عرضنا في مقالنا الماضي رؤي استراتيجية متنافسة للسيناريوهات الخمسة التي يتبناها مشروع مصر2020 الذي أشرف عليه في منتدي العالم الثالث أستاذنا الدكتور إسماعيل صبري عبد الله, وقام بالجهد الأكبر في إدارته الدكتور إبراهيم العيسوي أستاذ الاقتصاد المعروف باعتباره الباحث الرئيسي. وحين نتأمل اليوم هذه السيناريوهات التي وضعت في ديسمبر1998 فإننا لابد أن نقدر ثراء الخيال السياسي لخبراء المشروع الذين تخيلوا وفق شروط دقيقة- خمس رؤي استراتيجية متنافسة أثبتت الخبرة التاريخية أن واحدا منها قد تحقق بالفعل وهو سيناريو الرأسمالية الجديدة, بعد أن حاول القادة السياسيين لنظام مبارك الذي سقط تجاوز الظروف التي حددها السيناريو المرجعي الذي صاغه المشروع, باعتباره السيناريو الأول الذي يعبر عن الوضع الراهن وقتها. وقد أطلق عليه المشروع السيناريو الاتجاهي أو الامتدادي, وذلك لكونه يعبر عن أن الوضع الذي كان قائما مستمر في خطوطه العامة, ولافتراضه استقرار المجري الرئيسي لحركة المجتمع نحو المستقبل, ومن ثم فليس مطروحا في هذا السيناريو ظهور تغيرات جوهرية في النمط السائد لردود فعل السلطة الحاكمة والقواعد الاجتماعية الأخري إزاء التغيرات المحلية والإقليمية والعالمية. وكذلك يظل هيكل القوي الاجتماعية والسياسية الغالبة علي الحكم, وكذلك هيكل النخبة السياسية الحاكمة المرتبطة بها محتفظا بسماته الرئيسية. ويبدو أن القيادة السياسية في عهد الرئيس السابق مبارك قررت سعيا وراء زيادة مكتسباتها الطبقية وتراكمها الرأسمالي الذي حققته نتيجة للفساد إلي حد كبير, أن تنتقل إلي تطبيق سيناريو الرأسمالية الجديدة. ولو تأملنا وصف المشروع لهذا السيناريو لأدركنا أنه يكاد ينطبق بالكامل علي الأداء الاقتصادي والسياسي في عهد الرئيس السابق مبارك, وخصوصا في السنوات العشر الأخيرة من عمره حيث برزت بقوة ملامح وسمات هذا السيناريو. ويصف المشروع سيناريو الرأسمالية الجديدة كما يلي: تتمثل الابتكارية في هذا السيناريو في أن القوي الغالبية علي الحكم فيه هي الشرائح الرأسمالية التي يغلب علي نشاطها الطابع الإنتاجي والشرائح العليا والوسطي من الطبقة الوسطي وبعض الشرائح العمالية, وتزعم هذه القوي أنها تقدم صيغة للتفاعل مع العولمة وخوض غمار المنافسة واقتحام الأسواق الخارجية وتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ويعتبر هذا السيناريو قريبا بشكل كبير من الصيغة التي حققت التقدم للنمور الآسيوية القديمة. فهي تسعي لكي تجعل مصر نمر علي النيل, وذلك برفع قدرتها التنافسية ارتكازا علي برنامج سريع لمحو الأمية ولمحاربة الأمراض المتوطنة, وعلي إعادة صياغة جذرية لمنظومة التعليم وللبناء المؤسسي للعلم والتكنولوجيا في مصر. وتعتبر الديموقراطية وإطلاق الحريات عنصران أساسيان في هذا السيناريو هنا باعتبارهما من القوي الدافعة للنهضة العلمية والتكنولوجية من جهة, وينظر إليهما كآليات مهمة وضرورية لتصحيح مسيرة النظام. هذا هو الوصف الدقيق الذي قدمه المشروع لسيناريو الرأسمالية الجديدة. ولو تأملنا حصاد هذا السيناريو اليوم لأدركنا أن النخبة السياسية في عهد الرئيس السابق سوقت لمشروعها الرأسمالي بنفس العبارات تقريبا التي وردت في التقرير. والواقع أن مبارك وعصابته من أهل السلطة ورجال الأعمال حولت مصر إلي دولة فاشلة بالمعني المحدد الذي يستخدم فيه هذا المصطلح في أدبيات علم السياسة. ويتأكد هذا الحكم لو طبقنا مجموعة متماسكة من المؤشرات الكمية والتي تقوم علي أساس أرقام صحيحة تذهب إلي معدل الأمية هو40% من السكان, وأن عشرين مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر, وأن العشوائيات انتشرت في أرجاء البلاد بشكل سرطاني في حين أن المنتجعات انتشرت أيضا بشكل يفوق التصور. وإذا أضفنا إلي هذه المؤشرات الكمية ارتفاع معدلات التضخم, والنقص الشديد في المساكن الشعبية ومساكن الطبقة الوسطي, بالإضافة إلي زيادة معدلات البطالة إلي حدود غير مسبوقة وخصوصا بين الشباب, لأدركنا أن أسطورة تحويل مصر إلي نمر علي النيل لم تكن سوي خدعة محبوكة حاولت فيها القيادات السياسية الفاسدة في عصر مبارك تسويقها للجماهير, وكأن الجماهير لا تلمس في حياتها اليومية الآثار المدمرة لسيناريو الرأسمالية الجديدة. ولو انتقلنا إلي المؤشرات الكيفية لوصلنا إلي نتيجة أساسية مؤداها أن نوعية الحياةQualityoflife- وهو أحد المؤشرات الأساسية المعاصرة لتقييم أداء التنمية في أي بلد- قد انخفضت بصورة كبيرة بالنسبة للغالبية العظمي من السكان. وما وعدت به الرأسمالية الجديدة في القضاء علي الأمية في وقت قصير لم يحدث, كما أن محاربة الأمراض المستوطنة فشلت. أما إعادة صياغة جذرية لمنظومة التعليم فقد ظلت شعارا وهميا ترفعه السلطة السياسية لأن واقع الحال يقول إن التدهور الحاد للتعليم بكل مؤسساته في ظل الرأسمالية الجديدة وصل إلي الحدود الدنيا مما أثر سلبا علي التنمية بكل جوانبها. ونفس الشئ ينطبق علي منظومة العلم والتكنولوجيا, والتي غلب عليها الأداء البيروقراطي العقيم, بالإضافة إلي النقص الشديد في تمويل البحث العلمي. وإذا كان سيناريو الرأسمالية الجديدة قد اعتبر أن الديموقراطية وإطلاق الحريات عنصران أساسيان في هذا السيناريو, فإن الخبرة التاريخية والتي تتمثل في اندلاع ثورة25 يناير تؤكد أن القمع السياسي هو الذي كان الطابع الغالب علي الأداء, وأن تزييف الانتخابات نيابية كانت أو رئاسية كان المعلم الرئيسي للديموقراطية الزائفة التي كانت سائدة. ويبقي أمامنا عدة نقاط جوهرية, وأهمها علي الإطلاق أن النظام السياسي الحالي بعد الثورة وفي ظل قيادة حزب الحرية والعدالة الإخواني مازال يمارس نفس ممارسات سيناريو الرأسمالية الجديدة بكل النتائج الكارثية السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أدي إليها تطبيقه. ويؤكد ذلك أن النخبة السياسية الجديدة لا تمتلك حتي الآن رؤية استراتيجية لسيناريو اقتصادي بديل. والنقطة الثانية أن سياسة الليبرالية الجديدة التي سوقتها الولاياتالمتحدةالأمريكية في العالم وضغطت في سبيل تطبيقها سقطت بنشوب الأزمة المالية الكبري في أمريكا مما أثر في اقتصاد عشرات الدول الرأسمالية التي تزخر الآن بالمظاهرات الجماهيرية ضد الرأسمالية, كما حدث في أمريكا وبريطانيا واليونان وإسبانيا مما يشي أن هذا النموذج الاقتصادي الفاشل لن ينجح في حل مشكلات الجماهير. ومن هنا علينا في مصر أن نتأمل باقي السيناريوهات التي بناها مشروع مصر2020 لكي نقدر أيها أصلح للتطبيق في ضوء معيار أساسي هو تحقيق مصالح الجماهير العريضة! المزيد من مقالات السيد يسين