لماذا يبدو لي الزمن في هذه المرحلة من العمر مستعجلا, يمرق عكس اتجاهي, كما تمرق الأشجار خلف الراكب من نافذة قطار مسرع؟! لماذا تنسحب الوجوه من حولنا وتنطفئ الشموع, كأن كل ما حولنا نهايات, وما ثم بداية, وما ثم ميلاد جديد؟! نحن في هذه الأيام نودع ولا نستقبل, نودع الوجوه التي ألفناها, والأسماء التي ملأت علينا حياتنا, وهاهي تختفي, حتي توشك الحياة أن تخلو من الأصدقاء الأعزاء, ويخلو السرادق من المعزين! كلهم رحلوا: صلاح عبدالصبور, وصلاح جاهين, وأمل دنقل, وإحسان عبدالقدوس, وأحمد بهاء الدين, ولويس عوض, وزكي نجيب محمود, ونجيب محفوظ, ومصطفي ناصف, ومحمود أمين العالم, ورجاء النقاش, ومحمود السعدني, وأسامة أنور عكاشة, وفاروق عبدالقادر, وأخيرا محمد عفيفي مطر الذي أصيب فيه الشعر المصري قبل أيام, وخسر برحيله خسارة فادحة, فمحمد عفيفي مطر ركن من أركان الشعر المصري ورائد اتجاه جديد فيه. *** والشعر المصري عامة هو شعر التجربة الحية والمعاناة الإنسانية التي تجد في هذا الفن متنفسا لها, وتعبر فيه عن نفسها بصراحة ووضوح, وذلك حين تبلغ هذه المعاناة ذروتها, وتشغل الكيان الإنساني كله, وترهف ملكاته, وتستدعي ذكرياته, وتخاطب لا وعيه, وتوقظ مخاوفه وأحلامه, فيشعر عندئذ بالحاجة الشديدة للبوح والاعتراف والاتصال بالعالم وبالآخرين, وهي حاجة لا يحققها للإنسان شيء كما يحققها الشعر, لأن الشعر فن مادته اللغة, فهو بمادته الأولي قادر علي الاتصال, ثم إن الشعر لا يستخدم اللغة كما هي, وإنما يزودها بطاقات وأدوات تمكنها من أن تحيط بالكل, وتكشف عن المستور, وتوغل في الأعماق, فالشعر لغة أخري, أو لغة وراء اللغة, وهو بهذه الكيفية قادر علي الإحاطة, والكشف والتعبير عن التجارب العميقة التي يمر بها الإنسان. لكن التعبير عن هذه التجارب يتحقق بطريقين: إما أن تفرض هذه التجارب نفسها علي الشاعر وتتنزل عليه, وتتحدث علي لسانه بضمير المتكلم, وبلغة صريحة واضحة كما يفعل معظم الشعراء المصريين ومعظم شعراء العالم, وإما أن يفرض الشاعر نفسه علي تجاربه, ويستدعيها ويتحكم فيها, ويعبر عنها بلغة غير مباشرة, وهذا هو الطريق الذي سار فيه طلاب الحداثة في أوروبا من الرمزيين, والسورياليين, والباحثين عن الشعر الخالص الذي يجتهد أصحابه في تنقيته من العناصر النثرية, وسار فيه بعدهم شعراء عرب منهم محمد عفيفي مطر الذي تميز بلغة خاصة يمزج فيها بين الفصحي القديمة والعامية المصرية, كما يمزج بين الشعر الموزون والشعر المنثور, ففي قصائده عبارات ومفردات مقتبسة من لغة القرآن, ومن شعر المتنبي, والمعري, وعلقمة الفحل, والنابغة, وغيرهم, وفيه كذلك عبارات ومفردات مقتبسة من العامية المستخدمة في ريف المنوفية, وفي اعتقادي أن شعر عفيفي مطر, وهو شعر صعب, لم ينل نصيبه الذي يستحقه من التحليل والتفسير والتقييم, وتلك هي اللا مبالاة التي أشرت إليها في الأسبوع الماضي خلال حديثي عن فاروق عبدالقادر التي تضاعف إحساسي بالفجيعة, وتجعلني أشعر بأننا نودع ولا نستقبل, وإلا فالموت ليس مفاجأة, والفقدان ليس خبرة جديدة. آه يا موال البارق في همهمة الغيم.. أموت خالق هذي الرياضيات أم هذي اكتمالات عمود الشعر؟! لم أبصر سواه! *** لقد نشأت في قرية يتجاور فيها الأحياء والموتي وهي بالمناسبة قريبة من القرية التي نشأ فيها محمد عفيفي مطر وأكاد أقول أن الأحياء والموتي في قريتنا يعيشون في سلام جنبا إلي جنب! ولقد استأنس المصريون الموت, كما استأنسوا غيره من الوحوش والضواري, وعلموه أن يكف عن التشرد والترحال وقطع الطريق, وأن يتخذ لنفسه مسكنا حيث حل, وعلموا أنفسهم أن يستعدوا له, وأن يستقبلوه بلا وجل, وأن يبنوا له المنازل والصروح, ويشيعوا من اختارهم لجواره, ويبكوهم أجمل بكاء ويرثوهم أعذب رثاء, ويخيطوا لهم الكفن, ويهيئوا لهم الحنوط, ويزينوا دورهم الجديدة بالتراتيل المكتوبة والتماثيل المنصوبة. وعندما كنت في الخامسة من عمري, رأيت عمي يموت في منزلنا وكان لا يزال في نحو الأربعين من عمره, ورأيت أمي تهرع بجواربها السوداء دون حذائها إلي بيوت أخوتها الذين كانوا ينعون إليها واحدا بعد الآخر وهم بعد كهول لم يعمروا, وفي طريقي إلي المدرسة الأولية التي كانت تقع في أطراف القرية كنت أمر بالقرب من مدافنها لأقرأ ما هو مكتوب عليها من الأسماء والتواريخ والآيات والأشعار التي لا أزال أحفظ منها تلك المرثية الشعبية المؤثرة: أيها الزائر ليا قف علي قبري شويا! لقد أنتج هذا المزج العفوي بين الفصحي والعامية كلاما مدهشا يصل الحاضر بالماضي, والحياة بالموت, والدنيا بالآخرة, وبوسعي أن أقول إن الشعر في هذا البيت الساذج لا يقل عن الشعر في مطلع مرثية المعري للفقيه الحنفي: غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك, ولا ترنم شادي فإذا كان مطلع المعري أحكم وأرصن, فمطلع المرثية المصرية أعمق وأصدق, وأكثر إثارة للدمع والتذكر والتأمل في المصير! وأكمل حديثي فأقول إن الموت لا يفاجئنا ولا يخيفنا, وإنما يفاجئنا ويخيفنا أن ينفرد الموت بنا, وأن نفقد دون أن نسترد, ونودع دون أن نستقبل. لماذا نودع دون أن نستقبل؟ لأن القدر يهدم ونحن نساعده, الموت يقبض الأرواح, ونحن نضيع الأعمال, وبهذا يتضاعف الفقدان, نفقد آثار الراحلين بعد أن فقدنا أشخاصهم, ثم نفقد الذين لم يولدوا بعد, لأن الأحفاد يستمدون وجودهم من تراث الآباء والأجداد!