوم على وجه عايدة النائم. تعجبت لأن شكل الممر الدائرى الذى ركضت فيه كان مألوفاً وحميماً. لم أكن خائفة ولم أكن حقاً أريد الهرب، كنت فقط أحاول. كان حلماً عادياً، لم يكن كابوساً. حلم ثقيل رغم ذلك، لأن عايدة بدت لى كعادتها شديدة الأنانية، مستغرقة فى ذاتها إلى حد الهوس. جاءت تزورنى بعد غياب ورفضت الكلام ثم راحت فى سبات عميق. ضاعت فرصة الكلام مرة أخرى، ولم أكن أنا من ضيعتها هذه المرة. كان القرار النهائى قرارها هى. فى الحلم بدت صديقتى الأخرى ''غبية'' تماما كما كانت عايدة ستسميها لو أنها قابلتها، لا تفهم تعاستى ولا تقيم وزنا للفراغ الروحى الذى أعانى منه، تنظر فقط لمؤشرات النجاح وتقيس عليها فشلها وفشل الآخرين. كان هذا واضحاً فى ذهنى أثناء الحلم، وليس مجرد تفسير لما حدث فيه بعد انتهائه. ثم صحوت على هزة يد زوجى وعلى حقيقة أن عايدة لم تعد فى هذه الحياة التى أصحو لأراها تمر مثل دائرة لا فكاك منها.