أكاد أجزم أن خمسين في المائة, علي الأقل, ممن سيذهبون يوم السبت15 ديسمبر الجاري إلي صناديق الاقتراع للتصويت ب لا أو للتصويت ب نعم علي مسودة الدستور الذي أعدته الجمعية التأسيسية لم ولن يقرأوا هذه المسودة لسبب أساسي هو أن الدستور في ذاته توارت أهميته وأولويته تماما أمام أهمية وأولوية الصراع المتصاعد بين معسكرين: أولهما معسكر المعارضة الواسع الذي يضم كافة التيارات والقوي السياسية الرافضة لهيمنة تيارات الإسلام السياسي علي سلطة ما بعد الثورة وما يعنيه ذلك من سرقة الثورة نظرا لأن معظم فصائل التيارات الإسلامية لم تكن من طلائع الثورة. وثانيهما, معسكر الحكم الذي يضم حزب الحرية وحلفاءه من القوي الاسلامية المختلفة, والذي يؤيد قرارات الرئيس ويدافع عن شرعيتها السياسية. هذه التصنيفات امتدت إلي الشعارات, فالمعارضة تمسك الآن بورقة الشرعية وتري أن الدستور المعروض للاستفتاء يفتقد للشرعية لأنه أعد من جانب جمعية تفتقد الشرعية, والأمر يتطور الآن نحو الرئيس نفسه واتهام حكمه بعدم الشرعية لاعتدائه بإعلانه الدستوري علي الدستور والقوانين والقضاء واحتكاره السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية في تطور غير مسبوق من احتكار السلطة, أما الموالاة أي القوي الموالية للرئيس فتركز علي الاستقرار كهدف يجب أن يحظي بكل الأولوية علي ما عداه من الأهداف حتي لو كان هناك تجاوزات في إعداد الدستور وفي شرعية الإعلان الدستوري. ونحن الآن في صراع بين الشرعية والاستقرار ودخل الرئيس طرفا في هذا الصراع بعد تسلمه مسودة الدستور وتحديده يوم السبت15 ديسمبر الجاري موعدا للاستفتاء علي هذه المسودة وهذا يعني أن الصراع يتصاعد ولا يعرف أحد, غير الله, متي أو كيف يمكن أن يتوقف خصوصا بعد أن تحول الاستفتاء علي الدستور إلي أمر واقع. هذا الأمر الواقع مرفوض من قوي المعارضة التي تري أنها الممثل الحقيقي للثورة, وأنها سوف تسعي ابتداء من اليوم الثلاثاء إلي التصعيد لمنع الاستفتاء علي الدستور, وتطرح خيار العصيان المدني كخيار بديل لهذا الأمر الواقع والدفع بمزيد من الصراع, وهذا كله يعني أننا نتجه نحو حافة الهاوية, بعد أن أصبح التخوين المتبادل شائعا وأن الكل يعلن نفسه الممثل الوحيد للثورة, والآخر إما انقلابي وإما ثورة مضادة. بهذا المعني استطيع أن أقول اننا أمام أحد احتمالين: أولهما, أن يستمر سيناريو التصعيد للصراع والتصفية المتبادلة التي سوف تنتهي حتما إلي انتصار أحد الفريقين وهزيمة الآخر, لكن الانتصار والهزيمة ستكون مؤقتة, إذا نظرنا إلي هذا النمط من التفاعل الصراعي من منظور موجات الفعل الثوري الذي يري أن الفعل الثوري لا يحدث دائما في خط مستقيم بل يتحرك إما إلي أعلي وإما إلي أسفل ولكن ضمن موجات متتالية من الصعود والهبوط أي من الانتصار والانتكاس إلي أن يتوقف تماما عند نقطة محددة إما انتصار الثورة وإما هزيمتها, لكن إذا كانت الهزيمة نتيجة مريرة فإن الانتصار ليس أفضل منها, لأنه سيكون صراعا هشا بعد تحطيم كل مقدرات قوة الطرفين المتصارعين المنتصر والمنهزم معا, وهذا هو السيناريو السوداوي الذي لا نأمله ولا نريده. وثانيهما, أن يتغلب العقل والضمير الوطني علي الجميع وأن يدرك الكل أن استمرار الصراع ليس له غير معني واحد هو أن الثورة تأكل نفسها, وأن النظام القديم باستبداده وفساده هو المنتصر في النهاية بتحالفاته الإقليمية والدولية التي تنتظر انكسار الثورة بعد أن فشلت في احتوائها, والتي تتدخل وتدعم تصعيد الصراع لإدراكها مدي خطورة أن تفلت مصر بثورتها, لأن نجاح الثورة المصرية سوف يمتد حتما إلي كل الدول العربية المجاورة, أو معظمها, وأنه سيحول معادلة توازن القوي لصالح العرب في مواجهة الأطراف الأخري والإقليمية التي تعمل في الاتجاه المضاد. وهذا الاحتمال يفترض تدخل طرف ثالث بحل وسط يرضي كل الأطراف ويجدد طرح معادلة التوافق الوطني والشراكة الوطنية, بدلا من معادلة المغالبة والتفرد بالسلطة والحكم اعتقادا من طرف أنه الأقوي الآن, وأن هذا هو أوان إطلاق مشروعه التاريخي. اعتقد أن فريق الإسلام السياسي يعيش هذا الهاجس في ظل ما يتردد في الإعلام الغربي والإسرائيلي من خطورة سيطرة الإسلاميين علي السلطة في مصر واحتمال نجاح الإسلاميين في حسم الصراع لصالحهم في سوريا وأن تمتد رياح الربيع الإسلامي إلي الأردن عندها سينشأ قوس إسلامي واسع يمتد من تونس إلي ليبيا ثم إلي مصر والأردن وسوريا, وقد يعود ليتسع غربا في الجزائر والمغرب وقد يمتد جنوبا في الجزيرة العربية بشكل أو آخر. وهذا الترويج الإسلامي الغربي والإسرائيلي لهذا الاحتمال وخطورته علي المصالح الغربية وعلي الكيان الصهيوني ربما يكون قد خلق قناعة لدي تيار الإسلام السياسي في مصر بجدية الفرصة وجريمة تفويتها أو التفريط فيها. بعض الذين تابعوا مشهد تظاهرات الإسلام السياسي وشعاراته يوم السبت الماضي استدعوا من ذاكرتهم تجربة الثورة الإيرانية, وكيف أن الإسلام السياسي في إيران استطاع أن ينقلب علي رفاق الثورة الإيرانية الشعبية وأن يبدأ مسلسل التخوين والتصفية الجسدية لكل المعارضين من القوي الثورية الأخري الشريكة في تفجير الثورة سواء كانوا من اليسار أو من الليبراليين وأن يختطف الثورة وإيران ويؤسس لجمهورية إسلامية لا يوجد فيها مكان لمن لا يؤمن بهذه الجمهورية الإسلامية التي تحكم بإرادة المرشد الأعلي الولي الفقيه. استدعاء هذه التجربة دفع ويدفع للحيلولة دون تكراره في مصر من منطلق الوعي بأن مصر ليست إيران. هذه المعاني كلها تؤكد أنه لا بديل عن العودة إلي التوافق الوطني والشراكة الوطنية والتوقف عن التخوين المتبادل ونوازع التفرد والتسلط والسيطرة علي السلطة بمنظور انتهازي لن يحقق انتصارا في نهاية المطاف لأي طرف من الأطراف. الآن, وبعد أن تبددت غيوم هذه المؤامرة ولم تحكم المحكمة الدستورية بحل الجمعية التأسيسية أو مجلس الشوري هل نأمل أن تهدأ العقول الملتهبة ويتروي الرئيس وتيار الإسلام السياسي وأن يتيحوا الفرصة لبديل آمن يحفظ لمصر وحدتها ويحمي ثورتها ويؤمن لها وفاقها الوطني ويلهب غيظ كل أعدائها والمترقبين لفشلها وانتكاسها, لكن يبقي السؤال عن الفارس أو الفرسان الذين في مقدورهم طرح هذا البديل الآمن. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس