قررت منظمة الأممالمتحدة أن تكون قضية عام1975 هي قضية المرأة, ولمدة عشر سنوات. وفي هذه المدة عقدت أربعة مؤتمرات دولية. وما يهمنا هنا هو المؤتمر الأول لأنه هو البداية في الدعوة إلي تحرير المرأة من قهر الرجل من أجل تحقيق المساواة. واللافت للانتباه هاهنا أن ذلك القهر قد بدأ مع نشأة النظام البطريركي, أي النظام الذي فيه الرجل هو السيد أو سي السيد علي حد تعبير نجيب محفوظ. ومن أجل أن يكون قاهرا أسس نسقا من القيم يدعم به ذلك القهر بمساندة من كبار الفلاسفة. فقد ارتأي أفلاطون أن المرأة شريرة بطبيعتها لأن الآلهة قد صنعت الرجل كاملا ولكنها اشترطت عليه المحافظة علي كماله حتي ينعم بحياة سعيدة بعد الممات, وفي حالة الاخلال بهذا الشرط فليس من عقاب سوي أن يولد مرة ثانية علي هيئة امرأة. وكرر أرسطو رأي أفلاطون فقرر أن الطبيعة منحت الرجل عقلا كاملا أما المرأة فمنحتها عقلا أقل, ومن هنا كانت وظيفتها العناية بالأطفال وبالمنزل تحت اشراف الرجل. ولم تكن آراء أفلاطون وأرسطو بمعزل عن المجتمع الأثيني المأثور عنه في تاريخ الانسانية أنه كان مجتمعا عبوديا ورجوليا في آن واحد. وقد ترتب علي احتقار المرأة, في ذلك المجتمع, انتشار الشذوذ الجنسي. وفي العصر الوسيط لم تكن آراء الفلاسفة مباينة لآراء أفلاطون وأرسطو. يقول كبير فلاسفة ذلك العصر القديس توما الأكويني إن المرأة رجل ناقص ومخلوق عرضي. ولم يكن هذا القول غريبا عن الطابع المميز للعصر الوسيط وهو الطابع الاستغلالي المتمثل في النظام الإقطاعي ذلك أن من سمة الاستغلال تشويه صورة الإنسان. ولكن مع بزوغ الثورة الصناعية واندماج المرأة مع الرجل في عملية الانتاج, وانفجار الثورة الفرنسية استنادا إلي مبادئ الإخاء والحرية والمساواة, تغيرت رؤية الفلاسفة إلي المرأة فخلت من سمة التحقير. إلا أن هذه الرؤية لم تدم طويلا, إذ سرعان ما تمسكت البرجوازية الصاعدة, من أجل ترسيخ كيانها, بالأخلاق القديمة, وأعلنت أن ضمان الملكية الخاصة يستلزم ترك المرأة للعمل المنتج والعودة إلي البيت. وجاءت الثورة الشيوعية وأعلن زعيمها لينين في حديثه إلي أول مؤتمر للنساء العاملات في 19 نوفمبر 1918 أن الاشتراكية قادرة علي تحرير المرأة من وضعها العبودي, إلا أن التحريرلن يتحقق آليا وتلقائيا, إذ يشترط فاعلية النساء العاملات, أي أن تحرير المرأة مرهون بها علي حد قوله. ومعني قول لينين هذا أن الرجل قد يكون عائقا, في المجتمع الاشتراكي, أمام تحرير المرأة. وهذا ممكن بحكم التراث الإنساني, إذ هو تراث رجولي, أي تراث من صنع الرجل وحده, تراث يصور المرأة علي أنها جنس ليس إلا, ويصور العلاقة بين الرجل والمرأة علي أنها علاقة تقف عند حد الجنس ولا تتجاوزه إلي حد الإنسان. ويعتبر فرويد الممثل الشرعي لهذا التصور. فحديثه عن المرأة مقصور علي الوظيفة الجنسية, وتفسيره للحب والكراهية مردود إلي الغريزة الجنسية وحدها. ومع ذلك فان فرويد يقول في كتابه محاضرات تمهيدية جديدة في التحليل النفسي إن المرأة لغز. والسؤال عندئذ: هل المرأة لغز؟ أظن أنه يمكن فك اللغز إذا عدنا إلي نشأة الحضارة الانسانية. فمنذ عشرة آلاف سنة حدثت ثورة في انتاج الطعام كان من شأنها احداث تغيير جذري في أسلوب حياة الانسان وذلك بسبب أزمة الطعام في عصر الصيد. وقد حدثت هذه الأزمة لأن الحيوانات ندرت, وندرتها مردودة إلي سببين: السبب الأول هو اصطيادها لذبحها وأكلها دون استئناسها. والسبب الثاني هو تغير المناخ إلي الحد الذي فيه عجزت الحيوانات عن التكيف فهاجرت وهاجر معها الانسان حتي استقرت عند وديان الأنهار في مصر وبلاد ما بين النهرين والهند والصين. وحول هذه الوديان فطن الانسان البدائي إلي أن هذه الأزمة مردودة إلي نوعية العلاقة بينه وبين البيئة الطبيعية, إذ كانت علاقته أفقية بمعني تكيف الانسان مع هذه البيئة فأصبحت رأسية بمعني تكييف الانسان لهذه البيئة من أجل اشباع حاجاته المتزايدة. ومن هنا ابتدع الانسان التكنيك الزراعي واستئناس الحيوانات في العصر الحجري الحديث. ويري جون برنال في كتابه المعنون العلم في التاريخ والمكون من أربعة مجلدات (1954) أن المرأة هي المبدعة للتكنيك الزراعي. وأظن أن رؤيته صحيحة لأن النظام المطريركي: أي النظام الذي فيه المرأة هي السيدة, سابق علي النظام البطريركي. ولاأدل علي ذلك من أن أغلب الآلهة التي اخترعها الانسان كانت أنثوية, وبالتالي كانت المرأة متحكمة في أكثر من رجل. وقد تمكن الرجل من إحداث انقلاب علي النظام المطريركي ليؤسس النظام البطريركي الأمر الذي استلزم تغيير نسق القيم لتكون الغاية منه تكبيل المرأة. وإذا أردت مزيدا من الفهم لنسق القيم الخاص بالنظام البطريركي فانظر إلي حال المرأة في مصر الآن, إذ هي في طريقها تدريجيا إلي التكبيل التام. المزيد من مقالات مراد وهبة