يمر العالم بمرحلة هى الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، من الولاياتالمتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، حيث ضربت الأزمات هذه المرة قلب العالم الرأسمالي، ولا أفق لقدرتها على اجتياز تلك الأزمات، أو إزاحتها إلى الأطراف والدول الأكثر فقرا، وإن كانت الهزات الارتدادية لتلك الأزمة تضرب فى جميع أرجاء العالم. لا تبدو النخب السياسية قادرة على فعل أى شيء، وكأن دوارا عنيفا قد أصابها منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وأمام هذا الشلل للنخب والأحزاب التقليدية، ظهرت على السطح الاحتجاجات الشعبية، التى قلصت نفوذ وهيبة الأحزاب والنخب القديمة، سواء فى الولاياتالمتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي، وحتى خارجها، والنخب السياسية لا يبدو أنها قادرة على الفهم والتأثير، وكذلك لا تدرك شعوب البلدان المتقدمة سبب تراجع مستوى المعيشة وزيادة الديون والبطالة، وفى ظل السباق المحموم نحو العولمة خلف القاطرات السريعة للشركات العابرة للقومية، زادت الاحتجاجات، ونمت المشاعر القومية كتعبير عن رفض تلك العولمة الرأسمالية الأكثر توحشا، والتى لا يعنيها لا البيئة ولا الحياة الاجتماعية أو النفسية للبشر ولا حتى الحقوق الطبيعية فى العمل، لكن التوجه نحو اليمين القومى والشعبوى ليس سوى صرخة فى البرارى لن تحل الأزمة، فاليمين القومى والشعبوى ليس لديه أى برامج للحل سوى كلام سطحى عن مخاطر المهاجرين والثقافات الوافدة، وكأن التوقف عن استقدام مهاجرين لتلك البلدان سوف يعيد إليها الزمن الاستعمارى الجميل الذى فات زمانه بلا رجعة، وكل محاولات إعادته كانت شديدة التكلفة، وخسائرها الاقتصادية والسياسية والأخلاقية أكبر بكثير من أى مكاسب. وعندما اختار الأمريكيون ترامب المغمور ومن خارج الدوائر التقليدية، لم يكن ذلك إلا احتجاجا على نخب الحزبين الكبيرين المحتكرين للسلطة، واللذين يتبادلان الحكم دون المساس بجوهر مصالح تلك الشركات، لكن ترامب الغريب لا يمكن أن يفعل الكثير فى هذا الوضع، سوى الامتثال للأمر الواقع، وإلا أطاح به الشبح الحامى لمصالح تلك الشركات. إن السبب الرئيسى للأزمة التى يعيشها العالم هو خيانة الشركات العابرة للقومية لأوطانها القديمة، فالشركات الأمريكية الكبرى مثلا تستثمر معظم أموالها خارج الولاياتالمتحدة، سواء فى المكسيك أو الصين أو باقى دول آسيا، حيث العمالة الأرخص والضرائب الأقل والمواد الخام الأكثر وفرة، وراكمت هذه الشركات العابرة للقومية الثروات الضخمة، بينما ديون الدول التى نشأت فيها تتزايد بصورة مخيفة، وأصبحت هذه الشركات أقوى من الحكومات، فهى من يمتلك الإعلام ومراكز البحوث والدراسات ومن يدفع التبرعات للمرشحين. لقد تعملقت الشركات العابرة للقومية، لكن لا يوجد لها تمثيل سياسى موحد وواضح، فهناك شركات يفوق رأسمالها الناتج المحلى لعدة دول مجتمعة، لكن ليس لها حكومة معبرة عنها، إنما تحظى بنفوذ داخل كل الدول التى تستثمر داخلها، وأحيانا تتوافق مصالح الشركات العابرة للقوميات فى بعض التوجهات لكنها تتصادم فى أخري، فنجد تلك الفوضى الخفية، والتى كانت أكثر وضوحا وتحديدا فى زمن الرأسماليات القومية، حيث مصالح الدولة متجانسة مع مصالح الشركات ويجمعهما وطن واحد، وهذا الزمن قد انتهي، لكنه لم يفرز شكلا سياسيا يعبر عن الواقع الاقتصادى الجديد، أى أننا أمام سياسات شبه وطنية فى اقتصاد معولم عابر للقومية. ومن مصلحة الشركات العابرة للقوميات أن تصبح الحكومات الوطنية ضعيفة فى مختلف البلدان، لتستطيع أن تفرض عليها القوانين والقرارات التى تناسب مصالحها، ولا ينطبق ذلك على الدول الصغيرة فقط، بل أصبح ينطبق على الدول الصناعية الكبري، بما فيها الولاياتالمتحدةالأمريكية، فما قاله ترامب فى حملته الانتخابية حول تهالك البنية الأساسية فى الولاياتالمتحدة صحيح إلى حد كبير، فالرأسمالية العابرة للقومية لم يعد يعنيها أن تدفع لتطوير البنية التحتية الأمريكية طالما أن معظم مصانعها وأفرعها خارج أمريكا، فلماذا تتحمل نفقات بنية تحتية لن تستفيد منها الكثير، بينما تطور الصين بنيتها التحتية من مال الدولة المتحكمة فى الاقتصاد. ربما يفسر لنا ذلك عددا من الظواهر، منها الوهن الأمريكى رغم إنفاق 715 مليار دولار سنويا تمثل نحو نصف موازنات التسليح فى العالم، وكذلك ظاهرة استهداف روسيا الرأسمالية، الأكثر تمسكا بالنهج القومي، بينما سبب المخاوف من الصين هو سعيها إلى الانتقال من مرحلة كونها مصنع العالم الذى تمتلك معظم أسهمه الشركات العابرة للقومية إلى حقبة صنع فى الصين، وربما يفسر أيضا سقوط معظم الدول الغنية فى براثن الديون، ليس لدول أخري، وإنما لشركات وبنوك خاصة فاقت قوتها المالية البلدان الرأسمالية، فأصبحنا أمام شبح نشعر به، لكن نعجز عن تحديد ملامحه أو الإمساك به. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد