"المياه تروي العطشان"| بعد انقطاع 5 أيام عن منطقة فيصل.. شركة المياه توفر عربات متنقلة لمياه الشرب للأهالي    عدى ال150.. سعر الدينار الكويتي أمام الجنيه اليوم الإثنين 17 يونيو 2024    زيادة أسعار البنزين يوليو 2024 .. جدل وترقب حذر في الأيام المقبلة    لماذا يرفض نتنياهو ضم "بن غفير" إلى مجلس الحرب الجديد؟    إسرائيل تقرر زيادة عدد المستوطنات بالضفة الغربية بعد اعتراف بلدان بدولة فلسطين    رئيس الوزراء الهندي يهنئ الرئيس السيسي والشعب المصري بمناسبة عيد الأضحى    بث مباشر مباراة رومانيا وأوكرانيا فى يورو 2024    بسبب ارتفاع درجات الحرارة.. إيقاف التفويج إلى محطة الجمرات لمدة 5 ساعات    بسبب بقعة زيت.. إصابة 21 شخصا في حادث تصادم على طريق إسكندرية الصحراوي    في ثاني أيام عيد الأضحى.. إقبال الآلاف من المصطافين على شواطئ مرسى مطروح    الأفلام المصرية تحقق 22 مليون جنيه إيرادات في أول أيام عيد الأضحى    سميرة عبد العزيز عن زوجها الراحل محفوظ عبد الرحمن: بكلمه كل يوم ولن أخلع الأسود إلا عند وفاتي    مناسك الحج| أحكام طواف الوداع وسبب تسميته.. ماذا لو تركته الحائض؟    رئيس «الرعاية الصحية»: مجمع الإسماعيلية الطبي قدم أكثر من 3.4 مليون خدمة طبية وعلاجية    كرنفالات وهدايا بمراكز شباب الدقهلية في ثانى أيام عيد الأضحى (صور)    مركز تنمية قدرات أعضاء هيئة التدريس بجامعة أسيوط يحصل على رخصة معتمدة 3 سنوات    ذكرى وفاة الشعراوي، الأزهر يسلط الضوء على أبرز المحطات في حياة "إمام الدعاة"    التخطيط: 31 مليار جنيه استثمارات عامة موجهة لمحافظة بورسعيد بخطة عام 23/ 2024    رئيس جامعة أسيوط يعلن حصول «مركز تنمية أعضاء هيئة التدريس» على رخصة معتمدة (تفاصيل)    طريقة تنظيف الممبار وطهيه باحترافية، مذاق لا يقاوم    نابولي يصدر بيانا شديد اللهجة بشأن رحيل نجمه    الصين تتهم الفلبين بتعمد انتهاك مياهها الإقليمية    الكرملين بشأن تقرير الناتو عن محادثات لنشر المزيد من الأسلحة النووية: هذا تصعيد للتوتر    الإنفاق على الأسلحة النووية يرتفع مع تصاعد التوترات العالمية ليبلغ 91 مليار دولار    ضبط صاحب مخزن بحوزته أقراص مخدرة وسبائك ذهبية بالقليوبية    فسحة للقناطر بالأتوبيس النهرى والسعر على أد الإيد.. فيديو    رئيس بعثة الحج الرسمية: تفويج حجاج القرعة المتعجلين من منى لمكة المكرمة غدًا    نائبة الرئيس الأمريكي: أمتنا محظوظة بكونها موطنًا لملايين المسلمين    «النقل»: تشغيل محطة شحن الحاويات بالقطارات في ميناء الإسكندرية قبل نهاية العام    شروط القبول ببرنامج نظم المعلومات الأثرية ب«آثار القاهرة»    «بطل مسلسل إسرائيلي».. من هو الممثل المصري مايكل إسكندر؟    غدا.. عزاء الموزع الموسيقي عمرو عبدالعزيز في مسجد النزهة بمدينة نصر    أخبار الأهلي: سر تعثر مفاوضات الأهلي مع ثنائي الدوري الروسي    الفرق بين التحلل الأصغر والأكبر.. الأنواع والشروط    إقبال كثيف على مراكز شباب المنيا في ثاني أيام عيد الأضحى    عاجل.. مفاجأة في تشكيل الزمالك المتوقع أمام المصري    عميد طب القاهرة ومدير مستشفى الطوارئ يتفقدان مستشفيات قصر العينى    ب 400 جنيه إسترليني.. علماء يطورون سماعة رأس لعلاج أعراض متلازمة «صدمة الحب»    «لست محايدًا».. حسام فياض يكشف صعوبات مسرحية النقطة العميا    مسؤولون بغزة: قوات الاحتلال قتلت أكثر من 16 ألف طفل خلال الحرب على القطاع    وزيرة الهجرة تطلق «بودكاست» لتعريف المصريين بالخارج تاريخ حضارتهم    اعرف آخر وقت لتقديم الأضحية ودعاء النبي وقت الذبح    نصيحة في كبسولة.. الخطوات اللازمة لتجنب الإصابة بأمراض القلب    وزير الإسكان: جهاز تعمير وسط وشمال الصعيد يتولى تنفيذ 1384 مشروعا    محافظ المنوفية: إطلاق مبادرة "الأب القدوة" ترسيخا لدور الأب    وفاة خامس حجاج الفيوم أثناء طواف الإفاضة    مصرع طفل صعقا بالكهرباء خلال شرب المياه من كولدير في الفيوم    مدير مجازر الإسكندرية: استقبلنا 995 ذبيحة في أول أيام عيد الأضحى.. والذبح مجانًا    إعلام فلسطينى: قصف إسرائيلى يستهدف المناطق الجنوبية لمدينة غزة    حسم موقف سيرجو روبيرتو من الرحيل عن برشلونة    «المالية»: تخفيف الأعباء الضريبية عن محدودي ومتوسطي الدخل    محافظ أسوان يتفقد المطعم السياحي متعدد الأغراض بعد التطوير    فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيراد يومي في تاريخ السينما المصرية    مواعيد مباريات اليوم الاثنين 17 - 6 - 2024 والقنوات الناقلة    المنيا تسجل حالة وفاه جديدة لحجاج بيت الله الحرام    حكم الشرع في زيارة المقابر يوم العيد.. دار الإفتاء تجيب    مصطفى بكري يكشف سبب تشكيل مصطفى مدبولي للحكومة الجديدة    في ثاني أيام العيد.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الإثنين 17 يونيو 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراسة في التنظيمات المسلحة في الحركة الإسلامية..جدلية النشأة والتأثير مصر نموذجاً (1 3)
نشر في محيط يوم 16 - 07 - 2012


مركز "محيط" للدراسات السياسية والإستراتيجية
اعداد سمير العركي

تُمثل التنظيمات المُسلحة أحد أهم الظواهر التي صاحبت نشأة الحركة الإسلامية السياسية على يد الأستاذ "حسن البنا" عام 1928 وحتى وقتنا الحالي، وقد ساهمت التنظيمات المُسلحة في تشكيل مسيرة الحركة الإسلامية ليس في مصر وحدها بل في بقية البلدان العربية التي استرشدت بالحالة الإسلامية المصرية التي غالباً ما وضعت في حالة الصدارة وأنزلت منزلة الأستاذية، حتى إن عُنف التنظيمات المُسلحة صبغ الحالة الإسلامية لعدة عقود واحتل مساحة واضحة في مُجمل نشاط هذه الجماعات، حتى وصل بنا تطوُر التنظيمات إلى حالة تنظيم "القاعدة" الذي نجح في نقل العُنف من مستوى المحلية إلى نطاق العالمية ودخل بإستراتيجياته إلى آفاق جديدة لم تكُن مطروقة من ذي قبل.

ان استقراء تجارب العُنف المُسلح على المستوى العالمي التي خاضتها منظمات سياسية مُتنوعة النزعات العقائدية والإتجاهات السياسية، وبالأخص تجارب العُنف المُسلح التي خاضتها الحركة الإسلامية المُعاصرة ضد الأنظمة الحاكمة يُظهِر بما لا يقبل الجدل أن العُنف المُسلح وسيلة فاشلة في العمل السياسي، سواء في ذلك بإعتبارها وسيلة للتعبير عن الرأي السياسي والحصول على شرعية الوجود في المجتمع، أو بإعتبارها وسيلة للإنتصار السياسي على الخصم.

والأمثلة على ما ذكرنا في الحركة الإسلامية وغيرها كثيرة. وإذا استعرضنا تجارب العُنف المُسلح التي خاضتها الحركة الإسلامية في العقود الأخيرة، ضد الآخرين وضد بعضها البعض فسنرى أن العُنف المُسلح لم يؤد إلى أي انتصار سياسي حقيقي.

في كُل هذه التجارب فشل العُنف المُسلح في تحقيق أي انتصار سياسي حقيقي كبير أو صغير للإسلام الكُلي على مستوى العالم الإسلامي، أو الجُزئي في بلد الحركة الإسلامية التي تُمارس العُنف المُسلح( ). بل لقد فشل هذا الأسلوب في تحقيق أي مكسب دعائي أو تعبوي ذي شأن.

ولم يقتصر الأمر في عاقبة هذا الأسلوب على فشل وعدم الجدوى، بل تعداه الى إنزال أضرار فادحة بالمشروع الإسلامي الكُلي والمشروع الجُزئي، وظلت التنظيمات المُسلحة تُمثل ورماً سرطانياً داخل جسد الحركة الإسلامية قضى على بقية الأجزاء الفعالة والنشطة في أوقات كثيرة واحتاجت الحركة إلى جُهد جهيد من أجل القضاء على هذه التنظيمات وتخليص بنيتها الحركية والفكرية من وجودها.

ناهيك عن الأثر النفسي السىء الذي تركتهُ هذه التنظيمات في طريقة تفكير الحركة الإسلامية وتعاطيها مع الأمور إذ حولتها إلى بيئات مُنغلقة معزولة عن العالم الخارجي بتطوُراته وتجلياته وتحولاته، ولعب هذا الإنعزال دوراً لا يُنكَر في إدراك التغيُر الحاصل في موازين القُوى ومدى قُدرة التنظيم على الإحتفاظ بتواجده فضلاً عن لعب أدوار مُؤثرة تُسهم في تفعيل الأهداف التي أُسِس من أجل تحقيقها.

وتأتي هذه المُقاربة كمُحاولة للإجابة على العديد من التساؤلات الهامة..

• ما هى الأسباب التي دفعت الحركة الإسلامية لتحولها من حركة إصلاحية دعوية تربوية إلى حركة عسكرية مُسلحة ؟
• هل جاءت هذه التنظيمات المُسلحة كرد فعل على المُمارسات السُلطوية القمعية التي طالت الحركة لعقود طويلة ؟
• أم أن النشأة ترجع إلى خلل فكري واضح تمثل في قراءات مُلتبسة خاطئة لفتاوى قديمة أُعيد طرحها دون مُراعاة ضوابط النقل والإستنساخ ؟
• أم تراها جاءت كنتيجة طبيعية لغياب الفكر الراشد القائد الذي يرسم الهدف ويُحدد الطريق ؟
• ثُم ما هى المُحصلة النهائية لهذه التنظيمات المُسلحة ؟
• هل تمكنت من تحقيق أهدافها التي أُسست من أجلها ؟
• أم أنها ورطت الحركة الإسلامية في ورطات ضخمة عطلت من مشروعها الفكري والدعوي ؟
• وما هو التأثير الذي تركتهُ هذه التنظيمات المُسلحة في وعى ووجدان الشعب المصري ؟
• هل استفادت الحركة الإسلامية من وجودها ؟!!!
• أم أنها كانت عبئاً على مسيرة الحركة ؟!! وتسببت في إلحاق أضرار بالحركة على مُستوى الفكر وأيضاً على مُستوى الفعل ؟

أسئلة كثيرة تُحاول هذه الدراسة الإجابة عنها .. ولكن وقع الإختيار على النموذج المصري كنموذج للتحليل نظراً لما تتمتع به الحالة المصرية من "كاريزما" خاصة داخل مُحيط الحركات الإسلامية على مستوى العالم فحركة الإخوان المُسلمين امتد أثرها الفكري والتنظيمي في مناطق كثيرة من العالم، كما أن مُفكراً مثل "سيد قطب" استطاع أن يبسط سطوته الفكرية على الحالة الإسلامية خارج مصر لعقود طويلة ومازال يتمتع بوهج حتى الآن.

حتى إن حركة المُراجعات الفكرية التى بدأتها الجماعة الإسلامية المصرية أحدثت دوياً خارج مصر وصارت نموذجاً للتعامل الإيجابى والفعال مع ظاهرة "العُنف" ومن هُنا كان التركيز على النموذج المصري .

أسباب التواجد والنشوء

أولاً : وجود الأرضية الفكرية المُمهدة:

قد يعتبر البعض أن المُمارسات السُلطوية القمعية وراء ظهور التنظيمات المُسلحة وهو ما يذهب إليه أغلب المُتابعين للظاهرة، وردة الفعل تجاه المُمارسات القمعية قد نجدها واضحة في التأسيس المُبكر للتنظيم السري لجماعة الإخوان المسلمين( ) ولكننا لن نجدها تسير بنفس قوة التأثير في بقية التنظيمات اللاحقة على التنظيم السري للإخوان المسلمين.

فقد لعبت الأرضية الفكرية داخل الجماعات الإسلامية اللاحقة لجماعة الإخوان المسلمين دوراً مُهماً في تشكيل التنظيمات السرية المُسلحة بل إنها تشكلت في وقت خفتت فيه المُمارسات السُلطوية الجامحة.

ولعل البدايات الأولى للعمل السري المُسلح نجدها لدى الأستاذ "سيد قطب" – رحمه الله – والذي يُعد كتابه "معالم في الطريق" أحد أهم التنظيرات المُلهمة للعمل السري فقد انطلق فيه من إطلاقات شديدة الإحكام واستخدم عبارات ظلت تحتل مكانة الصدارة داخل الخطاب الإسلامى الثورى لمدة لا تقل عن ثلاثة عقود بدءً من حقبة السبعينات وما تلاها فعبارات "المفاصلة الشعورية" و"جاهلية المجتمع" و"الحاكمية"( ) أفرط "سيد قطب" في استعمالها حتى تمكن من النفاذ بها إلى عقلية المُتلقي ونفسيته رغم أن "قطب" أُعدم بعدها بمُدة قليلة إلا أنها وجد طريقها للإنتشار والذيوع والبقاء لمدة ليست بالقليلة ولم يجرؤ أحد على الإقتراب من التُراث القُطبي بالنقد والتحليل احتراماً لذكرى الرجل الذي قضى نحبه من أجل أفكاره، وخوفاً من الإتهام بمعاونة نظام "ناصر" في إقدامه على إعدام "قطب". ويقول "قطب" في فصل "الجهاد فى سبيل الله"( ) .
"السمة الأولى: هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين، فهو حركة تواجه واقعاً بشرياً، وتُواجههُ بوسائل مُكافئة لوجودهِ الواقعي، إنها تواجه جاهلية اعتقاديه تصوُرية، تقوم عليها أنظمة واقعية عملية، تسندها سُلطات ذات قوة مادية، ومن ثم تُواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كُله بما يُكافئه، وتواجههُ بالدعوة والبيان لتصحيح المُعتقدات والتصوُرات، وتواجههُ بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسُلطات القائمة عليها، تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمُعتقدات والتصورُات، وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل، إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السُلطان المادي، كما إنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد، وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من عبودية العباد إلى العبودية لله وحده".

إن "قطب" هنا لا يكتفي ب "البيان" بل يتجاوز هذا إلى التأسيس للواقع الحركي الذي يعمل على إزالة "الأنظمة والسُلطات القائمة عليها" ويقول في موضع آخر:( )

ومن ثم لم يكن بُد للإسلام أن ينطلق في "الأرض" لإزالة "الواقع" المُخالف لذلك الإعلان العام، بالبيان وبالحركة مُجتمعين، وأن يوجه الضربات للقُوى السياسية التي تعبٌد الناس لغير الله - أي تحكُمهُم بغير شريعة الله وسُلطانه - والتي تحول بينهم وبين الإستماع إلى "البيان" واعتناق "العقيدة" بحُرية لا يتعرض لها السُلطان. ثُم لكي يُقيم نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً يسمح لحركة التحرُر بالإنطلاق الفعلي - بعد إزالة القوة المُسيطرة - سواء كانت سياسية بحتة، أو مُتلبسة بالعُنصرية، أوالطبقية داخل العُنصر الواحد". ويقول أيضاً:( )

"إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء ، فالإسلام ليس نحلة قوم ولا نظام وطن ولكنه منهج إله ونظام عالم ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع الت تغل من حرية الإنسان فى الاختيار وحسبه أنه لايهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته ، إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة المفسدة للفطرة المقيدة لحرية الاختيار".

كان "قطب" واضحاً وهو يؤسس فكرته، فقد مهد لها بالحُكم على المُجتمعات القائمة ب "الجاهلية" إذ اعتبر أننا اليوم في "جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلمت كُل ما حولنا من تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية ومراجع إسلامية وفلسفة إسلامية وتفكيراً إسلامياً هو كذلك من صُنع هذه الجاهلية"( ).

وطالما أننا في مجتمع جاهلي فإن "قطب" يوجه الأنظار إلى أهمية إقامة الكيانات المُوازية للكيانات الجاهلية القائمة إذ إن مُحاولة إلغاء هذه الجاهلية "لا يجوز – ولا يُجدي شيئاً – أن تتمثل في نظرية مُجردة فإنها حينئذ لا تكون مُكافِئة للجاهلية القائمة فعلاً والمُتمثلة في تجمُع حركي عُضوي فضلاً على أن تكون مُكافئة للجاهلية القائمة فعلاً والمُتمثلة في تجمُع حركي عُضوي فضلاً على أن تكون مُتفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة مُحاولة إلغاء وجود قائم بالفعل لإقامة وجود آخر يُخالفهُ مُخالفة أساسية في طبيعتهُ وفي منهجهُ وفي كُلياتهُ وجُزئياتهُ، بل لابُد لهذه المُحاولة الجديدة أن تتمثل في تجمُع عُضوي حركي أقوى في قواعدهُ النظرية والتنظيمية، وفي روابطهُ وعلاقاتهُ ووشائجهُ من ذلك المُجتمع الجاهلي القائم فعلاً"( ).

إن مثل هذا الإلحاح " القُطبي" على ضرورة "الإنفصال" و"التميُز" و"إقامة الكيانات المُوازية القوية للكيان الجاهلي "قد مثل قاطرة فكرية لكُل التنظيمات المُسلحة التي أتت بعدهِ وهو الأمر الذي يوضح لنا جلياً أن "الفعل" يرتبط ب "الفكرة" أكثر من ارتباطهِ ب "الشخص" إذ إن وفاة "سيد قطب" لم تحِل دون انتشار أفكاره وترجمتها لواقع حى مُجسد، بل ظلت إلهاماً لكُل التنظيمات التي تشكلت بعد وفاتهِ والتي لم تستغرق إلا سنوات قليلة حتى فوجىء المُجتمع المصري بتنظيم الفنية العسكرية الذي ترأسهُ "صالح سرية" والذي هدف إلى اغتيال الرئيس الأسبق "أنور السادات".

وإذا ما استعرضنا رسالة "الإيمان" ل "صالح سرية" نجد أنهُ يَستعير نفس العبارات القُطبية من أجل التأصيل لفكرتهِ فيقول عن نُظم الحُكم في بلاد المُسلمين:( )

"إن الحُكم القائم اليوم في جميع بلاد الإسلام هو حُكم كافر فلا شك في ذلك والمُجتمعات في هذه البلاد كُلها مُجتمعات جاهلية، أما الحُكم فأدلتنا على كُفره لا حصر لها في الكتاب والسُنة".

ولكن ما هو السبيل لتغيير هذه الأنظمة التي يحكُم "سرية" بكُفرها ؟ إن السبيل الذي يراه هو إعلاء راية الجهاد فيقول:( )

"الجهاد لتغيير هذه الحكومات وإقامة الدولة الإسلامية فرض عين على كُل مُسلم ومُسلمة، وذلك لأن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، وإذا كان الجهاد واجباً لتغيير الباطل حتى ولو لم يكُن كافراً، فإن الجهاد ضد الكُفر لا يختلف اثنان من المُسلمين أنهُ أفرض الفرائض وذُروة سنام الإسلام".

ولعل تنظيم "الفنية العسكرية" يُمثل نموذجاً لبناء التنظيم المُسلح المُرتبط بالفكرة أكثر منهُ ارتباطاً بالواقع المُعاش والذي يعتبرهُ البعض تكأة إنشاء هذه التنظيمات إذ إنهُ من المعلوم أن فترة حُكم "السادات" كانت من الفترات الذهبية للحركة الإسلامية بعد حُقبة حُكم "عبد الناصر" التي عانت منها الحركة مُعاناة شديدة وتعرضت خلالها لحملة اعتقالات وإعدامات ضخمة، لذا كان من المُتوقع أن تظل الحركة الإسلامية تحمل ذلك الجميل لل "سادات" لا أن يسعى البعض منها لتصفيتهُ عند أول فُرصة تسنح لهُ.

هذا التنظير الفكري الذي مارسهُ "سيد قُطب" – رحمهُ الله – رسم الإطار المنهجي الذي على أساسهِ قامت التنظيمات المُسلحة ولكن فترة السبعينيات والثمانينيات شهدت دخول فقيه آخر على خط التأصيل والتنظير دون أن يُقصد.

فقد صارت فتوى قتال الطوائف المُمتنعة عن تطبيق شرائع الإسلام ل "ابن تيمية"( ) بمثابة الإلهام لجميع التنظيمات التي نشأت في فترة الثمانينيات والتسعينيات.

ولعبت القراءة الخاطئة لفتوى "ابن تيمية" دوراً بارزاً في التأسيس الفكري الثاني لحركة التنظيمات المُسلحة، فعلى عكس "سيد قطب" – رحمهُ الله – لم يكن "ابن تيمية" هُنا مسؤولاً عن تلك القراءة الخاطئة بل إن فتواه كانت تُناسب عصره ولم يعترض عليه أحد من المُجتهدين حينها ولا بعدها فقد سئل "ابن تيمية" عن جيش التتار وكان قد دخل مُعظمهُ في الإسلام ظاهرياً ولكنهُم لم يلتزموا شرائع الإسلام ولم يفوا بالعهود التي قطعوها على أنفُسهِم لأهل الشام بل استباحوا الدماء والأعراض وكانوا مشهورين بشُرب الخمر ومُقارفة مُعظم المُنكرات إضافة إلى تحاكُمهم إلى كتاب "الياسق" الذي وضعهُ لهم "جنكيز خان" ، وبسبب نُطقهُم للشهادتين تُهيب الناس حينها من قتالهم فتوجهوا إلى "ابن تيمية" بالسؤال عن جواز بقتالهِم فأفتى لهُم بجواز قتالهِم في فتوى طويلة عُرفت بفتوى قتال الطوائف المُمتنعة عن تطبيق شرائع الإسلام( ).

ولكن القراءة الخاطئة للفتوى أدى إلى نقلها كما هى وتطبيقها على الجيوش المُعاصرة وأجهزة الأمن والنظر إلى كُل هؤلاء على أنهم من الطوائف المُمتنعة عن تطبيق شرائع الإسلام كما فعلت الجماعة الإسلامية المصرية( ) وتنظيم الجهاد.

وظلت الفتوى مُعيناً خصباً لكُل التنظيمات المُسلحة التي حاولت "شرعنة" الصدام مع الدولة المصرية وما تبِعهُ من سقوط مئات القتلى من الجانبين ولم يُحاول أحد طيلة سنوات طويلة التوقُف أمام شرائط إنزال الفتوى من واقع إلى واقع، وكيف أن الفتوى تختلف بإختلاف الزمان والمكان( ) وكان لابُد من الإنتظار حتى حركة المُراجعات الفكرية التي قادتها الجماعة الإسلامية بشجاعة مُنقطعة النظير وكان لابُد من الإلتفات لهذا اللُغم الفكري المطروح بكُل بساطة بين أيدي الشباب فكانت الدراسة التي قام بها د "ناجح إبراهيم"( ) والتي راجع فيها القراءة الخاطئة لفتوى التتار وانطلق فيها من الواقع لا من "النص" وفقط، إذ يبقى معرفة "الواقع" جُزءاً أساسياً في الفتوى كما يقول العُلماء، وعمد في قراءتهِ إلى عقد مُقارنة بين جيش التتار الذي وصفهُ "ابن تيمية" بأنه جيش لم يتورَع عن اغتصاب نساء المسلمين في المساجد كالأقصى والأموي وغيرِهُما. كما أنهُ جيش لا يعرف الصلاة ولا الحج ولا الزكاة ويُعادون المسلمين أشد المُعاداة رغم نُطقهم بالشهادتين ولا يتورعون عن شُرب الخمر ... إلخ تلك الصفات الخبيثة التي بينها "ابن تيمية" في فتواه.

ولما كانت تلك الأوصاف مؤثرة في الفتوى فإن د "ناجح إبراهيم" يقول:( ) "إن الأوصاف التي بنى عليها "ابن تيمية" – رحمهُ الله – فتواه بوجوب قتال التتار والتي يُمكن اعتبارها علة لفتواه، يشترط أن توجد في حكومات المسلمين اليوم لكى يصح منا أو من غيرنا نقل هذه الفتوى إلى واقع المسلمين اليوم، وبنظرة فاحصة لأحوال أغلب حكومات المسلمين في عصرنا هذا نجد هذه الأوصاف التي ذكرها "ابن تيمية" رحمه الله عن التتار والتي بنى عليها فتواه لا يوجد أكثرها في حكومات المسلمين اليوم، إنما كانت فتوى التتار من فتاوى الحال التي لا يصح تعميمها إلا على واقع يُماثلها تماماً".

هذا الإطار الفكري المؤطر لنشوء التنظيمات المُسلحة والمُبرر لها يُمكن رصد العديد من المُلاحظات عليه :

1. تم بناء هذا الإطار الفكري خارج نطاق المؤسسة الدينية الرسمية بهيئاتها وعُلمائها إذ ظلت العديد من هذه التنظيمات تنظُر إلى هذه المؤسسات نظرة دونية ولا تتورع عن نعتهم ب "شيوخ السُلطة" كما لعبت النُظم السُلطوية دوراً هاماً في تأكيد الهوة بين الطرفين والعمل على توسيعها.
2. أدى الإنغلاق الطبعي للتنظيمات المُسلحة والطبيعة السرية التي تعمل فيها إلى انفصالها تماماً عن الواقع وعدم قُدرتها على القراءة الصحيحة لمُفرداته وأجزائهِ مما أدى إلى تعميم فتاوى وأحكام لا تخُص واقعنا ولا تتشابه معهُ.
3. كما تم بناء الإطار الفكري المؤسس للتنظيمات المُسلحة خارج نطاق المؤسسة الدينية الرسمية فإن مُراجعة هذا الإطار تمت أيضاً من خارجها والمُفارقة المُدهشة حقاً أن من قام بالتأسيس هو من قام بالمُراجعة فهل هو نوع من الكسل يجب تداركه ؟!
4. مازالت العلاقة بين "النص المكتوب" و"الواقع المُعاش" تحتاج إلى مزيد عناية ودراسة إذ تظل مُنطلقات فكرية غير قليلة قائمة على قراءة "النص" وفقط دون ربطهِ بالواقع، وأدى الإضطراب في هذه العلاقة إلى ظهور العديد من الإشكاليات كالحُكم على الأنظمة الحاكمة وتحديد آليات التغيير التي ارتبطت في أذهان الشباب على الخروج المُسلح كآلية وحيدة للتغيير اعتماداً على قراءة فتاوى العُلماء القُدامى الذين كانوا يصفون ما هو قائم في عصرهِم من وسائل للتغيير اعتمدت مُعظمها على الخروج المُسلح والمُفارقة أن مُعظم هذه المُحاولات قد باء بالفشل وخلف وراءهِ مآس جمة وبالرغم من ذلك فقد تصدرت آلية التغيير المُسلح مشهد التغيير في حُقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي( ).
*****************************
هوامش
1- ففى مصر فشل المشروع المسلح للتغيير أو الحصول على الحقوق وانتهى به الأمر إلى حركة المراجعات الفكرية التى بدأتها الجماعة الإسلامية المصرية والتحقت بها جماعة الجهاد بعد ذلك ، وعلى المستوى العالمى لم تستطع القاعدة أن تفرض رؤيتها التغييرية أو تدير صراعها مع القوى المختلفة عبر مشروع العنف الصدامى وأثبتت ثورات الربيع العربى فاعلية المشروع السلمى فى التغيير.
2- راجع عبد العظيم رمضان الإخوان المسلمون والتنظيم السرى ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 2006 وسيتم الرجوع لهذه النقطة بالتفصيل لاحقاً.
3- رغم أن مصطلح " الحاكمية " استعمل قبل سيد قطب على يد أبى الأعلى المودودى فى أربعينات القرن الفائت إلا أن قطب تمكن من نقله للبيئة المصرية بقدرة وإحكام.
4- سيد قطب ،معالم فى الطريق ، ط دار الشروق ص 1992 ص 64 .
5- السابق ص 70 وما بعدها.
6-السابق ص 89.
7- السابق ص 21 .
8- السابق ص 54 .
9- محمد سعد أبو عامود .. جماعات الإسلام السياسى والعنف فى الوطن العربى ، ط . دار المعارف ص 35.
10-السابق نفس الصفحة .
11-ابن تيمية أحد الفقهاء المجددين فى الفقه الإسلامى فى القرن الثامن الهجرى ( 661- 728 ه) وقد برز فى علوم الشريعة وجدد شباب الفقه الإسلامى ودخل فى مساجلات كثيرة مع الطوائف الفكرية المتعددة مما جر عليه بلاءات متعددة وسجن بسببها عدة مرات فى دمشق والقاهرة وقد اشتهر بجهاده ضد التتار.
12- راجع الفتوى بطولها فى مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية .
13- ظل كتابها " قتال الطوائف الممتنعة عن تطبيق شرائع الإسلام " معلماً واضحاً فى أدبياتها حتى تناولته حركة المراجعات الفقهية كما سنوضح بعد ذلك .
14-راجع ابن القيم " إعلام الموقعين عن رب العالمين " فقد عقد فصلاً رائعاً عن تغير الفتوى بتغير الزمان والأحوال .
15- د./ ناجح إبراهيم فتوى التتار دراسة وتحليل ط . مكتب العبيكان.
16- السابق ص 81 ، 82
17- استطاعت ثورات التغيير فى الوطن العربى وخاصة فى تونس ومصر أن تعلى من خيار التغيير السلمى وتؤكد حضوره على حساب المشاريع المسلحة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.