أزمة الاقتصاد المصري هي في جوهرها أزمة التحول الرأسمالي في مصر, وبالأخص خلال السنوات العشر التي سبقت ثورة يناير.2011 ولقد تشابه تطبيقنا للرأسمالية في تلك المرحلة مع العديد من الأنظمة الرأسمالية الأخري في العالم والتي تعاني اليوم أوضاعا اقتصادية كارثية وتواجه احتجاجات شعبية متصاعدة, ولا يمكن فهم ومن ثم علاج ما جري في مصر بصفة عامة وفي الاقتصاد المصري بصفة خاصة ما لم نلم بظروف صعود القوي المالية العالمية- والتي حلت محل الرأسمالية الصناعية- منذ انتهاء الحرب الباردة وهيمنتها علي الاقتصاد الدولي, ولم يكن التوجه الرأسمالي في مصر إلا تجسيدا لهذا التيار الاقتصادي الجديد والذي تم من خلاله زرع النيوليبرالية في الكود الجيني للاقتصاد المصري وإحداث التوافق الاستراتيجي بين القوي المالية المصرية الجديدة المرتبطة بالسلطة السياسية وقرينتها علي المستوي العالمي. أدت هذه النزعة الرأسمالية الجديدة في مصر- كما هو الحال في الكثير من دول العالم-إلي فقاعات اقتصادية من كل نوع- مالية وعقارية- وإلي اتساع الفجوة بين الدخول والثروات وغياب العدالة الاجتماعية وتهتك النسيج الاجتماعي وإلي إضعاف الطاقة الإنتاجية للوطن وقدرته التنافسية, وحملت الفئات الكادحة- والتي تمثل غالبية الشعب- بعبء السياسات الاقتصادية التي أتت لمصلحة الأثرياء الجدد ومنشآتهم, وكل ذلك تحت دعاوي براقة لتشجيع الاستثمار ولإرضاء المستهلك, وما الأزمة التي تعاني منها مصر حاليا سواء علي هيئة احتجاجات فئوية أو إضرابات عمالية أو نقص للوقود والخبز أو انقطاع الكهرباء والمياه أو من تفاقم لمشكلات الإسكان والصحة والتعليم والمواصلات إلا نتاج لتلك السياسات النيوليبرالية. فلقد خفضنا-علي سبيل المثال- الضرائب علي الشركات والدخول الكبيرة بل وألغينا الضرائب علي الثروة والتركات مما اضطر الدولة للاقتراض المحلي المتزايد- الدين المحلي- لسد فجوة إيرادات الموازنة العامة, وتحت الشعار الخادع المستهلك أولا وهي فلسفة الشركات الدولية الكبري لدخول أسواق العالم النامي-فتحنا باب الاستيراد علي مصراعيه, ومع اتساع الفجوة في الميزان التجاري عام بعد عام اضطررنا للجوء للاقتراض الخارجي ولولا دخل مصر الريعي من النقد الأجنبي- تحويلات المصريين بالخارج وقناة السويس- لارتفع الدين الخارجي إلي مستويات تهدد السيادة الوطنية. ومن أجل المستهلك أولا سمحنا للسلاسل التجارية العالمية الكبري بالانتشار والسيطرة علي حركة التجارة الداخلية مما أدي إلي إغلاق الأنشطة المتوسطة والصغيرة في قطاع التجزئة, وهللنا للفرانشايز( حق الامتياز للعلامات التجارية الأجنبية) في المأكل والملبس بل وفي التعليم والصحة علي حساب كل ما هو وطني, وقادنا في النهاية شعار من أجل المستهلك إلي مستهلك غير قادر علي الاستهلاك لتدني مستوي معيشته وارتفاع نسبة الفقر. أدي تشابك النظام الرأسمالي المصري مع الرأسمالية الكوكبية إلي إغراق البلد بمنتجات رخيصة للغاية مصنعة بواسطة الشركات متعددة الجنسيات في دول العمالة متدنية الأجر مما ألحق الضرر بالصناعات المصرية متوسطة وصغيرة الحجم والتي صارت غير قادرة أيضا علي منافسة الشركات الدولية في الحصول علي المواد الخام والمعدات من السوق العالمية, بل وفي الحصول علي القروض من البنوك المحلية والتي تفضل نتيجة السياسات والتشريعات التي أبعدتها عن الأهداف التنموية- التعامل مع الكيانات الكبيرة المستقرة مما أدي إلي استنزاف جزء من الادخار الوطني لمصلحة الشركات الأجنبية. كمحصلة للتحالف الاستراتيجي بين الرأسمالية المحلية والدولية, رفعت القيود عن حركة الأموال خروجا ودخولا وصارت البورصة بابا ملكيا للمضاربة العالمية ونالت بذلك تقدير مؤسسات التقييم المساندة للنيوليبرالية في العالم, وكما استحوذت الشركات الأجنبية علي شركات الغذاء والدواء المصرية وغيرها من الأنشطة الحيوية والحساسة لأمن مصر القومي نتيجة غياب ضوابط لحركة الاندماجات والاستحواذات تعمل لمصلحة الاقتصاد الوطني, ولقد أدي تفاعل كل العوامل السابقة إلي تفكك هياكل الإنتاج المصري لمصلحة القوي المالية العالمية المتحالفة مع رأسمالية مصرية جديدة. وارتفعت نسبة البطالة وبالأخص بين الشباب لعجز الشركات الدولية التي أتت إلي مصر وأيضا الكيانات المصرية الكبيرة المتحالفة مع السلطة في توفير فرص العمل بالحجم المناسب مما أدي إلي نتيجتين في غاية الخطورة: الأولي اضطرار الجهاز الإداري للدولة إلي استيعاب أعداد جديدة من طالبي العمل رغم ترهله الأصلي والثانية التحاق الأفواج الجديدة الباحثة عن لقمة العيش بالقطاع غير الرسمي دون أي مزايا تأمينية وبأجور متدنية- والذي تضخم هو الآخر ليصل إلي قرابة40% من حجم الاقتصاد القوي! ما هو المقصود من ذلك كله؟ إن عقيدة السوق الطليق والنمو السريع المبني علي توسيع دائرة الاستهلاك الممولة بقروض استهلاكية من البنوك والمبني أيضا علي فقاعات استثمارية خاصيتها المضاربات في العقار والبورصة لا يمكن أن يحقق نهضة اقتصادية واجتماعية, وعليه فإن المهمة جسيمة أمام الرئيس وحكومته الجديدة حيث إن المطلوب هو تغيير جذري في هيكل ومكونات النظام الاقتصادي المصري وليس مجرد محاولات صادقة النية لترميمه أو إصلاحه, وكما يكمن التحدي في التصدي لمحاولات قادمة للضغط علي النظام السياسي الجديد في مصر من قبل القوي المالية العالمية والأنظمة والمؤسسات في العالم التي تساندها بهدف استمرار النمط الاقتصادي الذي أسسه النظام السابق, ولكن مع كتيبة رأسمالية جديدة, فهذه القوي والأنظمة تدرك تماما حركة التاريخ وأن أي ثورة يليها بالضرورة إعادة لتوزيع الثروة, وعلي الإدارة المصرية الجديدة أن تعي بالتالي أن إعادة توزيع الثروة في مصر يجب أن يتم لمصلحة الجميع من خلال نمط اقتصادي جديد وليس لفئة مستغلة جديدة سيسهل احتواؤها من قبل الرأسمالية العالمية. المزيد من مقالات شريف دولار