عندما طلب مني الأصدقاء من ليبيا, وعلي رأسهم محمد الحضيري أمين عام جائزة القذافي للآداب العالمية وإبراهيم الكوني الذي أفخر بإبداعه وصداقته, أن أوافق علي قبول جائزة القذافي, سألتهم عن رفض خوان جوتيسولو للجائزة, فأجابوني بأنه لم يأخذها حتي يرفضها, كل ما في الأمر أنه كان مرشحا لها مثلي, وأن أحد أعضاء اللجنة أرسل له خطابا, يسأله رأيه في أن يقبل ترشيحه للجائزة فاعتذر, ومن ثم استبعد اسمه من المرشحين, وأن قرار الاختيار النهائي وقع علي شخصي المتواضع, وسألتهم عن مبادئ الجائزة فقالوا: إنها مبادئ معلنة, أساسها: الجهد الخلاق في تنمية الفكر الأدبي والإبداع الأدبي, والإسهام في إعلاء قيم الحرية والتقدم, والعمل علي مد الجسور بين الثقافات الإنسانية, وأنها جائزة يحددها ويقوم بالترشيح لها هيئة استشارية دولية محايدة, وأن الأسماء الثلاثة التي دار بينها الاختيار قبل الأخير هي شينوا أتشيبي واسمي وخوان جوتيسولو. وفكرت قبل أن أعلن عن موافقتي, فقد كنت مرشحا من ثماني عشرة مؤسسة ثقافية وجامعية, علي امتداد عشرة أقطار عربية, لجائزة شخصية العام الثقافية, ضمن جوائز الشيخ زايد التي لم تكن أعلنت, ولكن صديقي صلاح فضل حسم ترددي بتذكيري بأن الاختيار الأخير وقع علي شخصي بالفعل, والأخوة ينتظرون موافقتي للإعلان, فوافقت من منطلق إيماني بمبادئ الجائزة, وتقديرا للجنة التي منحتها, والمبررات التي صاغتها, ولم أشغل بالي بغير ذلك. وكنت أعلم أن قبولي الجائزة معناه تنازلي عن جائزة شخصية العام في جوائز الشيخ زايد التي ذهبت, بعد إعلان جائزة القذافي, للدكتور سلطان القاسمي الذي فرحت بفوزه بها, لأنه جدير بها وهي جديرة به. وأعلنت الجائزة, وعاتبني بعض الأصدقاء الذين اعتز بهم في بيروت والجزائر لأني قبلت جائزة حاكم عربي, وكان ردي البسيط أن الذي يمنح الجائزة لجنة لا حاكم, فلا العويس ولا الشيخ زايد ولا القذافي ولا مبارك يمنحون جوائز, وإنما هي لجان نقبل جوائزها, إذ كانت مبادئها ولجانها مبعث تقدير واحترام, وإلا فالواجب رفضها. ومادمت مقتنعا بمباديء جائزة العويس التي حصلت عليها, كما حصل عليها محمود درويش وإدوارد سعيد ومحمود العالم وشكري عياد وغيرهم, فمن غير المنطقي رفض جائزة أحترم مبادئها وأعضاء مجلس أمنائها ومستشارها إبراهيم الكوني. وجاء يوم تسلم الجائزة. وسافرت إلي ليبيا يوم الجمعة الثالث والعشرين من أبريل, وكان معي في الطائرة أستاذنا الدكتور يحيي الجمل وخيري شلبي وأخي جمال الغيطاني وسعيد الكفراوي ومحمد الخولي ويسري خميس ومحمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب العرب, مدعوين لحضور الاحتفال. وكان الاستقبال يحمل حرارة الاخوة العربية الصادقة, وأحاط بنا المثقفون الليبيون كبارهم وصغارهم في فرح جعلنا في حال من البهجة الصادقة. وجاء يوم السبت الرابع والعشرون وبدأ الاحتفال في الحادية عشرة صباحا بالسلام الوطني الليبي, وهو لحن نشيد الله أكبر فوق كيد المعتدي. والله للمظلوم خير مؤيد فتذكرت النشيد الذي كنا نردده في المدارس المصرية بعد انتصارنا القومي العظيم علي العدوان الثلاثي سنة1956, وهو النشيد الذي رسخ في وجداني وأنا أنتقل من المرحلة الاعدادية إلي المرحلة الثانوية, وكنا نهدر مع صوت فايدة كامل الشاب ونحلم بالقضاء علي الاستعمار, وأنثالت علي ذاكرتي ذكريات المد القومي والمجد الوطني وشعارات: الاشتراكية والحرية والوحدة, في زمن جميل مضي. وبعد أن أنتهي السلام الوطني, عرض علينا فيلم تسجيلي هو شهادات من كبار المثقفين العرب, من مصر ولبنان وسوريا وتونس والمغرب وغيرهم. وشعرت بالخجل من العبارات التي قالها سيد ياسين وسلماوي وبنسالم حميش وصلاح الدين بوجاه وشعيب حليفي وعبد السلام المسدي وحمادي صمود وأمال موسي وأقرانهم علي امتداد الوطن العربي الذي كان ممثلا في الاحتفال بحوالي مائة مدعو, وعشرات من أعلام الأدباء والمبدعين والمثقفين العرب, فضلا عن السفراء, فكان حضورهم جائزة غنية الدلالة. وبعد ذلك توالت الكلمات: أحمد إبراهيم الفقيه باسم الأدباء الليبيين, ونوري ضو لحميدي أمين اللجنة العامة للثقافة ومحمد الزوي أمين المؤتمر الشعبي العام الذي تحدث عن مكانة مصر في ليبيا, فأعادنا إلي مصر التي نحبها والتي نفخر بها والتي لاتزال مكانتها عالية وغالية في نفوس الليبيين. وبالطبع تكلم محمد سلماوي باسم اتحاد الكتاب العرب, وقرأ براءة المنح سعيد الغانمي عضو اللجنة الاستشارية للجائزة, ومحمد الحضيري أمين عام الجائزة الذي شرح أهدافها وقواعدها. وقلدني الأستاذ محمد الزوي وسام الجائزة. وجاءت كلمتي مشحونة بهذا الجو القومي الذي أثار فينا جميعا ما بقي أعماقنا من شعارات الحرية والعدل الاجتماعي. وكان من الطبيعي أن أبدأ بذكري أنتصار العرب في1956, وكيف التف الثوار العرب حول مصر, وعن هزيمة العام السابع والستين التي استبدلت الكوابيس بالأحلام. لكن سرعان مابدا في جدار الهزيمة أكثر من ثغرة أمل. منذ أن ذهب القائد المهزوم عبد الناصر إلي الخرطوم في سبتمبر1967 ليحيط به الملوك والرؤساء العرب جميعا, المحبون والكارهون له, وتعلن قمة الخرطوم لاءاتها الثلاث التي كانت أول المقاومة, وتتلوها بدايات حرب الاستنزاف, وتعاودنا الآمال, ولكن نثور علي أحكام قيادات الطيران في مطالع1968, فيصدر عبدالناصر بيان ثلاثين مارس ويشرحه في مدينة المنصورة تفصيلا, متحدثا عن الدور المهم للمثقفين في إشاعة الحلم وتحقيق المستقبل الواعد, ولاينسي ضرورة التفكير في تعددية سياسية جديدة, ويأتي عام1969 لنفرح بالفاتح من سبتمبر التي فجرها تلامذة عبد الناصر الذي سرعان ما احتضنهم بالقدر الذي لا يزالون متعلقين به وبأفكاره وأهمها ضرورة استقلال الوطن وحلم تحقيق مايمكن تحقيقه من الوحدة العربية, فنحن في عصر الكيانات الكبري, وآخرها وأهمها وصل العدل الاجتماعي بالحرية لكل الشعب, الحرية التي لاتقوم الدولة المدنية إلا بها, عامرة بالحقوق الكاملة للمواطنة, وعلي رأسها حق الاختلاف. ما كان يمكن أنسي حلمي القومي الذي لايزال راسخا في أعماقي, ممزوجا بقيم الديمقراطية وحرية المواطن وحقه الطبيعي في حرية الفكر السياسي والاجتماعي, جنبا إلي جنب حرية الاعتقاد والاجتهاد الديني, فضلا عن حرية الإبداع الأدبي والفني. وبعد حفل الافتتاح الذي هزني من الأعماق, ولم أكن وحدي, وتمتعي بما لم أستطع أن أحصيه من التحيات والتهاني العربية الصادقة, انتقلت إلي المؤتمر الصحفي الذي تعددت فيه الاسئلة التي أجبت عنها بصراحة كاملة. ولم تنس صحفية( ماكرة فيما يبدو) أن تسألني عن الفارق بين عالمية الأدب الزائفة وعالمية الأدب الأصيلة, فأجبتها قائلا هي كالفرق بين إبداع ليلي الجهني ورجاء الصايغ في السعودية, وإبداع نجيب محفوظ وكتابة علاء الأسواني في مصر, ولم يتركني صحفي( ربما أشد مكرا) سائلا عن أسباب تجاهل النقاد لمسألة القيمة الإبداعية الأصيلة, أو خوفهم من قول الحق الناطق بمداها, فأجبت أن الجميع ليسوا كذلك, فمن النقاد من لايخاف من سفاهة الذين تشيع كثرة التوزيع بريقا كاذبا حولهم. وأخيرا, عدت إلي القاهرة, وفي أعماقي فرحة بهويتي القومية لم تغادرني إلي وقت كتابة هذا المقال الذي أرسل من خلاله التحية القومية لاشقائي وشقيقاتي من المبدعين والمبدعات والمسؤولين الذين أدين لهم باللحظات التي جعلتني أسترد ما ضاع من صورة وطني الذي أحبه أكثر من حياتي. المزيد من مقالات جابر عصفور