تتنوع وتتعد أشكال الرأسمالية حسب اختلاف الأزمنة والدول والمؤسسات والثقافات، وكانت الرأسمالية فى الأساس تركز على الاقتصاد الحقيقى أى الإنتاج والخدمات إلا أن الأنشطة المالية فى الثلاثين سنة الماضية، توسعت لدرجة أزاحت فيها الإنتاج الحقيقى من مركزه كمحرك رئيسى للتراكم الرأسمالي، تلك هى فترة النيوليبرالية التى أدت إلى توسع فى المضاربة المالية والثروة الورقية على حساب الاستثمار الحقيقى فى الأصول المنتجة، وجاء الانهيار المالى فى 2007/2008 وما تلاه من ركود اقتصادي، ليكشف عورات هذه الأيدلوجية، فالقطاع المالى هو مركز الأزمة، حيث شاهد العقد الأول من الألفية الثالثة نموا هائلا فى الديون العائلية، لاقتناء المنازل فى الولاياتالمتحدة نتيجة التيسير فى شروط الاقتراض وما صاحبه من أدوات ومشتقات مالية لتوزيع مخاطر هذا النوع من الاقتراض على البنوك والمؤسسات العالمية حول العالم، وفى هذا السياق نفسه استسهل قطاع الأعمال الحقيقى تحقيق أرباح سريعة، من خلال الاندماجات والاستحواذات وإعادة الهيكلة، بدلا من التركيز على الإنتاج والخدمات، وانتهى الأمر بهذا القطاع أيضا، إلى تراكم مستويات عالية من الديون، بالإضافة إلى ذلك أوجدت برامج الخصخصة والتحرير المالى فيما سمى «الأسواق الناشئة» فرصا جديدة لتوسيع قاعدة النمو المالى المصرفي. وبناء على ذلك كله لم يؤد انهيار قطاع التمويل العقارى فى الولاياتالمتحدة إلى تهديد بنوكها المحلية فقط، بل امتد هذا التهديد إلى البنوك والمؤسسات المالية الأخرى حول العالم، وبالذات فى أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، التى شاهدت من قبل خلال فترة التحرر الليبرالى مجموعة من أزمات فقاعات المضاربة فى المكسيك 1994 وجنوب شرق آسيا 1977 وروسيا 1998 والأرجنتين 2001..إلخ. أدت الليبرالية الجديدة إلى شكل جديد للاقتصاد الرأسمالى الدولى يتصف بعدة خصائص: (1) اندماج على مستوى العالم وتفكك داخل الأوطان. (2) علاقة معقدة بين الرأسمال الأجنبى والدولة القومية. (3) نهج فى التقشف المالى وفتح الأسواق الوطنية. (4) توزيع جديد للعمل الدولى تسيطر عليه الشركات عابرة القارات اللاعب الرئيسى والقوى فى العولمة النيوليبرالية. (5) ضعف قدرة النقابات على حماية حقوق العاملين وإحداث التوازن فى قطاع العمل. (6) تغير فى دور صندوق النقد ليصبح منذ الثمانينيات من القرن الماضى دولة فوقية تضع شروط الهوية والمسارات الاقتصادية للدول. (7) انكماش دور وحجم وتأثير الطبقات الوسطى الأكثر تضررا من النهج النيوليبرالى فى دول الشمال بصفة خاصة، وقد انتقلت دول الجنوب فى هذا النمط الاقتصادى الجديد، وغابت فيها بالتالى العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وتشابكت مصالح النخب الجديدة لهذه الدول مع الدوائر العالمية للاستثمار والتجارة والمالية، واختفت الدولة التنموية تحت ضغط الولاياتالمتحدة ومناصريها من دول ومؤسسات، واستبعدت استراتيجيات الاكتفاء الذاتى من الطعام بحجة الحصول على إيرادات من العملات الصعبة عن طريق تصدير الحاصلات الزراعية لتمويل النقص فى الغذاء، فالهدف الاستراتيجى هو «الدولة التنافسية» منخفضة أجور العمالة مقابل الدولة التنموية التى تقوم على التصنيع والخدمات ذات القيمة المضافة العالية، والتى تسعى إلى تحقيق الرفاهية لمعظم مواطنيها، ليست هذه هى الرأسمالية التى عرفها العالم فى السابق، والتى أرست قواعد دولة الرفاهية فى دول الشمال وليست هى أيضا هذا النموذج التنموى التى عرفته دول الجنوب بعد الاستقلال تحت مسمى رأسمالية الدولة. وهكذا أتت نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة والذى شاهد هيكلة الدول لمصلحة إعادة توزيع الدخل والثروة على الأغنياء بأزمة كبرى أدت إلى اهتزاز أركان نموذج مجتمع السوق، مما دفع القيادات السياسية للدول الرأسمالية إلى التدخل السريع والكثيف بحزمات إنقاذ من الخزانة العامة، وعليه يمكن اعتبار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى يمر بها عالم اليوم هى فى جوهرها أزمة الليبرالية الجديدة، والتى ما هى إلا مشروع لسيطرة طبقة على حساب التنمية الحقيقية للشعوب. لمزيد من مقالات شريف دلاور