د. حسين خالد يكتب: جودة التعليم العالى (2)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه اليوم بعد انخفاضه في البنوك    المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يعلن اليوم معدل التضخم لشهر أبريل    ذهب وشقة فاخرة وسيارة مصفحة، كيف تتحول حياة البابا ليو بعد تنصيبه؟    جوجل توافق على دفع أكبر غرامة في تاريخ أمريكا بسبب جمع بيانات المستخدمين دون إذن    الرئيس السيسي يعود إلى أرض الوطن بعد مشاركته في احتفالات عيد النصر في موسكو    دوي انفجارات في مدينتي أمريتسار وجامو الهنديتين وسط تصاعد التوترات    بعد 8 ساعات.. السيطرة على حريق شونة الكتان بشبرا ملس    نشرة التوك شو| البترول تعلق على أزمة البنزين المغشوش.. وتفاصيل جديدة في أزمة بوسي شلبي    طحالب خضراء تسد الفجوة بنسبة 15%| «الكلوريلا».. مستقبل إنتاج الأعلاف    الشعب الجمهوري بالمنيا ينظم احتفالية كبرى لتكريم الأمهات المثاليات.. صور    شعبة الأجهزة الكهربائية: المعلومات أحد التحديات التي تواجه صغار المصنعين    مدير مدرسة السلام في واقعة الاعتداء: «الخناقة حصلت بين الناس اللي شغالين عندي وأولياء الأمور»    برلمانية: 100 ألف ريال غرامة الذهاب للحج بدون تأشيرة    جيش الاحتلال يصيب فلسطينيين بالرصاص الحي بالضفة الغربية    طريقة عمل الخبيزة، أكلة شعبية لذيذة وسهلة التحضير    عقب الفوز على بيراميدز.. رئيس البنك الأهلي: نريد تأمين المركز الرابع    سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن بعد آخر تراجع بمستهل تعاملات السبت 10 مايو 2025    الشقة ب5 جنيهات في الشهر| جراحة دقيقة بالبرلمان لتعديل قانون الإيجار القديم    استشهاد قائد كتيبة جنين في نابلس واقتحامات تطال رام الله    العثور على جثة متفحمة داخل أرض زراعية بمنشأة القناطر    زعيم كوريا الشمالية: مشاركتنا في الحرب الروسية الأوكرانية مبررة    هل تجوز صلاة الرجل ب"الفانلة" بسبب ارتفاع الحرارة؟.. الإفتاء توضح    الهند تستهدف 3 قواعد جوية باكستانية بصواريخ دقيقة    الترسانة يواجه «وي» في افتتاح مباريات الجولة ال 35 بدوري المحترفين    ملك أحمد زاهر تشارك الجمهور صورًا مع عائلتها.. وتوجه رسالة لشقيقتها ليلى    «زي النهارده».. وفاة الأديب والمفكر مصطفى صادق الرافعي 10 مايو 1937    تكريم منى زكي كأفضل ممثلة بمهرجان المركز الكاثوليكي للسينما    «ليه منكبرش النحاس».. تعليق مثير من سيد عبدالحفيظ على أنباء اتفاق الأهلي مع جوميز    «غرفة السياحة» تجمع بيانات المعتمرين المتخلفين عن العودة    «زي النهارده».. وفاة الفنانة هالة فؤاد 10 مايو 1993    «صحة القاهرة» تكثف الاستعدادات لاعتماد وحداتها الطبية من «GAHAR»    حريق ضخم يلتهم مخزن عبوات بلاستيكية بالمنوفية    عباسى يقود "فتاة الآرل" على أنغام السيمفونى بالأوبرا    ستاندرد آند بورز تُبقي على التصنيف الائتماني لإسرائيل مع نظرة مستقبلية سلبية    حدث في منتصف الليل| ننشر تفاصيل لقاء الرئيس السيسي ونظيره الروسي.. والعمل تعلن عن وظائف جديدة    تعرف على منافس منتخب مصر في ربع نهائي كأس أمم أفريقيا للشباب    رايو فاليكانو يحقق فوزا ثمينا أمام لاس بالماس بالدوري الإسباني    الأعراض المبكرة للاكتئاب وكيف يمكن أن يتطور إلى حاد؟    البترول: تلقينا 681 شكوى ليست جميعها مرتبطة بالبنزين.. وسنعلن النتائج بشفافية    متابعة للأداء وتوجيهات تطويرية جديدة.. النائب العام يلتقي أعضاء وموظفي نيابة استئناف المنصورة    عمرو أديب بعد هزيمة بيراميدز: البنك الأهلي أحسن بنك في مصر.. والزمالك ظالم وليس مظلومًا    «بُص في ورقتك».. سيد عبدالحفيظ يعلق على هزيمة بيراميدز بالدوري    يسرا عن أزمة بوسي شلبي: «لحد آخر يوم في عمره كانت زوجته على سُنة الله ورسوله»    انطلاق مهرجان المسرح العالمي «دورة الأساتذة» بمعهد الفنون المسرحية| فيديو    أسخن 48 ساعة في مايو.. بيان مهم بشأن حالة الطقس: هجمة صيفية مبكرة    أمين الفتوى: طواف الوداع سنة.. والحج صحيح دون فدية لمن تركه لعذر (فيديو)    بسبب عقب سيجارة.. نفوق 110 رأس أغنام في حريق حظيرة ومزرعة بالمنيا    النائب العام يلتقي أعضاء النيابة العامة وموظفيها بدائرة نيابة استئناف المنصورة    هيثم فاروق يكشف عيب خطير في نجم الزمالك.. ويؤكد: «الأهداف الأخيرة بسببه»    جامعة القاهرة تكرّم رئيس المحكمة الدستورية العليا تقديرًا لمسيرته القضائية    «لماذا الجبن مع البطيخ؟».. «العلم» يكشف سر هذا الثنائي المدهش لعشاقه    ما حكم من ترك طواف الوداع في الحج؟.. أمين الفتوى يوضح (فيديو)    خطيب الجامع الأزهر: الحديث بغير علم في أمور الدين تجرُؤ واستخفاف يقود للفتنة    ضبط تشكيل عصابي انتحلوا صفة لسرقة المواطنين بعين شمس    البابا لاون الرابع عشر في قداس احتفالي: "رنموا للرب ترنيمة جديدة لأنه صنع العجائب"    هل يجوز الحج عن الوالدين؟ الإفتاء تُجيب    رئيس الوزراء يؤكد حِرصه على المتابعة المستمرة لأداء منظومة الشكاوى الحكومية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرسول بين منهج «هيكل» وفلسفة «وجدى» السيرة بالمنهج العلمى فى البحث والتحليل بعيدا عن الرطانة اللغوية وخرافات الأقدمين
نشر في الأهرام اليومي يوم 10 - 05 - 2019

المستشرقون استغلو ماكتبة اهل السيرة فى الطعن فى الاسلام ورسولة
حديث الغرانيق كاذب من اصله ويناقض عصمة البنى صلى الله وعلية وسلم فى تبليغ الرسالة
العلم يعترف بالوحى والوجود فوق عالم المادة
الدكتور هيكل وفريد وجدى من مجددى الفكر الدينى المتمردين على الافكار القديمة والمناهج القديمة.
يصعب أن نحصى عدد الذين كتبوا عن السيرة النبوية، ولا يمكن أن تتوقف الكتابة عنها حتى نهاية الزمان، فالسيرة النبوية مصدر شديد الثراء تنهل منه البشرية القيم النبيلة والمآثر الرفيعة ومكارم الأخلاق وصفات النبوة المصفاة، خاصة مع تقدم الزمن وسيطرة التكنولوجيا على كل مناحى الحياة، وتفسخ العلاقات الاجتماعية وتصاعد الشك والتساؤلات فى كل ما درجت عليه الإنسانية.
........................................................
لكن قليلة تلك الكتب التى تناولت حياة الرسول ورسالته وألزمت نفسها بالمنهج العلمى فى البحث والتحليل والاستقراء ولم تركن إلى النقل والاستغراق فى الرطانة اللغوية وتجنيب العقل عن التفسير، كُتُبٌ بنى كتابها معمارا فكريا يحمون به السيرة مما لحق بها من أقوال وحكايات ألصقت بها، سواء من باب حسن النية أو سوء الطوية، وتتعلق أحيانا بتفاصيل حميمية فى حياة النبى يستحيل أن يطلع عليها إنسان، فهى من أخص الخصوصيات ويستحيل أن ترد على لسانه ولو همسا.
ومن هذه الكتب كتابان فى غاية الأهمية، الأول هو حياة محمد للدكتور محمد حسين هيكل وصدر فى عام 1934، والثانى هو السيرة النبوية تحت ضوء العلم والفلسفة ل «محمد فريد وجدى»، وكتبه الأستاذ وجدى مسلسلا فى مجلة الأزهر على مدى سبع سنوات كاملة، بدأها فى عام 1934 وانتهى منه فى عام 1946، ثم جمعها فى الكتاب.
فى ذلك الوقت كانت الأفكار الحديثة ضربت المجتمعات الشرقية، وتسلل معها دعاوى الإلحاد وإنكار الدين، صحيح أنها كانت محدودة الانتشار فى مصر، لأسباب كثيرة، فمصر عرفت التوحيد من قديم الأزل، والمصريون هم أول شعوب الدنيا بحثا عن الله والإيمان، ومر عليهم كثير من الأنبياء والرسل، فكان الإلحاد يبدو مثل موضة غريبة لا تجد بيئة تحتضن شكوكه ونزعاته، لكن الإلحاد دوما له وجود صارخ، مثل أى جريمة غير مألوفة يظل المجتمع يلوك ويعجن فيها، فيظن الناس أنها ظاهرة عامة تستأهل أن يوأدها المجتمع فى مهدها قبل أن يستفحل خطرها.
وفى الوقت نفس كان الهجوم شرسا على الإسلام ونبيه من كتابات غربية، جمعت من الغرائب المنكرة كل ما تقدر على جمعه، وهى غرائب سجلها الأقدمون بحسن نية فى كتبهم، فنقلها الغربيون على علاتها منسوبة إلى مصادرها، باعتبارها حقائق مؤكدة مثلما فعل الكاتبان الفرنسيان لو ميريس وجاستون دوجاريك، اللذين وضعا كتابا فى السيرة المحمدية، قالا فى مقدمته إنهما يرويان سيرة نبى الإسلام كما كتبها أتباعه لا يزيدون حرفا واحدا.
وطبعا كان تشويها مقصودة، فهما لجأ إلى النقل الحرفى مع أن العقل الأوروبى الحديث قائم على النقد والتمحيص والتحليل، أى أهملا ما كان يجب أن يلتزما به من منهج علمى فى التثبت من الوقائع الواردة فى السيرة، ومشيا على الدرب القديم الذى كان شائعا فى العصور المظلمة.
باختصار كَتَبَ كل من هيكل ووجدى السيرة النبوية برؤية عصرية علمية، فهما أدركا أن القرن العشرين لا يقتنع فيه المثقفون والمتعلمون بسرد الأحداث التاريخية دون تعليل، ولا يسلمون بوجود النبوة دون بحث فى ماهيتها، ولا يؤمنون دون براهين محسوسة ملموسة لا تمترى فيها العقول، فهما فى زمن لا تنفع فيه الأساليب البيانية والبراعة الخطابية فى رى المتعطشين للمعرفة الصحيحة.
وكان منطقيا أن يتصدى هيكل ووجدى للسيرة، فكل منهما واسع الثقافة، غزير القراءة، دارس للقانون والفلسفة وعلم الاجتماع، على اتصال عميق بالثقافة الغربية ومناهجها الحديثة، فكان أن نسج كل منهما كتابه من تلك المصادر القوية، خاصة أن الالتزام بالمنهج العلمى الحديث يجبر صاحبه أن ينزع من نفسه كل رأى سابق وفكرة شائعة، كما لو أنه يحرث أرضا يزرعها لأول مرة..وعليه أن ببدأ بالملاحظة والتجريب، ثم الموازنة والترتيب، ثم الاستنباط المستند إلى مقدمات علمية.
وقطعا ثمة خلاف هائل بين الكتابين، وإلا كان التشابه بينهما من الدرجة التى تجعل كل منهما صدى للآخر، يدور فى فلكه ويعيش أفكاره.
وكتاب محمد حسين هيكل من عنوانه هو سيرة، أى رواية شاملة ل «حياة محمد»، من قبل مولده إلى وفاته، وكان طبيعيا أن يستهل الدكتور هيكل السيرة بالبيئة التى استقبلت خاتم الأنبياء، البيئة العامة أى حال العالم المحيط بالجزيرة فى ذلك الوقت، والبيئة الخاصة أى حال مكة وقريش بالذات.
وكانت تحيط بشبه الجزيرة قوتان دينيتان، قوة المسيحية وقوة المجاوسية، ولم تكن اليهودية بقوة يحسب حسابها، فهى دين أغلقه أصحابه على أنفسهم، دون بقية البشر، بسبب تصنفيهم بأنهم شعب الله المختار، وبخلوا بنشره حتى لا يتوسع الذين ينعمون به، فاستقر أغلبهم فى اليمن.
ويهبط هيكل من البيئة العامة ويفرد صفحات واسعة لمكة وقريش والكعبة، ويتسم تاريخ مكة قبل قدوم سيدنا إسماعيل إليها بغموض تام، فلا ذكر له فى أى مصدر من المصادر التى بحث فيها الدكتور هيكل، ولهذا يهتم دون إسراف بقصة سيدنا إبراهيم وأسباب هجرة ابنه سيدنا إسماعيل وأمه السيدة هاجر إلى مكة، ويروى قصة الفداء والخلاف بين المسلمين واليهود، إذ ذهب مؤرخو اليهود إلى أن المقصود بالذبح الوارد فى منام سيدنا إبراهيم هو إسحاق وليس إسماعيل، ويستعين الدكتور هيكل برأى الشيخ عبدالوهاب النجار فى كتابه «قصص الأنبياء» فى حسم هذا الخلاف، من التوراة نفسها، لأن الذبيح وصف بأنه ابن إبراهيم الوحيد، وبما أن سيدنا إسماعيل هو الابن الكبير سنوات قبل أن تحمل السيدة سارة وتنجب أسحاق، فالمقصود هو إسماعيل، لأن اسحاق لم يكن هو الابن الوحيد فى أى وقت.
ومكة نفسها بيئة صعبة، اتفق فيها المؤرخون والرواة على أن عصر الجاهلية من أخبث العصور، وأكثرها انحطاطا فى جميع النواحى الحلقية والعقلية والدينية، أى ولد الرسول فى أمة تائة فى الضلال والجهل والبغى والظلم والشرك والكفر والفرقة والاستبداد والقساوة والعنف والغضب والسخط.
ولد هذا اليتيم فى أمة بلغت وحشيتها وقسوتها أن تحفر لفلذات كبدها وتدفنهم صغارا ابرياء خشية إملاق وخوفا من العار.
وفى صفحات قليلة يمر الدكتور هيكل على حياة الرسول من مولده إلى زواجه، فهى فترة لا خلاف عليها، فهو نشأ وديعا هادئا أمينا نقيا طاهرا، ونائيا عن كل شر وآثام قومه وبيئته، حتى لم يستطع التاريخ أن يحفظ له غلطة أو كذبة أو جريمة، بل ان قومه ضربوا به المثل فى الطيب والصلاح والاستقامة والرحمة والصدق وسموه «الأمين».
ولم يخرج هيكل فى قصة زواجه من خديجة بنت خويلد عن الحكاية الأكثر شيوعا، بعد عودته بالقافلة من الشام مُتاجرا بأموال خديجة، وأنها تحدثت إلى أختها فى قول، وإلى صديقتها نُفيسة بنت مُنْيَةَ فى قول آخر، فأسرت نفيسة إلى محمد بدواخل السيدة خديجة، فسارع بإعلان قبوله زواجها..ولم يتطرق هيكل إلى روايات هى أقرب إلى الخرافات، مثل قصة أن خديجة دعت اباها الرافض لزواجها وزمرة من قريش إلى وليمة وشراب، ولما سكر أبوها، قالت له: أن محمد بن عبدالله يخطبنى فزوجنى إياه، فزوجها، وحين صحا من سكره، قال: ما هذا؟، قالت له خديجة: زوجتنى من محمد بن عبدالله، قال: أنا أزوج يتيم أبى طالب..لا لعمرى، فلم تزل به حتى رضى.
كان مستحيلا أن يرد هيكل هذه القصة ويرد عليها، رغم أن شيوخ السلفية يتمسكون بها طول الوقت بأسانيد قديمة يصفونها قوية جاءوا بها من كتب التراث والأحاديث النبوية، لسبب بسيط للغاية وهى أن أبا السيدة خديجة مات قبل زواجها من محمد بخمس سنوات.
المدهش أنهم يصرون عليها بالرغم من إساءتها للسيرة المحمدية، وتناقضها الفج مع صفات النبى ومكارم أخلاقه وزوجه.
بعد استقرار محمد راح الصادق الأمين يسأل الأسئلة التى راودت سيدنا إبراهيم عن الكون والخالق، وكان من عادة العرب فى ذلك الزمان أن ينقطع مفكروهم للعبادة زمنا فى كل عام يقضونه بعيدا عن الناس فى خلوة، يتقربون فيها إلى آلهتهم بالزهد والدعاء، ويلتمسون عندها الخير والحكمة، وكانوا يسمون هذا الانقطاع «التحنف والتحنث»، وكان محمد يصعدإلى غار أعلى جبل حراء طول شهر رمضان من كل سنة، يتأمل سذاجة قريش فى عبادة الأوثان ويلتمس طريق الحق..واختلف العلماء فى الشرع الذى كان يتعبدعليه، فقيل شرع نوح، وقيل إبراهيم، وقيل موسى وقيل عيسى، وقيل كل هؤلاء وهو ما يرجحه الدكتور هيكل.
وحين أشرف محمد على الأربعين، كانت نفسه قد خلصت من الباطل كله، وقد أدبه ربه فأحسن تأديبه، وقد اتجه بقلبه إلى الصراط المستقيم وإلى الحقيقة الخالدة، وفيما هو نائم فى الغار جاءه ملك وفى يده صحيفة، وقرأ الرسول محمد أول آيات نزلت عليه، وبدأت الرسالة.
يقسم الدكتور هيكل الرسالة إلى مراحل، الأولى دامت ثلاث سنوات وكان الإسلام فيها محصورا فى بيت محمد وأصدقأئه الأقربين، حتى أمره الله أن يظهر ما خفى من أمره، وأن يدعو عشيرته من بنى هاشم إلى الدين الجديد، فانصرفوا عنه مستهزئين، فانتقل إلى أهل مكة جميعا.
لم يحل غضب عمه أبى لهب ولا خصومة غيره من قريش دون انتشار الدعوة للإسلام بين أهل مكة، ولم يمر يوم دون أن يسلم بعضهم وجه لله، وكيف لا يحدث ومحمد يدعوهم إلى الحرية والعدالة والمساواة.
ولم يفلح أيضا هجاؤهم له ولا محاولات الحط من قدره، ولا تساؤلاتهم عن الخوارق المادية التى صاحبت سابق الرسل والأنبياء، فكانت معجزته كتاب الله، أحكاما وقيما وتنظيما للعلاقات وتفسيرا لبعض ظواهر الكون لم تعرف البشرية لها مثيلا، أنه دين العقل، فكيف يلجأ إلى خوارق للعقل فى إثبات صحته؟
وهنا يأتى الدكتور هيكل إلى حديث الغرانيق، الذى قيل فيه أن الرسول ذكر آلهة قريش بالخير وأن لها شفاعة، وأدهشه أن الحديث وارد فى كثير من كتب السيرة، ويمحو هيكل أى صحة له، ويفرد له حججا منطقية ويخلص إلى تهافته لأنه يناهض ما للنبى من العصمة فى تبليغ الرسالة.
وبنفس المنطق العلمى يفسر الدكتور هيكل الأسراء والمعراج والخروج إلى يثرب وإدارة النبى لشئون المدينة وغزوة بدر وأحد والقتال فى الإسلام دفاعا عن النفس والعقيدة وليس عدوانا ولا إرهابا وازواج النبى وعلاقاته بهن مفندا فساد تصورات المستشرقين وفتح مكة وحجة الوداع.
أما الأستاذ محمد فريد وجدى فقد نحا منحى فلسفيا علميا من أول سطر فى كتابه، وبدأه بموضوع النبوة والأدلة العلمية على حدوث الوحى، وقدم الكثير من الأدلة المنطقية العلمية على صحة النبوة من خلال إجابته عن ثلاثة أسئلة:
الأول: هل فى الوجود المحسوس ما يدل معرفة الكائنات نفثا فى الروع من غير طريق الحواس؟
الثاني: هل توجد حوادث إنسانية يقرها العلم نفسه تثبت وجود اتصال باطنى بين النفس وبين عالم أرقى منها؟
الثالث: هل يعترف العلم بوجود عالم روحانى فوق عالم المادة يسوغ اعتبار الوحى ممكنا؟
ويجيب عن الأسئلة الثلاثة بأدلة علمية خالصة وضرب أمثلة من عالم الحيوان واستعرض نماذج من عباقرة الغرب واستعان بما كتبه الروحيون من أساتذة الجامعات الأوروبية عن القوة المجهولة التى تظهر آثارها أمامهم ويحارون فى تعليلها..وبهذا المنطق المتسلسل دعم الأستاذ وجدى فكرة الوحى وفكرة نبوة محمد بن عبدالله، وبعدها راح يسرد السيرة النبوية، وكان طبيعيا أن يتكلم عن نشأة النبى قبل البعثة، ثم عن جهاده فى أداء الرسالة، وعما تعرض له من الإيذاء والاضطهاد صابرا مثابرا، كان السرد هو مفتاح التحليل لما تشمله السيرة من عظات وإنارة ما خفى من دلائل، خاصة وهو يشرح دور صلابة الذين دخلوا فى الإسلام فى تثبيت أركان الدعوة، فلم تستطع أعنف ضروب الأذى البدنى والنفسى أن تصدهم عن الدين الجديد.
ويتوقف الأستاذ فريد وجدى عند هجرة النبى إلى المدينة ويقف وقفة متأنية أمام انصراف المشركين عن غار ثور الذى احتمى به الرسول وصاحبه الصديق، وقد انقطعت أمامه آثار الأقدام، مما يعنى أن الغار قطعا هو مأوى المُهاجرَين، ويقول: رضينا أن نظن أن يكونوا قد تهيبوا النزول إلى الغار لتفتيشه، وأن يكونوا قد تخيلوا أن من ينزله تنوشه أفاعيه وترديه، ولكننا لا نرضى ولا نقبل أن نتخيل أنهم يتركونه ويرجعون أدراجهم دون أن يحاصروه أياما وليالى، حتى يتحققوا من خلوه، وإلا كانوا مهملين فى أمر يعدونه هو الأخطر على مكانتهم وسلطانهم.
يفسر الأستاذ وجدى هذا النكوص القرشى: أنها أية آلهية كبرى أعظم من أن تدركها عقول البشر، لأنه من المستحيل أن تجد سببا آخر يمنع المشركون من سد كل المنافذ والطرق التى يمكن أن يتسرب منها النبى وصاحبه إلى يثرب.
ولم يفرد الكاتب مساحات واسعة من أحداث ووقائع لم يجدد ما يستحق أن يمعن فى تحليلها كحديث السرايا وعن غزوة يهود خيبر وجلاء بنى النضير والوفود المتعاقبة على يثرب والحرب فى شرعة الإسلام وغزوة مؤتة وغيرها من وقائع لم تثر جدلا كبيرا، فكاتب السيرة إذا سار على منهج الفلسفة والتحليل العلمى يتهيب أن يزل إلى خطأ غير مقصود، فيتمحل تبعات نفسية تطارده وتؤرقه طول حياته، لأن الكتابة مثل طلقات الرصاص إذا خرجت يصعب تصحيح مسارها وتظل علاقة بمن أطلقها مهما اعتذر أو تراجع وبرر أسباب فعلته، فليس من يؤرخ لنبى الإسلام كمن يؤرخ لبطل من أبطال التاريخ، فالأنبياء سيرة حية مؤثرة فى ملايين البشر على امتداد الزمن وليسوا مجرد تاريخ، فالنبى قدوة خالدة فى فعله وعمله وأى تفسير نخطئ لموقف من مواقفه له خطورة محققة.
لكن الأستاذ وجدى يسهب فى تحليل فتح مكة، وهو إسهاب له منطق ووجاهة، إذ كان الظن أن عاصمة الشرك التى دارت حولها الأحداث لا يمكن أن تسقط بهذه السهولة دون أنهار من دم ومقاومة شرسة، فإذا بالفتح يكلف المسلمين شهيدين فقط، وثمانية وعشرين قتيلا ليسوا من قريش وإنما من بنى الحارث وبنى بكر وبنى هذيل، مع أن الفتح هو نهاية حاسمة وضياع تام لامتيازاتها الدينية فى سدانة البيت وما يتصل بها من المهام الدينية.
كان على الكاتب أن يفتش عن الأسباب ويفسرها، وحصرها فعليا فى خمسة أسباب، نختصرها فى ضعف العاطفة الدينية عند العرب فلم يهتموا بأمر البيت العتيق، تفكك الرابطة الاجتماعية بسبب التنازع القبلى، إسلام كبار قادة قريش، ضخامة القوة التى جاء بها النبى، وتوقف تحريض اليهود ضده بعد إجلاهم من المدينة ودخول ما بقى منهم فى طاعته.
ويختتم اأستاذ محمد فريد وجدى كتابه كعادة كل كتاب السيرة بالكلام عن حجة الوداع والتحاق النبى بالفريق الأعلى بعد أن ترك أصحابه على الملة البيضاء.
هذه لمحات فى عجالة من كتابين فى غاية الإهمية، حرص صاحبيهما على تفكيك الخرافات والغرائب التى سقط فيها بعض كتاب السيرة النبوية عفوا، لكن تلك الخرافات والغرائب كانت مصدرا للمستشرقين المتربصين الذين امسكوا بسهام الافتراء والتشكيك واستهدفوا الرسالة وحاملها.
ويمكن أن نصنف هذين الكتابين بأنهما من أعمال تجديد الفكر الدينى الذى حدث فى مصر فى نهاية القرن التاسع عشر إلى أوائل الستينيات من القرن العشرين، قبل أن نتقهقر ويعود جمع منا إلى الأفكار القديمة والمناهج القديمة التى تناهض العقل والتفكير العلمى الذى حض عليه الإسلام فى أول كلمة نزلت على رسوله لتهديه إلى الله ومنهاجه وهى «اقرأ».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.