أمة تحمل علي أكتافها حضارة تغوص أعمال التاريخ تشكل بها ضميرها وصيغ وجدانها وتمثل أحد أهم مصادر الاستنارة والتقدم في مسيرة الإنسانية... بعيدا عن الاكتفاء باجترار التاريخ واستمزاج العيش علي تراثه والتباهي به نقول أمة هذا شأنها من حقها اليوم أن تتعافي وهي تمتلك الإرادة وتستطيع, ولكن ثمة تساؤلات تفرض نفسها: أولا التعافي من ماذا وهذا سؤال حول تشخيص الواقع بكل مضامينه ومحاذيره وتحدياته, وثانيا كيف يكون التعافي سؤالا عن الرؤي والأهداف والآليات والوسائل, ثم ثالثا متي يكون التعافي وذاك سؤال حول الاستراتيجيات والسياسات والخطط والبرامج ومراحل التنفيذ. فمن حيث محاولة تشخيص المشهد ورصد محاذيره وما يحمله من تحديات, فإنه ليس مستغربا حالة الارتباك, وربما التخبط الذي يصل أحيانا إلي ذروة العشوائية في التقدير والإفصاح, باعتبار أن ذلك كله من إفرازات مناخ غير صحي تتعدد فيه الرؤي وتتنوع فيه التيارات, وقد يتحاور بعضها ولكنه إما تكتيكيا حول الجزئيات أو مبادلات ومناورات الطرشان حول الأصول... مناخ يفتقد إلي ضمير جمعي للأمة قادر علي استيعاب متطلبات ثورتها وراغب في التعامل بجدية وتجرد وشفافية مع مضامين أهداف وتطلعات مصر جديدة ديمقراطية مدنية حديثة, الشعب فيها مصدر السلطات والسيادة فيها للدستور والقانون والمواطنة فيها, حق دستوري حاكم والعدل فيها أساس الحكم الرشيد... نقترب من العامين علي ثورة فاصلة وباترة وهذا حالنا اليوم تردي وتراجع تتحمل المسئولية الأولي عنه النخب المصرية بكل أطيافها وعلي تعددها, بوصفها العقل الجمعي للأمة الذي يجسد ضميرها ويشكل وجدانها, تلك النخب قد أستغرقتها الصراعات واستهوتها المناورات والمجادلات ورغبات متباينة في الاستحواذ بدلا من التوحد حول الأهداف والمصالح العليا للوطن غافلة أو متجاهلة الأخطار الكارثية للأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تعبر عن نفسها وتنذر بانفجار كبير... تلك تهديدات تصب في خلق مناخ يلقي بظلال حمراء علي الأمن القومي المصري ليس فقط بإضعاف قواعده الداخلية بل أيضا يفتح شهية المتربصين من حولنا وعلي مسافة منا بهذا الوطن الكارهين لخيره واستقراره... وهم لو تعلمون كثير. هذا المناخ شديد الضبابية والمثير للقلق والمزعزع للثقة, أفرز اقتصادا يكاد يتهاوي تدني فيه الإنتاج وتراجعت السياحة وانكمشت الاستثمارات وتباطأ النمو وتفاقمت البطالة ليتجاوز متوسطها20%, وتزايدت معدلات الفقر وعز العيش الكريم علي70% من المصريين, وارتفع عجز الموازنة ليصل إلي11%, وعجز في ميزان المدفوعات يتجاوز14 مليار دولار, ويرتفع العجز في الميزان التجاري إلي أكثر من31 مليار دولار, وتحتل مصر المركز الثالث, بعد كل من إسبانيا واليونان, بين الدول الأكثر مديونية إذ يمثل الدين العام نحو82% من الناتج القومي الإجمالي... وترتب علي ذلك تخفيض التصنيف الائتماني لمصر أكثر من مرة, كما تراجع مركز مصر في التنافسية العالمية إلي107 من بين144 دولة. من حيث التحديات الأمنية فبينما يلاحظ التحسن النسبي المتدرج في حالة الأمن الداخلي, فإن مصر تواجه تحديا أمنيا غير مسبوق علي حدودها الشرقية في شبه جزيرة سيناء... هذه المرة ليس آتيا من اسرائيل بل تمارسه عصابات إجرامية وجماعات جهادية وتكفيرية, في معظمها فلسطينية التشكيل والقيادة, تسللت عبر انفاق انشغلوا بصناعتها عن قضيتهم الأساسية في ممارسات سافرة تمثل اختراقا للأمن القومي المصري وعدوانا فجا علي السيادة المصرية.. وتمثل السياسة الخارجية للجمهورية المصرية الثانية تحديا يتعين أن ينال اهتماما متقدما, إذ لم يعد خافيا أن هذه السياسة قد أصابها قدر كبير من التراجع اسهمت فيه مجموعة من العوامل لعل في مقدمتها غياب ثوابت حاكمة; احتكار القرار السياسي; الاعتماد علي المعونات الخارجية ليس فقط في القطاعات الاقتصادية, بل أيضا, وبصفة أكثر حساسية, في التسليح ومصادر السلاح, وظهور مراكز قوي جديدة أغراها تراجع الدور المصري علي محاولة الاستفادة عساها تشغل الكرسي المصري المتروك أو المرتعش, حرضتها علي ذلك وعززتها قوي إقليمية ودولية غير خافية... نحن في مصر لا نزال نتعامل مع موضوع الدستور وكأنه أمر حديث علينا وكأننا لا نمتلك رصيدا دستوريا غير مسبوق في محيطنا وفي موقع متقدم عالميا... مع هذا الرصيد, فشلنا في الاتفاق علي مبادئ حاكمة لا يجوز الاقتراب منها وتستعصي علي أي محاولات للاختراق... فشلنا في التوافق علي تشكيل الجمعية التأسيسية المنوطة بوضع مشروع الدستور.. وداخل الجمعية فشلنا في التوصل إلي توافق حول معظم المواد المقترحة... وفي ظني, والحال كذلك, أننا أمام احتمالات ثلاثة إما التوافق الجمعي علي مشروع الدستور من خلال التشكيل الحالي للجمعية, رغم ما فيه من عوار يهدده بالبطلان, وهذا احتمال يبدو بعيد التحقق في ظل رغبة البعض الأخذ بمنطق الغلبة طريقا للاستحواذ; أو أن يصدر القضاء حكما ببطلان التشكيل ومن ثم يتجدد الأمل في إعادته علي نحو متوازن يمثل تراث الأمة بكل أطيافها وتياراتها ويبعده عن خطر البطلان, وهذا هو الاحتمال الأوفر حظا, وفي هذه الحالة يصبح إنجاز دستور يعبر بصدق عن ضمير وعقل المصريين احتمالا ممكنا في الأجل القريب نسبيا; والاحتمال الثالث, والذي أحسبه الأكثر ملاءمة, هو تعليق الموضوع بكامله, مع تعديل في الإعلان الدستوري يسمح بالعمل بدستور1971 المعدل, وإجراء تعديلات متوافق عليها خصوصا فيما يتعلق بانتخابات وصلاحيات مجلسي البرلمان وصلاحيات رئيس الجمهورية... وذلك لحين استقرار الحالة المصرية واجتياز المرحلة الانتقالية الثانية والتي يتوقع أن تستغرق الفترة الأولي للولاية الرئاسية, وقد تتجاوزها, علي أمل ظهور توازنات مناسبة بين القوي والأحزاب السياسية تحول دون الغلبة وتقلل من فرص الاستحواذ في صناعة الدستور أو السيطرة علي الحياة السياسية أو احتكار سلطة اتخاذ القرار عموما, الأمر الذي يتوقع معه توفير مناخ أكثر صلاحا وتوازنا لممارسات ديمقراطية تفسح المجال لفرص تمكن من تداول السلطة إعمالا للقواعد الحاكمة في البناء الديمقراطي... إن الأمة المصرية في حاجة إلي رؤية قصيرة الأمد للتعافي تتعامل بجدية وشفافية وبأسلوب علمي, لا عشوائية فيه ولا عنترية ولا نفاق, مع مجمل التحديات والمعوقات علي نحو يعلي المصالح الوطنية ويخرجنا من الموقف المتأزم ويضع الجمهورية الثانية في مسارها الصحيح نحو الاستقرار والنهضة.. ثم رؤية متوسطة وطويلة المدي لمصر خلال العشرين سنة المقبلة والرؤية في الحالتين يتعين أن تكون شاملة متكاملة تتضمن الأهداف والاستراتيجيات والسياسات والخطط والمناهج ومراحل تنفيذها بحيث تبدأ كل مرحلة من حيث انتهت سابقتها وتبني عليها... وهكذا نسير بالدولة وفق خارطة طريق توافق عليها العقل الجمعي للمصريين يأخذها في مسار محسوب من سنة الأساس إلي سنة الهدف, تتناغم وتتكامل عناصرها وصولا لتحقيق طموحات أمة تستحق التعافي وتستطيع, كما تملك مقومات تمكنها من موقع متقدم في محيطها وفي هذا العالم المتغير... وفرض علينا في ذلك كله أن نعمل بقوتين نعوض بالأولي عقودا من الضياع والاستنزاف والفساد, ونشق بالثانية طريقا نهضويا نحو مستقبل أكثر إشراقا. المزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى