د. علي مبروك : ثمة خطاب يتعالي مده لتديين السياسة في مصر. ورغم أن البعض من دعاة هذا الخطاب قد يقصد, فعلا, إلي جعل قوله ساحة لصوت الاعتدال والمسامحة, فإن منطق الخطاب يأبي إلا أن يجعل منه ساحة لصوت الاستعلاء والمفاصلة. ولعل تحليلا لأحد رسائل فضيلة المرشد الحالي لجماعة الإخوان المسلمين في مصر, ليكشف, بجلاء, عن التباين بين المقصد( المعلن) والمآل( اللازم); وعلي النحو الذي يلاشي المسافة بين المسامحة والمفاصلة تحت مظلة الخطاب. فبينما الرجل حريص علي أن يستند في رسالته علي تراث الرائد المؤسس, ورمز الاعتدال والمسامحة, الأستاذ حسن البنا, فإن صوت رمز الاستعلاء والمفاصلة سيد قطب قد راح يحضر- في الخلفية- مزاحما لصوت البنا بقوة. فإذ تنبني الرسالة المعنونة وضوح الهدف والإصرار عليه...طريق النهضة علي أنه ينبغي أن يكون للإنسان( فردا وجمعا) ما يسعي إليه من غايات وأهداف, مقتديا في ذلك بما كان عليه النبي الكريم وصحبه الأبرار, وأن الغاية القصوي لجماعته هي أستاذية العالم, فإن ما يستدعيه الرجل من الأستاذ البنا, بخصوص هذه الأستاذية, لا يقدر علي زحزحة الحضور الراسخ للأستاذ قطب الذي يمكن القول أنه صاحب التنظير الأوفي- داخل الجماعة- لخطاب الأستاذية علي العالم; محددا لمضمونها ومعناها وما يترتب عليها من أحكام بخصوص المسلمين وغيرهم; وعلي النحو الذي تكاد معه أن تكون مركزا لخطابه كله. وهكذا, فإنه وإبتداءا من أن المنطق الكامن لأي خطاب قد يجد تعبيره الأجلي والأنقي عند أحد المشتغلين في حقله, بأكثر مما يجده عند آخر, فإنه يبدو أن الإطار الذي كان قطب يفكر داخله, إنما يتجاوب, علي نحو أصرح, مع المنطق الكامن لخطاب الأستاذية, ولكن من دون أن يعني ذلك إستحالته من داخل الإطار المحدد لفكر البنا. ولعل ذلك يرتبط بأن الشروط الذاتية والموضوعية التي توفرت عليها اللحظة التي أنجز فيها قطب عمله, قد إنطوت علي ما سمح لهذا الخطاب بالحصول علي هذا التعبير الأجلي والأنقي. ولسوء الحظ, فإنه يبقي أن ما ينبني عليه هذا الخطاب لا يسمح له- مهما إختلفت أشكال التعبير عنه- إلا بأن يكون ساحة إقصاء وتنابذ, وليس حوارا وتواصلا. ويرتبط ذلك بحقيقة أن مفهوم أستاذية العالم يحيل إلي عالم هيراركي تتراتب فيه العلاقات من الأعلي فرضا علي الأدني; وبما يعنيه ذلك من قيام العلاقات الواقعية بين الأطراف التي ينقسم إليها هذا العالم علي مفاهيم التفوق والهيمنة والسيادة. وإذا كانت الصورة المستقرة لهذا العالم قد إنبثقت مع إبتداء عصر الهيمنة الأوروبية, فإنها تبقي من قبيل الصورة المرذولة التي يسعي الكثيرون لزحزحتها ليستبدلوا بها عالما لا يعرف الهيمنة والتمايز, ويقوم علي الشراكة والندية. وهكذا فإن الصورة التي يفكر بها فضيلة المرشد في العالم لا تسمح إلا بإنتاج نفس الإنقسام الذي يتربع فيه طرف علي قمة سلم التراتبية( في الأعلي), وذلك فيما يجري التنزل بالآخرين علي ذات السلم( في الأدني). فالرجل لا يفعل إلا أن يستبدل أستاذا بآخر; وبكيفية يمكن أن يقال معها أنه الإنتقال من عبء الرجل الأبيض إلي عبء الرجل المسلم, وفي تجاهل تام لحقيقة أن العالم يناضل من أجل الإنفلات من ربقة هذا المنطق الذي لم يتمخض إلا عن قرون من الإفقار والنهب والقتل. وهكذا فإن داعية الإسلام لا يفعل بما يطرحه, إلا تكريس أزمة العالم, بدلا من إجتراح أفق لتجاوزها. ولعل الجواب المطروح من داخل الخطاب علي السؤال المتعلق بجوهر ما سيحقق به المسلمون أستاذيتهم علي العالم, لما يؤكد هذا التكريس للأزمة. وهنا يلزم التنويه بأن جوابا علي هذا السؤال لا يرد في رسالة المرشد, ولكنه يأتي من صاحب التنظير الأوفي لخطاب الأستاذية علي العالم; وأعني الأستاذ قطب, الذي أثار المسألة, صراحة, في مقدمة كتابه معالم في الطريق. فقد مضي يقرر, في حسم إن هذه الأمة لا تملك الآن- وليس مطلوبا منها- أن تقدم للبشرية تقدما خارقا في الإبداع المادي, يحني لها الرقاب, ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية....فالعبقرية الأوروبية قد سبقتها في هذا المضمار سبقا واسعا. وليس من المنتظر- خلال عدة قرون علي الأقل- التفوق المادي عليها!...فلابد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية, غير الإبداع المادي, ولن يكون هذا المؤهل سوي العقيدة والمنهج. وحين يدرك المرء أنه ليس ثمة من مجال للإبداع فيما يخص هذا المؤهل البديل; حيث إنه لابد فيه- علي قول قطب- من التلقي عن الله, فإن ذلك يعني أن أستاذية المسلمين للعالم لا ترتبط بشيئ أنتجوه( من الإبداع المادي أو الروحي), بقدر ما تتعلق بالسعي لإخضاع العالم( طوعا أو قسرا) لما يتصورون أنه المنهج الذي تلقوه عن الله. وإذن فإنها الأستاذية لا ترتبط بما ينتجه الناس علي الأرض, بل بالمعطي لهم من السماء; وبما يعنيه ذلك من أنها ستكون عملا من أعمال المشيئة التي لا إختيار للناس معها, بل يلزم فرضها عليهم. ولعل الدليل علي الطابع الإخضاعي لتلك الأستاذية يتآتي من تعيين الأستاذ قطب لنقيضها علي أنه الجاهلية; حيث إنه لا سبيل لمن يتمرغون في درك الجاهلية, إلا الخضوع لسادتهم الأعلين, من الذين يترقون في معارج الأستاذية. وإذا كانت الجاهلية تتعين, عند قطب, بما هي إسناد الحاكمية للبشر, فإن الأستاذية لابد- وبمنطق المخالفة- أن تتعين بما هي إسناد الحاكمية لله; وبما يعنيه ذلك من أن قطب يعين طرفي الصراع علي نحو لا مجال فيه إلا لمحض الخضوع والتسليم. وغني عن البيان أنه لا مجال, ضمن سياق هذه القسمة المانوية للعالم, التي تتقابل فيها الأرض مع السماء, إلا لصراع لا بلوغ لنهايته إلا مع إنتصار النور علي الظلمة. وحين يدرك المرء أن خطاب الأستاذية سوف ينتهي به, مباشرة, إلي فكرة الحاكمية الإلهية; بكل ما تؤدي إليه من ضروب الإقصاء والعنف( اللفظي والمعنوي) سواء بين المسلمين وغيرهم, أو بينهم وبين أنفسهم, فإن له أن يقطع بأن للخطاب منطقا, هيهات أن تزحزحه نوايا الأفراد.