دقق وبإمعان كما ندقق نحن كل يوم في ذلك المشهد الذي يجسد العجب بعينه, ربما لا يكفي التدقيق وحده وإنما التدبر بعمق في دورة الأيام, وان تطلق العنان لأفكارك أن تتخبط في حالة من الفوضي كما تشاء وأن تضرب الأخماس في الأسداس, ويطول صبرك ويكون لديك رباطة جأش وقدرة علي تحمل الصدمات. السيارة الهمر الأمريكاني موديل السنة, السوداء اللون كل يوم تخترق شارع القرية الرئيسي, ترتفع لمرورها ألسنة الغبار من ضخامة حجمها..... ومن حولها تمرق سيارات الأجرة القديمة والنصف نقل والتكاتك وعربات الكارو, والمواشي في طريقها إلي حقول القرية بصحبة الأطفال أو الرجال كبار السن الذين يمشون كآلات مبرمجة. بعينين تبرق منهما معاني الذل والانكسار ووجه ترتسم علي ملامحه قناعة مزيفة... يقبع السائق خلف مقود السيارة, السائق ماجد العناني بك, في المقعد الخلفي بشموخ واعتزاز وظهر متكئ للخلف بعنجهية ورقبة ممطوطة للأمام كرقبة تستعد للافتراس, يجلس فوزي بك ابن لطفي السقا, بالتأكيد شيء يصيب بالدوار والدوخة وأحيانا بالتناحة والبلادة وان تكره نفسك وتحتقر عقلك, فالسائق أصغر أبناء أكبر وأشهر بيه عرفته القرية والقري المجاورة وحتي عموم الأقليم والرجل المهم جدا أكبر أبناء لطفي السقا علينا أن ننتظر فالموقف جد متشابك ومحير أقل من نصف قرن فقط حدث فيه ما لم يحدث في عشرات القرون الفائتة في كل شيء. حتي العقد الفائت كانت بقايا من عبق الماضي مازالت ماثلة علي الأرض, حكايات العز والفخفخة مرسومة علي حوائط السراي القديمة والأشجار التي تحيطها, السراي المحاطة بمئات الأفدنة. البيه العناني كان حاكما بأمره في القرية والقري المجاورة وكذا المدن المجاورة, رجل المال والاقتصاد والسياسة والقوة والبطش والهيبة والوقار. كل الناس إلا فاقدوا الحيلة يلتفون حوله, حسب القامات والثقافات والقدرات يتحدد مدي المكانة ودرجة القرب للسراي... منارة القرية والمعين الثقافي والخيري والانساني.. حتي الحلم تجد بإمكانك أن تحلم داخل السراي بأريحية ونفس مفتوحة, وأحيانا يذهب بعضنا لأخذ جرعات الرضا والتبرك من البيه رجل كل الأشياء وعالم العلماء. منذ نصف قرن وحتي عقد فات كانت القرية هكذا, رجل واحد يملك ثلاثة أرباع مقدرات الأمور وأغلبية تخدمه بصورة أو أخري. لطفي السقا, أحد المقربين جدا من العائلة لحساسية عمله في السراي ولطيبة قلبه وطاعته المطلقة لقاضي السراي, عاش عمره وحتي وفاته في كنف أسرة البيه, لم يكن ابنه فوزي بعيدا عنه, شب طوقه ونما عوده وتربي فكره وتدرب عقله في هذه الأجواء, يتنفس هواء الحدائق العليل الطازج ويملأ بطنه من بقايا أكل البهوات.... يملي العين في الوجوه المحمرة والبطون الممتلئة والقامات المعتدلة وبحكم ذلك القرب تم إلحاقه بالمدرسة علي نفقة السراي لنباهته المبكرة وظل يتدرج في المراحل التعليمية بتفوق حتي حصل علي مؤهل عال في وقت يعتبر هذا من حق فئة بعينها. كبر فوزي وهو يرضع لبن الحلم اللامحدود والتطلع اللامعقول... كبر وكبر معه حقد مخبأ ورغبة محمومة في أن يصبح شيئا ما بأي ثمن وأي وسيلة, عرف بيننا علي أنه متمرد وجبار وزكي لماح, لديه طاقة لا تنهد, ولاتهمد من التطلع إلي فوق, رغبة محمومة لأن يصبح من أولئك المترفين المنعمين. ألحق بوظيفة حكومية تعتبر آنذاك من الوظائف المرموقة جدا, ووضع فوزي أولي خطواته في مشواره الذي يخطط له جيدا. وعلي الوجه الآخر تسير العائلة الكبيرة عكس فوزي تماما وبنفس السرعة, فبعد وفاة الرجل الداهية العبقري العناني بك, بدأت حبات العقد في الانفراط ونجم العائلة في الأفول, فالأبناء وبعد فقد العقل المدبر وتقسيم التركة, تراجعت هيبتهم وتناثرت ثروتهم واهتزت مكانتهم وراح الأحفاد الذين فقدوا العقل في الانغماس في طرق اللذة والمتعة والليالي الحمراء السوداء, تحولت السراي إلي مسرح يجمع أهل المتعة, أنهالت الوفود الباحثة عن حظها والتواقة إلي موائد البذخ وقعدات الأنس. رحلة السقوط من العالي بدت سريعة وفاضحة, يمارس الأحفاد لعبة السقوط في وجود آباء ضعفاء وسفهاء. وعلي الضفة الأخري من شاطئ الحياة المتقلبة المزاج والهوي دائما, يرتب ذلك الناقم الثائر خطواته الغامضة والمريبة بتؤدة وسرية تامة, بأقدام ثقيلة تدهس من تدوسه يسير فوزي نحو القمة, متكئا علي أسماء كبيرة جدا وغامضة, تحرك من يريد إلي فوق أو تحت مثل عساكر الشطرنج... تفتح أبواب المغارات لمن تشاء وقت أن تشاء ورث تركة الرجل الداهية العناني بك من الذكاء والعلاقات الواسعة المتشابكة والمعقدة من كبار وعلية القوم من أهل القمة والمجد والمال والإعلام والسياسة والفن وكل شيء وأي شيء في أي شيء, عرف كيف يقنعهم بأنه رجل المرحلة القادمة الذكي والمخلص الأمين, كأنها الأقدار السعيدة زخات مطر تسقط علي فوزي فيواصل الصعود بسرعة البرق.. كأنها الأقدار التعيسة والشقية شظايا تسقط علي العائلة فيواصلون رحلة الهبوط بسرعة الغزلان المذعورة المطاردة وهم يدسون أنوفهم في عبق الماضي ويخدرون خيبتهم بأوهام لم تعد تحمي بناء من الانهيار أمام طوفان الفساد والانحلال, فبدلا من أن تشم رائحة اللحم المشوي تفوح من السراي, تشم رائحة الأدخنة المحشوة بالسموم والعار تتصاعد من أركان السراي الكبيرة والمحاطة بغابات الأشجار الحزينة والتي بدا عليها آثار الذبول والانكسار وكأنها تبكي ما تراه وما تشاهده تحت ظلالها وجذوعها وضحكات بنات الهوي الماجنة تخرق جدران الصمت وعذريته. هنا بدا فوزي كأنه قطار حديث وضع علي سكته الصحيحة, انطلق يطوي المسافات ويطوي معها صفحات عائلة العناني بك بحلوها ومرها, ويفتح صفحة من صفحات الحياة التي تشبه البحر فتارة تراه وديعا هادئا وتارة أخري تراه غاضبا ثائرا... صفحة فوزي بك لطفي الذي أخذ راحته وبدأ في التربع علي القمة, دانت له السيطرة المطلقة, كأنه ساحر المكانة والهيبة والسلطة والمال وياله من مال!!! لا نعرف كيف حدث هذا ومن أين هبطت عليه تلك الثروة الضخمة والتي من فرط ضخامتها فاقت بل وشطبت ثروة العناني من الذاكرة. لا نعرف كيف حدث هذا ولماذا؟ ومتي؟ ونحن تحت في الواطي جعلنا نصيغ المعادلات ثم نبحث لها عن حلول عبثية بلا جدوي, اجتهادات وتحليلات كثيرة وتأويلات مرعبة عن حجم الثروة الرهيب ومصدرها بعد تعب القلوب تم قفل باب النميمة لمحاولة استيعاب ما حدث, وفعلا سلمنا بالأمر الواقع وبدأنا ننتظم في صفوف حسب القامات والقدرات والثقافات من أجل الالتفاف حول فوزي بك!!! والذي سبحان الله الخافض الرافع سكن سراي العناني بك بعد أن اشتراها وجددها لتصبح كتحفة معمارية وذلك بعد إفلاس الأبناء والأحفاد, والذين صاروا مثلنا من عامة القوم والذين لا يمثلون إلا أرقاما جامدة في جداول التعداد السكاني, أصبح ماجد العناني السائق الخاص والمقرب من فوزي بيه. تبدلت الأشخاص والأماكن والألقاب...قصرت قامات وطالت قامات.. تكلمت أفواه وسكتت أخري, بزغ نجم هنا وأفل نجم هناك. كل شيء اصبح خارج العقل ومساحة تفكيره, أصبحت كثير من المعاني ضبابية, ومع ذلك فنحن لا نملك إلا أن ندفن شئنا أم أبينا اسم فوزي السقا في ركن قصي من القلب وزاوية مظلمة في العقل وننساه تماما بل ونشطبه من الذاكرة, نتشدق أحببنا أم كرهنا باسم فوزي بك لطفي وبس!! نحن الذين نعرف عنه كل شيء الآن نقف انتباه عندما تمر سيارته أمامنا.. نعطيه تحية الكبار والعظماء.. ندعوا له بالصحة والعافية وطول العمر وأن يعلي الله في مراتبه ويزيد من خيراته أكثر وأكثر.. نهتف باسمه ليلا ونهارا في الشوارع والميادين من أجل ان ينجح في إنتخابات مجلس الشعب ويمثلنا ويصبح بذلك رجلا لكل الأشياء. كأننا ثعابين نغير جلدنا حسب طبيعة المكان والزمان والبيئة.. نتشكل حسب المواقف نغير الكلمات والنظرات والضمائر والقلوب من أجل الفوز بنظرة رضا ثم موضع لقدم في مملكة البيه الجديد وأي بيه جديد عبدالفتاح عبدالكريم الاقصر