إن المنادين بالمبادئ فوق الدستورية يدفعهم إلي ذلك رغبة عينة.. أن يتضمن الدستور من المبادئ مايخدم مصالحهم و فكرهم ومشاعرهم. وحتي لايصدر الدستور بغيرها يجب أن توضع فيه هذه المبادئ قسرا ومنذ الآن حتي يتحقق لهم في النهاية مايريدون. وهذه الخشية أو هذه الرغبة لن تكون هي التي تحكم الدستور كله. فهنا تساؤل ضروري: ماهي الديمقراطية؟ هل هي حكم الإجماع أم حكم الأغلبية ؟ إن الديمقراطية في معناها الواضح هي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه, ويأتي بعد ذلك أمر آخر: انها تتحقق عن طريق صناديق الاقتراع, فيثور تساؤل ثان هل هي حكم الأغلبية أم حكم الاجماع؟ هل يشترط لابرام أمر معين أن يوافق الشعب عليه بالاجماع أم تكفي فيه الأغلبية؟ إن المنادين بالمبادئ فوق الدستورية يتصورون أن الديمقراطية هي حكم الاجماع, فالامر يجب ألا يترك في ذلك لصناديق الاقتراع, وانما يجب أن يحسم كله قبل أن يصل إلي صناديق الاقتراع, ومن هنا تأتي الحاجة عندهم إلي المبادئ فوق الدستورية ولم يقل عاقل أو مجنون إن الديمقراطية هي حكم الاجماع, فلا اجماع في الأمة في مسائل سياسية واتجاهات فكرية في بلد تصل فيه الأحزاب والجماعات السياسية إلي مايقرب من مائة أو تزيد. فلا مفر من القول إن الديمقراطية هي حكم الاغلبية. ويوم نسأل الشعب أو نستفتيه أو نطلب رأيه فإن الرأي الغالب هو رأي الأغلبية مهما أغضب ذلك جموع الأقلية. ولايمكن أن تأتي الأقلية سواء أكانت أقلية سياسية أو فكرية أو غير ذلك تحاول أن تلوي ذراع الامة حتي تكون الديمقراطية في النهاية هي حكم الاجماع فهؤلاء الذين يذهبون إلي توافر اجماع القوي السياسية إنما يطلبون أمرا مخالفا لجوهر الديمقراطية. وهذه المبادئ فوق الدستورية التي يراد وضعها قبل الدستور لكي تفرض علي الأمة فرضا لايمكن التسليم بها في نظام ديمقراطي يقوم أصلا علي حكم الأغلبية. ونعود فنسأل هل هناك ما يفرض علي الشعب وهو يضع دستوره؟ وفي عبارة آخري, هل هو شعب حر أم شعب تحت الوصاية؟ إن الاجابة عن ذلك أوضح ما تكون, فهو شعب حر, وليس شعبا تحت الوصاية أيا ماكانت الجهة التي تدعي لنفسها الوصاية. وإذا انتهينا إلي هذه النتيجة فليس هناك ما يخيف احدا. فإن جموع الامة عندنا عندما تدعي لاستفتاء علي الدستور لاتنسي مطلقا أن الحياة في هذه الأمة منذ عشرات بل ومنذ مئات السنين منذ أن جاء عمرو بن العاص لفتح مصر قد جاء بالاسلام دينا يظلل المواطنين جميعا, ليس فيه تسلط من الأغلبية واستبداد بالأقلية. فعندما يترك الامر للشعب بغير وصاية عليه فليس هناك ما نخشاه ومايخشاه هؤلاء الداعون إلي المبادئ فوق الدستورية. ولا يقبل من إنسان مهما كان موقعه السياسي أن ينظر إلي الشعب وكأنه شعب قاصر تحت الوصاية, في حاجة لوصاية تفرض عليه في رأيه, فهو قادر علي أن يجد طريقه دائما في حرية كاملة. دعوي هزلية نشرت جريدة الشروق في عددها الصادر في18 يوليو في صفحتها الثالثة خبرا يقول إن محكمة القضاء الإداري رفعت أمامها دعوي يطالب فيها المدعي بتنحية المجلس الأعلي للقوات المسلحة عن إدارة شئون البلاد, وتعيين لجنة تحدد المحكمة اسماء أعضائها لإدارة شئون مصر في المرحلة الانتقالية, وقالت الصحيفة بعد ذلك إن عددا من الفقهاء الدستوريين أبدي تحمسهم لهذه الدعوي في مقدمتهم الدكتور إبراهيم درويش الذي قال للشروق إن المجلس العسكري لا يمتلك سندا قانونيا لإدارة شئون البلاد, بل حصل علي هذا الحق في الشرعية الثورية, مشيرا إلي أنه لم يكن من حقه تعديل الدستور أو تشكيل لجنة بتعديل مواده ثم إجراء استفتاء عليها, وقال درويش إن المجلس الأعلي للقوات المسلحة تجاوز كل الحقوق وليس له الحق في إدارة شئون البلاد. وليأذن لي رافع الدعوي والموافق عليها أن أبدي رأيي في ذلك كله وأنا أقدم أساتذة القانون الدستوري في جميع الجامعات المصرية. فهذه الدعوي التي طلب فيها صاحبها من محكمة القضاء الإداري أن تقضي بتنحية المجلس الأعلي للقوات المسلحة عن إدارة شئون البلاد وتعيين لجنة تحدد المحكمة اسماء أعضائها لإدارة شئون مصر في المرحلة الانتقالية, إن هذه الدعوي تمثل أقصي درجات الجهل, بمباديء القانون الإداري وأقصي درجات العزل القانوني فالقضاء الإداري بكل محاكمه ليس من اختصاصه علي الاطلاق أن يعزل رئيس الدولة ويعين رئيسا بدلا منه. فالمجلس الأعلي للقوات المسلحة يقوم الآن بوظيفة رئيس الدولة, رئيس الجمهورية فلا يمكن أن يطلب عاقل من مجلس الدولة أن يقضي بعزل رئيس الجمهورية وتعيين رئيس آخر, إلا إذا كان رافع الدعوي يقصد بهذه الدعوي الهزل وحده أو طلب الشهرة, هذا إذا كان الهزل الشديد مما يؤدي إلي الشهرة. ونأتي بعد ذلك إلي أمر آخر, إلي المجلس الأعلي للقوات المسلحة وحقه وواجبه في إدارة شئون البلاد. ونقطة البداية في ذلك سؤال يطرح نفسه ويجب أن نجد الاجابة العلمية الواضحة عليه: ما هي الثورة التي نعيشها؟ وما هي عناصرها؟ فهل هي مجرد التجمع البشري الكبير الذي ملأ ميدان التحرير؟ هل هي هذا التجمع البشري فقط؟ إن هذا التجمع البشري الكبير وحده باستبعاد كل دور للقوات المسلحة وقيادة المجلس الأعلي للقوات المسلحة ما كان يمكن أن يكون سوي مظاهرة كبيرة يمكن أن يطلق عليها الرصاص من القوات الجوية فتسقط فيها المئات, تماما كما يحدث في ليبيا وسوريا, وبعد المذبحة ينتهي الأمر كله فلا ثورة ولا يحزنون. ولكن ما الذي جعل هذا التجمع البشري ثورة؟ إنه المجلس الأعلي للقوات المسلحة, فقد رفض أن يؤدي واجب الطاعة للرئيس المخلوع, ورفض أن يسايره في موقفه, وتقدم دون تردد لينضم إلي الكتل البشرية الكبيرة, حاميا لها, منضما إلي صفوفها, مباركا لخطاها, وبهذا وحده أصبح التجمع البشري الكبير ليس مجرد مظاهرة وإنما ثورة كاملة. فالمجلس الأعلي للقوات المسلحة ليس ضيفا حل علي المتظاهرين وشيئا ثانويا ما كان لوجوده أثر, بل إنه العنصر الأكبر أو العامل الأهم, الذي بانضمامه إلي المتظاهرين حول المشهد كله من تظاهر إلي ثورة. لقد كان دوره شديد الأهمية وبغيره لم يكن هناك شيء اسمه ثورة علي الاطلاق, وهو بحكم وجوده في القمة من الأحداث أصبح حتميا أن يكون قائدا للثورة: مصدرا لما تحتاجه من قرارات في فترتها الانتقالية. فهو لايستمد شرعيته من المتظاهرين حتي وإن امتلأ بهم ميدان التحرير, وإنما يستمد شرعيته من نفسه من موقفه, من انضمامه اليهم وحمياته له, ورفضه اطلاق الرصاص عليهم مجاملة للنظام في حصدهم واسكاتهم. ومرة أخري إنه يستمد شرعيته من نفسه من موقفه, هذا الموقف وحده الذي جعل التظاهر يتحول الي ثورة, هم وقفوا يتظاهرون.. وهو من أعلي يحميهم من كل انقضاض عليهم يمكن ان يمزق جمعهم حصدا وتقتيلا. فإذا قال الدكتور إبراهيم درويش إن المجلس العسكري لايمتلك سندا قانونيا لادارة شئون البلاد فإننا نقول له ان المجلس الأعلي للقوات المسلحة هو جزء أساسي من الثورة والجزء الآخر هو المتظاهرون في ميدان التحرير, ومن هنا فهو بحكم وجوده في المستوي الأعلي من الثورة أصبح حقا له وواجبا عليه ان يدير هذه الثورة بما يقودها الي النجاح, والذي أود ان أبرزه مرات ومرات أن للثورات قوة مشرعة. فالثورة عندما تقوم تملك من القوة المشرعة مايسمح لها بأن تسقط ماشاءت من النصوص الدستورية القائمة وأن تصدر بدلا منها ماتري من النصوص الجديدة الضرورية, فالمجلس الأعلي عندما أسقط الدستور القديم استمد شرعيته في ذلك من القوة المشرعة للثورة. وبهذه القوة المشرعة للثورة أصدر الإعلان الدستوري القائم, فهذا وذاك مما تقتضيه القوة المشرعة للثورة. فالذي يجب ان ندركه ونتنبه اليه ان الثورات لها قوة مشرعة فهي عندما تقوم فإن الهيئات القائمة عليها تملك إزاحة النظام السابق وإقامة النظام الجديد علي الأسس التي ترتضيها. ولايمكن أن يقال ان مافعله المجلس الأعلي هو انقلاب عسكري, لأن الانقلاب العسكري يقوم أصلا علي جناح واحد وهو الجناح العسكري ورغبة الضباط وارادتهم, أما هذا الذي نراه في مصر فهيوثورة قامت علي الجناحين: الجناح الشعبي لهذه الجماهير الكاسحة التي قامت تهتف ضد النظام السابق, والمجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي انضم اليها ليحميها ويكفل لها البقاء, فالأمر اذن هو أمر ثورة كان المجلس الأعلي للقوات المسلحة شريكا كبيرا فيها منذ البداية. ماذا لو رفض الشعب مشروع الدستور الذي وضعته الجمعية التأسيسية؟ ان الجمعية التأسيسية التي يختارها البرلمان بمجلسيه لن تكون هي التي تصدر الدستور, وتقر الدستور, وإنما مهمتها أقل من ذلك بكثير: إنها فقط تعد مسودة الدستور, أو مشروع الدستور. وبعد أن تعد هذا المشروع تعرضه علي الشعب كله, ومن حق الشعب ان يوافق علي هذه المسودة أو هذا المشروع فيجعل منه دستورا, ومن حق الشعب ان يرفض الموافقة علي هذا المشروع فيسقط. إن هذه الحقيقة غائبة تماما عن كثير ممن يكتبون الآن, وهم يتصورون أن ماتقرره الجمعية التأسيسية سيكون هو بذاته دستورا للبلاد, فما تقدمه الجمعية التأسيسية للأمة هو مجرد مشروع للدستور للأمة أن توافق عليه أو ترفضه. ولكن ماذا لو أتمت الجمعية التأسيسية وضع مشروع الدستور وعرض علي الشعب فرفض الموافقة عليه؟ ما الذي يحدث في هذه الحالة؟ إن الاعلان الدستوري المؤقت الحالي لم ينتبه الي هذه النقطة, ولم يقل ما الذي يمكن أن يحدث بعد قرار الشعب برفض الموافقة علي مشروع الدستور. هل تقوم الجمعية التأسيسية نفسها بعمل مشروع جديد تعرضه علي الأمة, أم يقوم مجلسا البرلمان بانتخاب جمعية تأسيسية أخري لتضع المشروع الجديد؟ في كثير من البلاد بعد أن تفشل الجمعية التأسيسية يتم انتخاب جمعية تأسيسية جديدة تضع مشروعا جديدا غير الذي رفض واعتقد ان هذا هو الرأي السليم الذي يجب أن نأخذ به في مصر, فإذا ما رفض الشعب الموافقة علي مشروع الدستور الذي تضعه الجمعية التأسيسية فإن مجلسي البرلمان يجب ان يختارا جمعية تأسيسية جديدة تضع مشروعا جديدا, وهكذا يتكرر الأمر الي أن تأتي جمعية تأسيسية تضع مشروعا يوافق الشعب عليه في الاستفتاء. وهذه النقطة تستلزم إضافة نص الي النصوص القائمة في الاعلان الدستوري المؤقت يقرر فيها المجلس الأعلي للقوات المسلحة كيف يكون الحال عندما يرفض الشعب الموافقة علي مشروع الدستور. أفكار وجدتها ضرورية لعلها تعين الشعب وهو يبدأ مرحلة جديدة يحكمها دستور جديد, نرجو أن تكون مرحلة إسعاد لهذا الوطن العزيز.