مقام المصطفى (ص) تزخر السيرة النبوية الشريفة بالكثير من القيم والمواقف التي يتوقف عندها المرء، ينهل منها دروسا تفيده في الحياة، فالرسول صلي الله عليه وسلم، كان الرسول الذي ارتبطت رسالته بإنسانيته، فكانت الكثير من الحوادث اليومية كاشفة عن منهجه ورؤيته للحياة وكيفية تطبيقة لقيم الإسلام علي أرض الواقع، ضاربا المثل للمسلمين من بعده، ومن المجالات التي كشف فيها النبي عن عبقرية إنسانية حقيقية المجالات العسكرية والسياسية، فكان يخرج علي رأس الجيوش الإسلامية، ويدير في الوقت ذاته علاقات سياسية مع محيطه العربي سرعان ما تمددت لتشمل الأمم المحيطة بعالم العرب، واتخذ الكثير من المواقف والقرارات التي جعلته محل إعجاب وتقدير من قبل كل من درسوا السيرة النبوية غربا وشرقا حتي يومنا هذا. فوفقا لكتب السيرة المعتمدة مثل سيرة ابن هشام، و «المغازي» للواقدي، والطبقات الكبير لابن سعد، كان النبي قائدا عسكريا علي درجة كبيرة من القدرة علي الاستماع لآراء أصحابه في المعارك الفاصلة، ففي غزوة بدر الكبري استشار الرسول صحابته في أربعة مواضع، حين الخروج لملاحقة قافلة قريش أو تركها، ثم عندما وجد قوات قريش مستعدة للقتال، فهل يرد المسلمون بالاستعداد للقتال أم يعودوا إلي المدينة ليتحصنوا بها، وفي المرة الثالثة استشار صحابته لتحديد موضع ينزل فيه الجيش الإسلامي، واستجاب بالفعل لمشورة أحد الصحابة ونقل الجيش إلي مكان قريب من بئر بدر، كما استشارهم في كيفية التعامل مع أسري قريش بعد انتصار المسلمين في المعركة. كذلك تكررت مشورة الرسول للصحابة في غزوة الأحزاب، إذ لما سمع رسول الله J بزحف قريش والأحزاب إلي المدينة، وعزمها علي حرب المسلمين والقضاء عليهم، استشار أصحابه، الذين قرروا بعد الشوري التحصن في المدينة والدفاع عنها، وأشار الصحابي سلمان الفارسي اعتمادا علي خبرته في حروب الفرس، بحفر خندق حول المدينة، وقال: «يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس؛ إذا حوصرنا خندقنا علينا»، فوافقه النبي وأمر بحفر الخندق حول المدينة، وتمّ تقسيم المسؤولية بين الصحابة، وكان النبي نعم القائد فشارك بنفسه في حفر الخندق ضاربا المثل في التفاني في العمل لجميع المسلمين. وتبدت العبقرية السياسية للرسول في توقيع صلح الحديبية، حيث قال مبعوث قريش إلي النبي عروة بن مسعود الثقفي لقريش بعد أن التقي بالنبي: «أي قوم، والله لقد وفدت علي الملوك كسري وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله إذا أمر أمراً ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون علي وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له»، ثم قال: «وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها»، هكذا استطاع النبي بدبلوماسيته إقناع مفاوض قريش بوجهة نظره وعدالة قضيته. ردت قريش بسحب عروة بن مسعود وتعيين خطيبها سهيل بن عمرو، والذي كان يحمل مهمة واحدة وهي إتمام الصلح مع النبي وصحابته، ولكن بما عرف عنه من خطابة وسحر بيان حاول أن يتمسك بمسلمات قريش التي لا تعترف لمحمد بن عبد الله بالنبوة، فرفض عند توقيع الاتفاقية أن يكتب في أولها «بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال سهيل: أما الرحمن، فما أدري ما هو، ولكن اكتب «باسمك اللهم»، كما كنا نكتب، فقال المسلمون: «والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال الرسول: «اكتب باسمك اللهم»، ثم قال: «اكتب: هذا ما قاضي عليه محمد رسول الله»، إلا أن سهيلا اعترض قائلا: «والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولكن اكتب محمد بن عبد الله»، فقال: «إني رسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله». ورغم توقيع الصلح الذي يعد أول وثيقة رسمية تعترف فيها قريش بوضع النبي في المدينة، إلا أن بعض الصحابة اعترضوا علي توقيع هذه المعاهدة، وكانوا يريدون الدخول في مواجهة حربية مع قريش، وكان علي رأس هؤلاء عمر بن الخطاب، إلا أن الرسول أثبت بعد نظره بهذه المعاهدة التي سمحت له بالتأكيد علي زعامته الدينية علي العرب، فكانت فتح الفتوح، إذ كانت تعبيرًا عن انهيار قدرة قريش علي الحشد إزاء الدين الجديد، وتكلل الصلح بتوفير الأرضية التي انطلق منها النبي لفتح مكة وتوحيد بلاد الحجاز تحت قيادته، وضمان دخول قريش في الإسلام، وهنا ضرب الرسول مثلا ولا أروع عندما تمسك بالدبلوماسية والرحمة ورفض أن ينكل بقريش بعد فتح مكة واضعًا قاعدة اساسها الرحمة وصلة الرحم، قائلا للقريشيين «اذهبوا فأنتم الطلقاء». انتصارات الرسول العسكرية كانت ضرورية في تأمين دولة الإسلام في المدينة، لكن بعد فتح مكة بدأت الدبلوماسية تلعب الدور الحاسم في نشر الإسلام، فوفود القبائل العربية في نجد واليمامة واليمن بدأت في التوافد علي المدينة لتعلن دخولها في الإسلام، ولم يشتط النبي علي هذه الوفود بل عاملهم بما يعامل به أصحابه وأنصاره، وكان غرضه الأساسي تعليم الناس قواعد الدين الجديد، فخضعت له معظم الجزيرة العربية سلما، وهو ما مكنه من التأكيد علي الطابع العالمي للدعوة الإسلامية عبر إرسال الرسول إلي ملوك عصره لدعوتهم للدخول في الدين الجديد، فأرسل إلي قيصر الروم وكسري الفرس ونجاشي الحبشة والمقوقس حاكم مصر. عبقرية الرسول العسكرية وقيادته النموذجية لصحابته وقدراته الدبلوماسية الواسعة كانت محل إعجاب المؤرخين والباحثين المحدثين، ورغم أن الدراسات الأكاديمية الغربية ناصبت الرسول والإسلام العداء، إلا أنها لم تستطع إلا ان تخضع لنور الحق وتشيد بما للرسول من إمكانات وعبقرية إنسانية تضاف علي ميراث النبوة، ولم يكن غريبا أن يكون القائد العسكري الفذ نابليون بونابرت، أحد أول من أشاد بعبقرية النبي العسكرية بحسب كتاب الدكتور أحمد يوسف «بونابرت ومحمد القاهر المقهور»، الذي كشف عن قصة قصيرة كتبها بونابرت عن النبي وتضمنت وجهة نظره وتقييمه لرسول الإسلام مؤكدًا أن شخصية النبي القوية كانت أبرز الأسلحة في النجاح الذي أحرزه في بلاد العرب، وحاول بونابرت استلهام أحد أبرز جوانب النبي وهي قدرته علي السيطرة علي القبائل العربية وتوحيدها رغم تنافرها. من جهته، قال الشاعر والمفكر والفيلسوف الفرنسي لامارتين (المتوفي سنة 1869م) إن: «النبي محمد هو النبي الفيلسوف المحارب الخطيب المشرع قاهر الأهواء وبالنظر إلي كل مقاييس العظمة البشرية، أود أن أتساءل هل هناك من هو أعظم من النبي محمد»، بينما قال المفكر والأديب الأيرلندي الساخر برنارد شو (المتوفي سنة 1950م): «إن العالم أحوج وفي أشد الحاجة إلي رجل في تفكير النبي محمد، هذا النبي الذي لو تولي أمر العالم اليوم لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر كلهم إليها»، وتأتي شهادة برنارد شو رغم انتمائه للمدرسة الاشتراكية. أما صاحب كتاب «الخالدون مئة» العالم الأمريكي مايكل هارت، فقد أثبت في كتابه الذي ترجمه الراحل أنيس منصور، أن رسول الإسلام أعظم شخصية في التاريخ البشري كله، وقال: «إن محمدًا كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمي وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي.. إن هذا الاتحاد الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معًا يخوّله أن يعتبر أعظم شخصية ذات تأثير في تاريخ البشرية»، الجميل أن هارت عالم فيزيائي لا يؤمن إلا بالتفكير العلمي ولا يحابي أحداً إلا الحقيقة فجاءت شهادته لتقطع ألسنة الحاقدين. في مشرق العالم، تحديدا في الهند نجد الزعيم الهندي كبير الروح العظيمة غاندي (المتوفي سنة 1948م) الذي يقول عن نبي الإسلام: «بعد انتهائي من الجزء الثاني عن حياة النبي محمد، وجدت نفسي أني بحاجة إلي التعرف أكثر علي حياته العظيمة، إنه بلا منازع يملك قلوب ملايين البشر». أما الأديب الروسي الكبير ليو تولستوي صاحب رائعة الحرب والسلام، فقد ذهب إلي أن «شريعة محمد ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة». أما أكبر مؤرخي القرن العشرين أرنولد توينبي، صاحب العمل الموسوعي «دراسة التاريخ» ونظرية التحدي والاستجابة، فقد قال عن محمد: «لقد كرّس محمد [صلي الله عليه وسلم] حياته لتحقيق رسالته في كفالة هذين المظهرين في البيئة الاجتماعية العربية [وهما الوحدانية في الفكرة الدينية، والقانون والنظام في الحكم]. وتم ذلك فعلاً بفضل نظام الإسلام الشامل الذي ضم بين ظهرانيه الوحدانية والسلطة التنفيذية معًا.. فغدت للإسلام بفضل ذلك قوة دافعة جبارة لم تقتصر علي كفالة احتياجات العرب ونقلهم من أمة جهالة إلي أمة متحضرة، بل تدفق الإسلام من حدود شبه الجزيرة، واستولي علي العالم السوري بأسره من سواحل الأطلسي إلي شواطئ السهب الأوراسي». أما المؤرخ البريطاني من أصل لبناني فيليب حتي، فقد قال: «إذا نحن نظرنا إلي محمد من خلال الأعمال التي حققها، فإن محمدًا الرجل والمعلم والخطيب ورجل الدولة والمجاهد يبدو لنا بكل وضوح واحدًا من أقدر الرجال في جميع أحقاب التاريخ. لقد نشر دينًا هو الإسلام، وأسس دولة هي الخلافة، ووضع أساس حضارة هي الحضارة العربية الإسلامية، وأقام أمة هي الأمة العربية. وهو لا يزال إلي اليوم قوة حية فعالة في حياة الملايين من البشر». صاحب قصة الحضارة وول ديورانت قال: «يبدو إن أحدًا لم يعن بتعليم القراءة والكتابة، ولم يعرف عنه أنه كتب شيئًا بنفسه، ولكن هذا لم يحل بينه وبين قدرته علي تعرف شؤون الناس تعرفًا قلّما يصل إليه أرقي الناس تعليمًا»، مضيفا: «كان النبي من مهرة القواد، ولكنه كان إلي هذا سياسيًا محنكًا، يعرف كيف يواصل الحرب بطريق السلم»، ليصل إلي نتيجة مفادها أن: «إذا ما حكمنا علي العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا إن محمدًا [صلي الله عليه وسلم] كان من أعظم عظماء التاريخ، فلقد أخذ علي نفسه أن يرفع المستوي الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحًا لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله، وقلّ أن نجد إنسانًا غيره حقق ما كان يحلم به».