هي ثمة تلازم بين كليهما أم تنافر أم بعض من التداخلات في لحظات تاريخية وفي ظل بعض الظروف السياسية وطبيعة تكوين بعض النخب السياسية؟ لماذا يطرح هذا السؤال الذي يبدو لي حيويا ومهما في مصر الآن؟ يبدو لي وأرجو ألا أكون مخطئا أن حياتنا السياسية, بل والعقل السياسي لغالب النخب, وبعض الجماهير علي اختلاف تشكيلاتها الاجتماعية وتوجهاتها وأمزجتها السياسية يعاني من مرض النسيان, وهو أمر ينطوي علي عديد المخاطر منها علي سبيل التمثيل لا الحصر: فقدان الرأسمال السياسي الخبراتي الذي يتشكل من تراكمات الخبرة السياسية التي تتكون من كيفية تعامل بعض النخب مع المشكلات والأزمات والوقائع السياسية والاجتماعية والدينية والطائفية, ومع قضايا ومشكلات سياسة الهوية, والصراع علي الرموز الدينية والوطنية الجامعة التي تربط بين كافة مكونات وأطياف الأمة المصرية. من ناحية أخري يعود مرض النسيان إلي غياب أو ضعف أو تراجع المعرفة بالميراث الإنساني في مجال إنتاج السياسيات, وكيفية بناء التوافقات حول القيم الوطنية والإنسانية والدينية المشتركة, بين القوي الاجتماعية والفاعلين السياسيين. ضعف الخبرة بالتجارب المقارنة في مجال إدارة الحوارات والمنافسات السياسية والرمزية في مراحل الانتقال من النظم التسلطية إلي النظم الديمقراطية, واستراتيجيات تصفية المواريث الثقافية والسياسية للشمولية والديكتاتورية وكيفية التصدي لتراث الطغيان الشرقي الذي تنتشر خلاياه الوبيلة في تكوين غالب النخب السياسية في الحكم والمعارضة معا, والاستثناءات محدودة! النسيان وليد الانقسامات الحادة في التشكيلات النخبوية بين انتماءات إيديولوجية ودينية ورمزية ذات طبيعة أولية الدين/ الطائفة/ المذهب/ المنطقة/ العرق/ النوع الاجتماعي.. إلخ والتوزع النخبوي علي الولاءات الأولية يعكس بساطة في الفكر والخبرات, والتراجع لدي بعضهم إلي ما قبل الدولة/ الأمة الحديثة كنتاج للآرث السلطاني الشرقي في إدارة شئون البلاد طيلة أكثر من أربعين عاما مضت! إن إعادة إنتاج الأزمات والأخطاء السياسية الجسيمة عرض من أعراض النسيان, وهو ما يعني ضعف في المعرفة والخيال والقدرات والخبرات والأهم فقدان الحس التاريخي والسياسي ومحمولاته في الإدارة السياسية والتكنو بيروقراطية لشئون البلاد, ومن ثم ضعف الحس النخبوي بمعني الدولة ومسئولية إدارة شئون بلد أصبح المجتمع أكبر من الدولة وأجهزتها وبيروقراطيتها, ونخبة الحكم والمعارضة من جميع التيارات السياسية والاجتماعية والدينية والعرقية والمناطقية! الأخطر.. الأخطر هذا النسيان السياسي والتاريخي الذي يبدو كمرض عضال لدي غالب النخبة والجماهير, ثمة نسيان للخبرات والآلام الجماعية, والأخطاء التاريخية القاتلة, بل ونسيان كل طرف لما كان يطرحه من انتقادات ورؤي لمواجهة الاستبداد والطغيان الشرقي قبل خلع الرئيس السابق بل ونظام يوليو ورموزه! كيف يمارس بعضهم الآن ما كان يشكل موضوعا لانتقاداتهم حول الهيمنة السياسية وضعف المشاركة السياسية, والحجب عن الشرعية القانونية. لماذا ينسي هؤلاء وأولئك الدعوات السياسية السابقة لهم بضرورة الإصلاح السياسي والتشريعي, والرغبة في بناء التوافقات حول الأرضيات الوطنية المشتركة؟ لماذا ينسي بعضهم من الأصدقاء من الإخوان والقوي الإسلامية السياسية, واليساريين والناصريين والليبراليين, تجارب السجن والاعتقال, وقمع الآراء والاستبعاد السياسي للمواهب والكفاءات في عديد المجالات وتبريرات سلطوية شتي كان يطرحها نظام السادات, ومبارك؟ لماذا ينسي بعض القادمين الجدد للسلطة أنها لحظة تاريخية وقد يأتي آخرون عبر الانتخابات أو الطوفان عبر الثورة أو الانقلاب أو التمرد أو العصيان الجماهيري أو انقلاب داخل ذات الحزب أو الجماعة أو التيار السياسي أيا كان!. بعض النخب السياسية والدينية الجديدة/ القديمة من السياسيين والشيوخ يسعون لخدمة مصالحهم في الظهور السياسي الإعلامي, وبناء المكانة والمصالح علي حساب المصالح الوطنية العليا للأمة المصرية والدولة الحديثة. إن بعض السياسيين إن لم نقل غالبيتهم يعانون من آفة النسيان ويتصورون أنهم مخلدون, وإنما يستطيعون تغيير قواعد اللعبة السياسية الديمقراطية, والانقلاب علي مصالح المصريين الجماعية والفردية, لصالح تصوراتهم وانحيازا لمصالحهم! من أين جاءت هذه الخفة السياسية التي لا تحتمل إذا شئنا استعارة بعض من عبارة كونديرا الذائعة. من أين جاء هذا الغياب للتاريخ وبصائره ومصائره لدي بعض هؤلاء؟! لماذا يسمح لهؤلاء الذين يريدون هدم أسس ومكونات التكامل الوطني لصالح رغبة بعضهم العمياء في تعبئة بعض المصريين ضد بعضهم بعضا؟ لماذا لا يستوعب هؤلاء الدرس التاريخي المستمر, أن ثقافة الكراهية والبغضاء أيا كانت تبريراتها التي تدفع نحو التدمير والانهيار, وسرعان ما يدفع سادة الكراهية وسدنتها الثمن غاليا! هذا البلد وراءه تاريخ عريق ومركب وممتد ومعقد, ولا يمكن اختزاله في بعد واحد دون الأبعاد الأخري في مكوناته ومخيلته وهويته وأنماط معاشه وقيمه! كل هذا الصخب السياسي واللفظي الفقاعي غير المثمر لا يؤدي سوي إلي تحطيم كل ما يربط بين المصريين بعضهم بعضا, ويحطم الهوية بأبعادها كافة وتعقيداتها وتركيباتها وتغيراتها. ستؤدي أيديولوجية النسيان اللا تاريخية, أو سياسة النسيان إذا جاز كلا الاصطلاحين سوي إلي المزيد من الاضطراب, والفوضي ودعم سياسة العجز, وشلل الإرادة, وضعف الخيال السياسي وتبدد بعض مكونات المخيلة التاريخية والسياسية! إنها تجليات النسيان والعجز وا أسفاه. المزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح