الصورة البائسة التي ظهر بها الرئيس الأمريكي ترامب خلال مؤتمره الصحفي المشترك مع الرئيس الروسي بوتين لا تعود فقط إلى شخصية ترامب المتقلبة، وإنما إلى محاولته إرضاء أطراف متعارضة تتقاسم السلطة داخل الولاياتالمتحدة، وبلغت الضغوط على ترامب إلى حد مطالبته بأن يتهم بوتين بمساعدته على النجاح في الانتخابات الأمريكية، أي يقر بأنه جاء بإرادة عدو للولايات المتحدة، ولهذا كان الارتباك الشديد، خاصة من شخصية ليست معتادة ولا قادرة على اختيار الكلمات المناسبة، وهو ما يقودنا إلى جوهر الأزمة في الولاياتالمتحدة، والصراع المتصاعد بين أجنحة السلطة. إن جوهر الأزمة السياسية داخل الولاياتالمتحدة هو صعود ترامب كممثل للرأسمالية القومية الأمريكية، في مقابل جناح الرأسمالية العابرة للقومية التي احتكرت الحكم منذ الحرب العالمية الثانية، وهناك تباين وتضاد كبير بين مصالح الجناحين، فالرأسمالية القومية الأمريكية التي يعبر عنها ترامب تعمل شركاتها داخل الولاياتالمتحدة، وترى أن الخطر الأكبر هو الصين، التي تغزو الأسواق الأمريكية بسلعها الرخيصة، ولهذا يجب توجيه الحراب نحو الصين، ولكن لا يمكن هزيمة الصين أو حصارها إلا باجتذاب أو تحييد روسيا، لهذا يرى ترامب أن روسيا ليست خطرا على مصالح الرأسمالية القومية الأمريكية، بل يمكن أن تكون حليفا، بخلاف الرأسمالية الأمريكية العابرة للقومية، والتي لها شركات وفروع واستثمارات في الصين وأوروبا والمكسيك وكوريا الجنوبية وغيرها، حيث العمالة الرخيصة والضرائب القليلة، وهنا تكمن المشكلة الرئيسية بين جناحي الرأسمالية الأمريكية، وهنا تختلف المصالح إلى حد الصراع والمجابهة وحتى الاتهام بالخيانة. وهنا أيضا نجد التفسير المنطقي لخطاب ترامب العدائي لباقي المنافسين بما فيها أوروبا، والتي يصفها بالعدو أو المنافس، ويصر على فرض رسوم جمركية على الواردات ليس من الصين فقط، بل كل آسيا وأوروبا وكندا والمكسيك، فالرأسمالي القومي يراهم جميعا من المنافسين، ولا يريد أن تغزو منتجاتهم بلاده، وأن ينفرد وحده بالسوق الأمريكية، ولهذا أيضا نجد شريحة كبيرة من العمال الأمريكيين تؤيد سياسات ترامب القومية. أما الجناح الآخر العابر للقومية في الرأسمالية الأمريكية، وهو الجناح الأكثر نفوذا ورسوخا فقد كان شديد الثقة في تسيده العالم بلا منازع، ولهذا ظل متحمسا لسياسة المنافسة، وهو من روج لاتفاقية التجارة العالمية الحرة، بل كان يفرض عقوبات على الدول التي ترفض الانضمام إليها، وسعى إلى إقناع الصين بالانضمام إلى الاتفاقية في أواخر السبعينيات، وشن الحرب الباردة أو الدافئة على الاتحاد السوفيتي لأنه يمنع تمدد الرأسمالية العابرة للقومية، وتحطيم الأسوار بين الدول، وإضعاف سيطرة حكوماتها المحلية على أسواقها. وماذا عن الخلاف بين الجناحين حول الاتفاق النووي مع إيران؟. كان الرئيس السابق أوباما، والمعبر عن مصالح الجناح العابر للقومية يرى أن دخول صراع مسلح مع إيران مكلف جدا، وأن احتواء إيران يمكن أن يكون بدمجها في الاقتصاد الرأسمالي العالمي بزعامة أمريكا، وهو ما ينعش الطبقة الرأسمالية الإيرانية، التي ستجد مصالحها في الارتباط بالولاياتالمتحدة بما يؤدي إلى هيمنة الجناح المعتدل والإصلاحي على الساحة الإيرانية. ترامب أثناء وعقب حملته الانتخابية، قال إن البنية التحتية في الولاياتالمتحدة أصبحت مثل دول العالم الثالث، وأن الاستثمارات الأمريكية تخرج إلى آسيا والمكسيك ويريد أن يعيدها.. هكذا كان صادما لجناح العولمة العابر للقومية، بينما ترامب أكثر تمثيلا للدولة الأمريكية القومية، التي يراها عاجزة عن المنافسة في ظل تيار العولمة الجارف، ولهذا رفع شعار أمريكا أولا وليس الرأسمالية العالمية، ولهذا أيضا طرح تقليص الوجود العسكري الأمريكي في الخارج المكلف جدا، ولا يجلب أرباحا، وهو من قال لقد خسرنا 3 تريليونات دولار في حرب العراق، وكان علينا إما ألا ندخل الحرب أو نبقى حتى نسترد ما خسرناه، وعندما تعرض للضغوط من جانب المؤسسة العسكرية ومنتجي السلاح، اضطر إلى إجراء تعديلات في توجهاته، دون التخلي عن الهدف. مشكلة الولاياتالمتحدة هي أن كلا الجناحين في مأزق، فلا الرأسمالية العابرة للقومية استطاعت السيطرة على أسواق العالم، سواء بالطرق الاقتصادية ومن خلال تطوير منتجاتها وخفض أسعارها، ولا بالطرق العسكرية من خلال السيطرة على شرق أوروبا والشرق الأوسط ووسط آسيا،، بينما الجناح القومي من الرأسمالية يحارب طواحين الهواء، ويريد أن يعود زمن الرأسمالية الاستعمارية القديمة وعالم ما قبل العولمة، لكن الزمن لا يمكن أن يعود، ولا يمكن لترامب أن يوقف عجلة التاريخ، وقد أدرك أن مراكز النفوذ في الدولة بيد الجناح الآخر، الذي يمكنه أن يشوه صورته، بل وقد يعزله، لهذا حاول إمساك العصا من المنتصف، فأصبح أكثر ارتباكا وتخبطا، ولا يرضي أحدا، وظهر أمام الجميع بشكل بائس. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد