«ضعف أمريكا» الذى يُعزى لضعف الرئيس أوباما هو أبعد من أن يُربط بسياسة رئيس أو حزب كما يجرى فى العادة. الأزمة المالية التى حدثت سنة 2008 لا تذكر، والوضع الاقتصادى يتم تجاهلة رغم ما حدث قبل اشهر فيما يتعلق بأزمة الدين وميزانية الحكومة، ورغم أن التقرير الأخير لبنك التسويات الدولية يشير إلى احتمال حدوث انهيار مالى جديد هذه السنة أو السنة القادمة. فالضعف هو نتاج الوضع الاقتصادى بالتحديد، الأمر الذى ينعكس على كلية الوضع الأمريكى بما فيه الدور العالمي. حيث إن أمريكا ظلت تعانى عقوداً من عجز فى الميزانية، وعجز فى الميزان التجارى ومديونية مرتفعة، وصلت الآن إلى حدّ تجاوز الخطوط الحمر، وهو مازال فى ارتفاع، ولا يبدو أن له سقفا يمكن أن يتوقف عنده، لأن المصروفات الاتحادية أضخم من مداخيلها، خصوصاً أنها تقلل الضرائب على الشركات والثروة بدل أن تزيدها. طبعاً هذه العناصر توضح بأن هيكلية الاقتصاد الأمريكى تعانى من اختلال، يظهر واضحاً من إلقاء نظرة على تكوين الدخل القومي. هذا الاختلال يخترق كل الرأسمالية، ويؤشر إلى تصاعد دور المال على حساب رأس المال. أمريكا تلعب دوراً عالمياً كبيراً، حيث عملت انطلاقاً من أنها القطب المهيمن، وهو الأمر الذى فرض تصاعد العجز فى ميزانيتها، حلّته ومازالت من خلال المديونية التى باتت تتجاوز مجمل الناتج القومي. وهيكلية اقتصادها جعلتها مستورداً للسلع، الأمر الذى أوجد العجز فى الميزان التجاري. وكان يجرى التعويض هنا عبر طبع العملة بعد أن أصبح الدولار هو ما يشبه «الاحتياط العالمي»، الذى كان يغطى بالسيطرة على الأموال النفطية بعد أن فرض تسعيرها بالدولار(وبعد الأزمة المالية باتت الدول النفطية غير قادرة على التحكم بهذه اموال)، وبنهب العالم بأشكال مختلفة. وفى كل ذلك تتضخم ثروات كبار الرأسماليين ويتقلص عددهم، كما يتضخم تراكم الثروات فى البنوك، لأن هؤلاء الرأسماليين لم يعودوا قادرين على الاستثمار فى قطاعات «الاقتصاد الحقيقي» بالضبط لأنه بات مشبعاً، أى بات ينتج السلع إلى حدّ الوصول إلى مرحلة الكساد. فالاقتصاد الحقيقى يعانى من التنافس الشديد، وهو مصاب بأزمة «فيض الإنتاج»، الأمر الذى يقود إلى حدوث انهيارات واندماجات فى الشركات، باتت لافتة. كل ذلك أوجد وضعاً جديداً، حيث إن تراكم الأرباح فرض أن تصبح هناك كتلة هائلة من المال خارج «الاقتصاد الحقيقي»، مودعة فى البنوك. وهى مهددة بالتلاشى نتيجة التضخم المستمر، حيث إن كل عملة لا تنشط تتلاشي. هذا كان فى صلب الأزمة التى حدثت بداية من سبعينيات القرن العشرين، التى فرضت فك الارتباط بين الدولار والذهب حسب اتفاق بروتون وودز، وفرضت نشوء ما أسمى فى حينها ب «الركود التضخمي»، حيث هناك كساد فى سوق السلع لكن الأسعار كانت فى ارتفاع عكس «القانون الاقتصادي» الذى كان متعارفاً عليه. وإضافة إلى فك ارتباط الدولار بالذهب كان الحل الذى جرى العمل به هو «اختراع» المشتقات المالية، أى التوظيف فى الأوراق المالية، ومن ثم فى أسواق الأسهم والمضاربة على العملات والسلع، وبالتالى العودة إلى النشاط «المالي» (وليس الرأسمالي). هذا من جهة، ومن جهة أخرى العودة إلى توسيع النشاط المتعلق بالإقراض، وكان أولها البلدان التى فرض عليها «الانفتاح» والخصخصة، والتى راكمت مديونية مرتفعة رغم أنها خسرت أموال «القطاع العام». هذا يجعلنا معنيين بدراسة وضعية النمط الرأسمالى بشكل أدق، حيث إن الهيمنة فيه باتت للنشاط المالي، ومن خلال متابعة النشاط المالى فى الأسواق نلمس بأن نسبة مرتفعة (تبلغ 90% تقريباً) تنشط فى المضاربات، وأن كل الاقتصاد الحقيقى يحظى بنسبة 10%. ماذا يعنى النشاط المالي؟ يعنى الأرباح تتحصل من خلال نشاط مالى محض (بعيداً عن الاقتصاد الحقيقي)، وأن نسبة الأرباح هنا مرتفعة جداً، وهى أضعاف نسبة الأرباح فى القطاعات الاقتصادية «الحقيقية». لهذا باتت نسبة التوظيف فى الاقتصاد الحقيقى فى أمريكا (وفى مجمل النمط الرأسمالي) هى عُشر نسبة حركة الرأسمال. أى أن قطاع المضاربات فى أسواق الأسهم والسلع والعملة والنفط، والنشاط فى المشتقات المالية وفى المديونية بات هو المهيمن فى الاقتصاد الرأسمالي. والسبب الأساسى هو أن تراكم الأرباح وصل فى نهاية ستينيات القرن العشرين مرحلة لم يعد ممكناً إعادة توظيفة فى القطاعات الاقتصادية «التقليدية» (أى الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات، والنشاط المالى المرتبط بها)، فكما هناك فيض إنتاج كان فى أساس أزمات الرأسمالية، هناك فيض أرباح أصبح هو الأزمة الحقيقية التى تدفع الرأسمالية إلى حالة من الأزمة المستمرة، والتى تفضى إلى أشكال انهيار وانفجارات غير مسيطر عليها. فهذه الأموال باتت توظف فى أشكال من المضاربات والمديونية لا تضيف قيماً (وهى سمة إنتاج السلع) لكنها تفرض تضخم الأسعار والثروة بشكل متصاعد وسريع. وبالتالى تؤسس لنشوء فقاعات مالية سرعان ما تنفجر. أمريكا هى البلد الأول فى هذا الأمر نتيجة تمركز الأموال فيها، سواء تعلق الأمر بالبنوك الكبرى أو بالشركات فائقة الضخامة. وكانت أزمة الرهن العقارى هى حالة من حالات ممكنة ربما نشهدها فى الفترة القادمة. فقد بات التوظيف فى المضاربة عاملاً فى ارتفاع «غير عقلاني» للقيم، يصل إلى مرحلة تفرض الانهيار، الأمر الذى يؤدى إلى خسارات هائلة تتكبدها البنوك. أمريكا مازالت تعيش أزماتها التقليدية (عجز الميزانية والميزان التجارى والمديونية)، لكنها باتت تعيش أزمة أضخم، هى أزمة احتمالات متكررة لحدوث انهيار مالي. فالمضاربات تفرض التضخم فى القيم، ومن ثم «انفجار الفقاعات»، الأمر الذى يؤدى إلى انهيار مالى يطيح بالمؤسسات المالية، التى تعود الدولة لتحملها عبر مراكمة الدين، الأمر الذى سيقود إلى إفلاس الدولة ذاتها، ولقد تجاوزت أمريكا فى الاستدانة خطوطاً حمراً متعددة. وهذه دائرة مغلقة لا خروج منها إلا بحدوث انهيار كبير. لمزيد من مقالات سلامة كيلة