الدستور ليس وثيقة سياسية تعكس إرادة القوة داخل المجتمع ، إنه وثيقة حضارية تعكس روح الأمة وحضارتها وتعبر بصدق وشفافية عن العقل الجمعي لها بكل ما يتضمن من أحكام أخلاقية وقيم إنسانية وعمق تاريخي وقدرات ثقافية وإيمان بحق المستقبل في الحضور وأحقية التاريخ بالتقدير وكذا نضالات الأفراد والجماعات من أجل الحفاظ علي بقاء الأمة ووجودها. شرعية الدستور وفي تقديري أن دستور الدولة ليس حالة مرجعية لضبط إيقاع النظم والقواعد الحاكمة للعلاقة بين الحاكم والشعب والمؤسسات والسلطات فحسب، وليس مجرد مجموعة من الأحكام والقواعد والمواد التي تعبر عن تجانس داخلي وتماسك ونسقية. الدستور إذن هو الإطار النظري لشرعية وجود الدولة ، ليس وجودا علي الخريطة الجغرافية إنه اللحظة التي تتحد فيها العناصر الحية للعقل الجمعي للأمة الذي تشكل في حالتنا المصرية من انصهار سبائك حضارية فرعونية ورومانية ومسيحية وإسلامية وغربية منذ آلاف السنين ، وتلاقحت علي أرضه أمم وثقافات وديانات وجنسيات وعرقيات متنوعة، وإن لم يستند الدستور في شرعيته علي مبدأين فإنه يصبح فاقدا لإرادة الحق ، وهما الرضا الشعبي الكامل والانعكاس الأمين لخصائص العقل الجمعي للأمة. فالشعب هو الذي يمنح الدستور شرعية القوة ، والعقل الجمعي والضمير الإنساني والقيم العليا هي التي تمنحه شرعية الحق ، فدستور بلا رؤية أو فلسفة هو دستور بلا رأس ، ودستور بلا قبول شعبي تام هو دستور بلا أطراف ، وبالتالي أخشي أن نصنع دستورا سياسيا مجردا يستمد شرعية وجوده من الجغرافيا السياسية الحالية ويعبرعن مراكز القوي داخل المجتمع ، تلك المراكز التي تأسست في ظل نظام حكم استبدادي استباح العقل الجمعي للأمة فتركه فريسة لثنائية التأسلم السياسي والنموذج الطفيلي الاستهلاكي ، وللأسف فرضت علينا الظروف صياغة دستور في أشد لحظات ضعف الأمة المصرية وأشد مراحل تآكل العقل الجمعي لها. نصيغ دستورا في ظل مناخ رجعي وحياة سياسية راكدة وتراجع ثقافي وحضاري وأخلاقي وعلمي وتدهور تام في خصائص الإنسان المصري الأساسية. لقد كان التنظير لدستور يوناني في عصر سقراط وأفلاطون معبرا عن فلسفاتهما في نظم الحكم ، فشهدنا دستور اسبرطة للمشرع "ليكورغوس" في القرن السادس قبل الميلاد ، وكذا دستور أثينا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد للمشرع سولون ، وكانت نظرية أفلاطون حول فلسفة الدستور ماثلة في عقول المشرعين من خلال كتابه " القوانين " . كذلك أسست أفكار هوبز ولوك ومونتيسكيو و روسو للدساتير الغربية في مرحلة صعود البرجوازية وتحول المجتمعات الغربية الي عصر الصناعة وقيام نهضة تنويرية وحداثية. كانت الدساتير دائما تبني في أقوي مراحل قوة الدول، وفي لحظات تبحث فيها عن الكيفية التي تحقق بها إرادة الشعب القائمة علي قوة الحق، ومن ثم جاءت دساتير معبرة عن العقل الجمعي سواء للأمة الإغريقية أو للشعوب الغربية وضعت من خلالها أسس نظم الحكم وتنظيم العلاقة بين السلطات وأسست للقواعد العامة لحرية الفرد والممارسات السياسية والمواطنة والحقوق الإنسانية. لقد فهم هؤلاء أن جوهر الدستور يكمن في خلق حالة الرضا العام ، ولا يكمن في الغلبة التصويتية لدي الأغلبية ، فالتجانس بين مواد الدستور لايعني إجماع الكثرة - الذي قال عنه ديكارت أنه لا يقف بمفرده دليلا علي حق - ، وإنما يعني فهم العقل الجمعي في إطاره التاريخي وليس في جغرافيته السياسية التي اخترقها الغزو الثقافي من الشرق والغرب في العقود الثلاثة الأخيرة. قواعد العقل الجمعي والحديث عن العقل الجمعي وما يترتب عليه من وعي وسلوك وأداء يستلزم البحث فيمن يشكله أو كيف يتكون. إن هذا البحث يستوجب طرح السؤال الأولي التالي : لماذا لاحظنا وجود ملصقات منتشرة علي جدران الشوارع تحذر من المساس بالمادة الثانية من الدستورالمتعلقة بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع ، ولم نجد ملصقا يحذر مثلا من المساس بالمادة 32 المتعلقة بدور الملكية الخاصة أو المادة 46 المتعلقة بحرية العقيدة أو المادة 87 المتعلقة بنسبة العمال والفلاحين ؟ هنا نحن أمام إرادة القوة التي تفرض وجودها وتأثيرها علي طبيعة التوجه الدستوري بما يخالف العقل الجمعي، فاذا كانت القوي الشعبية الحية تساند وتدعم التوجهات القومية أو الناصرية مثلا لاستحال التطاول علي نسبة تمثيل العمال والفلاحين. علي أي حال إذا ما كان العقل الجمعي هنا هو المؤلف الحقيقي للدستور فما هي قواعده: القاعدة الأولي: أن الحق مطلوب لذاته، وهذه القاعدة تؤسس منطقا جديدا في تناول قضية المجتمع متعدد الديانات والثقافات ، وهو ما يستلزم وفقا لمنطق العقل وحجة الحق وواقع الحال أن نبني دستورنا علي الإقرار بمرجعية الحضارة المصرية للدستور ومن بينها بالطبع الديانتين المسيحية والإسلامية ، لأنه في حال حديثنا عن حضارة إسلامية فقط فإننا نشتبك مع أبعاد ثقافية ومذهبية خارج حدود حضارتنا المصرية ، فالتقارب الحضاري بين المصري المسلم والمصري المسيحي أكثر واقعية من التقارب الحضاري بين المصري المسلم والأفغاني المسلم ، والحديث عن مرجعية الشريعة الإسلامية في مجتمع متعدد الديانات والمذاهب والملل ينقله مباشرة إلي مجتمع طبقي دينيا وطائفي مذهبيا ، وهذه الفكرة إذن تقض ذلك الأساس المفترض في أن الدستور هو وثيقة إعلان المساواة وتحقيق العدالة النظرية، والمساواة هنا تعني الحقوق المكتوبة صراحة وليست المتضمنة في الشرع الإسلامي لأهل الذمة، وكأن تفسير المادة الثانية هنا سيأتي من خارج الدستور نفسه ، فصار بذلك دستورا شارحا لفقه معاملة غير المسلمين. إن القاعدة المستقيمة في الدستور أن خيوط الاتصال بينه وبين الأفراد تتساوي، نحن لا ننشيء دستورا إسلاميا أو مسيحيا فالإسلام أو المسيحية ليسا في حاجة الي دساتير لتوثق وجودهما ، نحن ننشيء دستورا وطنيا يحكم وينظم العلاقات البشرية الحياتية بين المصريين أجمعين ، فإن أطل بناظرية نحو أغلبية مسلمة فقد انحاز للقوة فصار شرطا وقانونا ملزما علي الجميع وليس دستورا كاشفا لمعاني الحياد والنزاهة. إن المطالبة بإلغاء المادة الثانية من الدستورليس فيه بخس لحق المسلم الذي يعيش علي أرض مصر فحقوق المسلمين وغيرهم تضيع حينما ينال الدستور من حقهم في الاعتقاد أو التدين أو حينما يمنع الدستور عن بعض المصريين حقوقا ثابتة بأحكام الإنسانية، وبالتالي فليس من حرج أو غضاضة ألا ينص الدستور علي مصادردينية للتشريع ، فالأديان لا تحتاج إلي دول أو دساتير لكي تعيش إنها نص مقدس يحكم العلاقة بين الأفراد بوصفهم مؤمنين وربهم، ولا يحكم العلاقة بين الدولة والخالق.هذا بالإضافة إلي أن مسلمي أوروبا والولايات المتحدة مثلا لم ينقص إيمانهم لكونهم يعيشون في ظل دستور مدني او علماني . القاعدة الثانية: أن الدستور لا ينشأ من العدم ، بل هو نتاج إرادة أمة تسعي نحو التعايش والتقدم ، وإن لم تتحقق هاتان السمتان في تلك الإرادة فلا وجود لها ، والتعايش هنا مبعثه القناعة الجماعية التي تتولد لدي الأفراد بأن لهم في الدستور والوطن ومؤسساته بمثل ما لغيرهم وفقا لمعيار الكفاءة ، وليس لنا أن نؤصل القناعة لدي طرف علي مقولات وتعهدات طرف آخر، لأن المقولات تتغير والتعهدات تتبدل بحسب قائليها ، وكما يقول الإمام علي بأن النص المقدس كلام مسطور بين دفتي كتاب ينطق به الرجال ، فربما تبدل الرجال فتتبدل الأفعال ، ويصبح النص الدستوري مصدراً ملهما للتأويل والتأرجح، وهو تأويل لا تحتمله ظروف مجتمعنا. أما التقدم الذي هو السمة الثانية لإرادة الأمة فنعني به الأخذ بأسبابه في كل المجالات ومن أهمها الجانب الدستوري المدني . إن العلاقة بين المدنية والتقدم هي علاقة ارتباط العلة بالمعلول أي علاقة ضرورية. القاعدة الثالثة: إرادة الحق منشئة لإرادة القوة.وسأضرب مثالا بسيطا لهذا المعني، الرقم 9 هو حاصل جمع الرقمين 7+2، وليس من شك في أن قوة العدد 9 أكبر من قوة العدد 7. إن الرقم 9 هنا يعبر عن إرادة الحق والواقع التراكمي للأشياء إذا كان الجمع صحيحا، أما إذا أصر أحدنا أن الرقم 9 = 7 فإن هذه النتيجة تعبر عن إرادة القوة وهي غير منشئة للحق. وهذا المثال التوضيحي ينطبق علي عنصري الأمة المصرية فإذا ما أقر الدستوربأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع فإننا بذلك نُعلي إرادة القوة المتولدة من الكثرة العددية عن إرادة الحق الناجمة عن حاصل جمع أفراد المجتمع بوصفهم أفرادا مدنيين لهم حقوق متساوية في التعايش ولديهم رغبات في التقدم بناء علي الصلاحية والكفاءة. إن النص الوارد في المادة الثانية مشكلته المنطقية في تقديري أنه يمنح الأغلبية الدينية حقوقا مدنية أكثرمن الأقلية، ويفرض المرجعية الإسلامية علي غير المسلمين وبذلك يقف حائلاً دون نقاء فكرة مدنية الدستور مهما تكاثرت مواده الأخري ذات الطابع المدني، ذلك لأن القانون الاستقرائي يقول بأن حالة واحدة موجبة تصادر علي وجود حكم عام بالسلب ، فمادة واحدة تشير لبعد ديني دون آخر تسقط عن الدستور مدنيته. هذه هي قواعد العقل الجمعي للأمة والأسس الفلسفية للدستور- كما أراها- ولكن السؤال الآخر الذي يستحق الإجابة من هم مؤسسو العقل الجمعي للأمة؟ دستور الثورة ليس من اليسير أن يستوعب هذا المقال بحثا جديا في الكشف عن مصادر ومقومات العقل الجمعي للأمة المصرية، فالموضوع قد يمتد لآلاف السنين من حكمة الأولين التي توارثناها في جينات العبقرية المصرية القديمة وحتي الإسهام الفكري والثقافي لمصر الحديثة منذ مدرسة الطهطاوي الفكرية وإلي يومنا هذا. إن هذا العمق الحضاري للأمة المصرية يلقي علينا عبئا ثقيلا من المسئولية أمام التاريخ والمستقبل في إنتاج دستور يليق بهذا العقل الجمعي الذي تراكمت عليه المعارف والخبرات، وأعتقد أننا سوف نجني علي أنفسنا كثيراً وعلي مجتمعنا إن لم نستثمر كل الجهود والكفاءات الفكرية والعلمية التي تذخر بها مصر في بناء دستور جديد يأتي في أعقاب ثورة شعبية سيقف أمامها التاريخ طويلاً، دستور يعبر عن طموحات شعب يتوق للحرية وشباب يأمل في المستقبل بعد أن وقف علي حافة الموت لكي ينتزع حقه في الحياة. إن الدستور الجديد لكي يأتي معبراً عن الأمة وعقلها الجمعي لابد أن يتخطي حدود النظام والنسقية والاتزان الحرفي للمواد والعبارات الي ما هو أبعد من ذلك بكثير، الي دستور في مقدمة دساتير العالم كما كانت ثورتنا من أعظم ثورات العالم.