يبدو أن فريقا من الناس لا يستشعر خصوصية الدستور من حيث كونه العقد الاجتماعي الوحيد الذي يتطلب توافق الضمير الجمعي للأمة; كما يعجز الفريق نفسه عن تقدير موقع الدستور في البناء الديمقراطي من حيث كونه الركيزة الأهم التي تنسلخ منها وتتمحور حولها مؤسساته. ويغفل الفريق وأيضا عن إدراك مفهوم المشاركة ويؤثر منطق المغالبة طريقا للاستحواذ, ويحول الخلاف في الرأي إلي تكفير وتعارض الرؤي إلي خيانة, ويعتمد علي الحشد الضاغط لفرض الإرادة.. وكلها سلوكيات تعصف بالديمقراطية وتعود بنا إلي نزعات نظنها قد طويت, الأمر الذي يثير قلقا حقيقيا حول المقاصد العليا للإسلام السياسي الحاكم, ويلقي علي القوي والتيارات السياسية والاجتماعية مسئولية تاريخية في تجنيب صراعاتها وتوحيد صفوفها لمواجهة تلك التحديات للحفاظ علي مصر الدولة والوطن والمجتمع أمة مدنية الهوية ديمقراطية البناء مستنيرة قادرة علي تحقيق طموحات متزايدة لأبنائها والتعامل مع عالم متغير يموج بثورة تكنولوجية شاملة أفرزت بدورها تحديات تدوس الضعفاء وتهزم المتخلفين.. ما قولكم في مسودة العقد الاجتماعي الأساسي لأمة غاب التوافق حوله وصنعته المغالبة وترفضه معظم الأحزاب والقوي السياسية وغالبية المنظمات والمؤسسات وفي مقدمتها المؤسسة الدينية متمثلة في الأزهر الشريف والكنيسة القبطية, ومؤسسات القضاء والقضاء العسكري والنقابات المهنية والعمالية والزراعية والمجالس والجمعيات المعنية بشئون المرأة والأمومة والطفولة..؟ ثم ما قولكم في مسودة دستور تضم نصوصا حاكمة تأخذ أخري رهينة وتجعلها أسيرة تفاسير واجتهادات هي بطبيعتها متغيرة ومحكومة بهوي البشر وقد تخضع لمزاج السلطة وتأثير السلطان؟ إن ثمة استشعارا بمحاولات الانقلاب علي ثوابت استقرت في ضمير الأمة عبر قرون والنزوع بها نحو هوية تخرجها عن مسار الدولة الديمقراطية المدنية المعاصرة الشعب فيها هو مصدر السلطات والسيادة فيها للدستور والقانون.. ويتجسد هذا الاستهداف بوضوح بصفة خاصة في نصوص حاكمة بالمادة الرابعة والمادة العشرين بعد المائتين, مع سيولة والتفاف وإشارات لحقت صياغة مواد أخري مثل المادة(68) الخاصة بالمساواة بين الرجل والمرأة, وغيرها.. وكلها تتكامل في إحداث ذاك الإنقلاب وتنال من تلكم الثوابت وتفسح المجال لإفساد المقاصد وخلخلة الحقوق والمراكز القانونية المتساوية, كما تزج بالمؤسسة الدينية وتقحم هيئة كبار علماء الشريعة في مسرح السياسة, الأمر الذي ينال من هيبتها ويعرضها لملوثات ذاك المناخ عموما.. في ظني أن تلك المواد تحمل في مجملها بذور الفتنة وتهدد الاستقرار الدستوري والقانوني وتزعزع الأمن الاجتماعي.. إن العودة إلي الهوية التي اختطفت وشوهت علي مدي أكثر من نصف قرن يتعين أن يكون الأساس والمنطلق بدونها تستمر حالة الردة التي أصابت الأمة وتضيع هويتها التي استقرت في ضميرها أو تذوب في إطار كيان أكثر اتساعا وشمولا لا ينكر البعض استهدافه.. ولعل الأخطر في ذلك كله هو احتماء البعض بالاستفتاء العام علي مسودة الدستور يقينا منه بأنه سوف يأتي بإقرارها واختطاف دستور ترفضه نخب المجتمع ومعظم مؤسساته ومنظماته.. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا, ونحن في دولة تشكل نسبة الفقراء فيها نحو70% من بينهم40% دون حد الفقر ويلهثون وراء لقمة العيش, وتصل متوسط الأمية الهجائية فيها40%.. هل في دولة هذا حال مواطنيها, وفي مجتمع يغوص نحو نصف سكانه في ظلمات الأمية, يمكن الاحتكام إليهم في تقرير مصير العقد الاجتماعي الأساسي للأمة؟ وهل يمكن لهؤلاء استيعاب أهمية الوثيقة وفهم نصوصها التي تبدو معقدة علي بعض المثقفين؟ إن الدستور منارة الأمة والقول الفصل في صناعته, علي خلاف انتخابات المجالس النيابية والمحلية, يتعين أن يكون مشروطا بحد أدني من تجاوز الأمية, ولا أقول حدا أدني من الثقافة.. ذاك قيد لا يخل بمبدأ المواطنة, لأنه حال تقنينه دستوريا, لا يعد تمييزا بين مراكز متكافئة, ويزول بزوال مسبباته وهي الفقر الذي يفسد الإرادة والعوز الذي يضلل الاختيار والأمية التي تنحرف بالمشاركة عن مقاصدها وتضاعف من الآثار السلبية لذلك كله.. إن مواطنا لا يملك قوت يومه يستحيل أن تتحرر إرادته ويسهل التأثير عليه اما بتلبية بعض من احتياجاته الأساسية أو بدعوات دينية تعده بالجنة وتحذره من النار.. نحن في حاجه إلي نص دستوري يضع شروطا خاصة لمن يحق له التصويت في الاستفتاء العام علي الدستور, مع استلزام موافقة نسبة لا تقل عن67% من الأصوات الصحيحة للمشاركين في الاستفتاء لإقرار دستور يتوفر له الحد الأدني من الوعي به والتوافق المستنير عليه.. والمحصلة لا لصناعة المغالبة وألف لا لاستفتاء الأمية.. إن الإدراك الوطني للمشهد الذي أغرقتنا فيه جمعية تأسيسية تلاحقها شبهة عوار في تشكيلها, يفرض التفكير بجدية في بدائل تخرجنا من تلكم الحالة.. وأحسب أن تعظيم المصالح العليا للأمة والانتفاض بالدولة والنهوض بها من مستنقع التراجع إلي آفاق الإصلاح والتغيير وإعادة البناء, يحتم تعليق موضوع الدستور مرحليا وحتي نهاية الولاية الرئاسية الأولي والاكتفاء بدستور مؤقت متوافق عليه ديمقراطيا, إما بتعديل الإعلان الدستوري ليأتي أكثر شمولا, أو بإحياء دستور1971, مع إجراءات تعديلات جوهرية عليه وبصفة خاصة فيما يتصل بصلاحيات رئيس الجمهورية وتشكيل وانتخابات مجلسي البرلمان.. مع استنهاض الجميع للاستفادة من المرحلة لإتاحة فرصة لتعددية حقيقية أكثر توازنا تفسح المجال لتداول ديمقراطي للسلطة في الحياة البرلمانية بمجلسيها والتنفيذية بشقيها.. الأمر الذي يخلق توازنات قادرة علي صناعة دستور يعبر بصدق عن الضمير الجمعي للأمة محصن من هيمنة الغلبة واستحواذ المغالبة. أقول هذا وقد أضاف الإعلان الدستوري الصادر في22 نوفمبر المزيد من الضبابية علي الحالة المصرية, وانتقل بها إلي منعطف يزعزع الثقة في إمكانية بناء الدولة الديمقراطية المدنية المنشودة, مع شبهة الانقلاب عليها والانتكاس بها; ينزلق بالوطن إلي صراعات تعمق انقساماته وتعطل مسيرته وتهدد استقراره; يثير قلقا مشروعا حول التأسيس لإطلاقات السلطة وتمركزها والانحراف بها وإفسادها, والانقضاض علي مؤسسة القضاء والإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات وتقزيم دولة القانون; طارد للاستثمار, ويأخذ الاقتصاد إلي مزيد من التردي, ولا يقدم حلولا ملهمة متوافقا عليها تخرج الأمة من واقعها الذي يشكل استمراره خطرا كارثيا علي أمنها الاجتماعي والقومي معا.. إن دستور الأمة هو رمز القيمة والقامة والتعبير الحقيقي عن إرادتها المتحررة من الخوف والجهل والعوز وضميرها الجمعي, كما أنه منارة الطريق إلي المستقبل.. والانحراف به تحت أي ستار أو إدعاء أو حصانة يفرغه من مضمونه ويبطل مشروعيته ويرديه عملا مشوها آيلا للسقوط... المزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى