تعانى مساحات من الحياة الفكرية المصرية هيمنة الجمود والنزعة السلفية التى تعتمد على ميراث من الآراء والأفكار والشروح النقلية حول أصول كل مدرسة من مدارس الفكر أو العمل السياسى، التى تشكلت فى إطار عمليات التشكل التاريخى لنظم الأفكار الأساسية، الإسلامية النقلية، والليبرالية، والماركسية والقومية العربية. غالب عمليات التكوين الفكرى منذ نهاية القرن التاسع عشر، وطيلة القرن الماضى ولا تزال، لم تكن مكتملة الأبعاد والأركان لهذه الأنساق من حيث الترجمة للأصول المرجعية المستعارة من التراث الفكرى الأوروبى والغربى، أو المعرفة التاريخية والعميقة بالأصول الإسلامية فى مختلف المجالات والاستثناءات محدودة. من ثم سادت بعض الشروح والتعميمات حول نظم الأفكار الكبرى وبعض مصادرها التى ترجمت، أو تم الاطلاع عليها من بعض المفكرين أو المثقفين المصريين، لاسيما فى المرحلة شبه الليبرالية، وقلة قليلة هى التى استطاعت أن تتابع التطورات فى الإنتاج المعرفى والفلسفى والسياسى والثقافى فى مصادره الأساسية لكل تيار أو جماعات داخله. ولدت بعض هذه التيارات مبتسرة فى ظل واقع اجتماعى يعانى ميراث التخلف التاريخى، وسيادة الثقافة والقيم التقليدية، ومن ثم عانت مشكلة معرفية تمثلت فى عدم استيعاب تراث كل تيار فى سياقاته التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، وتم التعامل مع مجموعة من الأفكار العامة والكبرى، وتمت قراءتها، وكأنها خارج سياقات وحدود الشرط التاريخى لميلادها، ولقوانين تطورها فى علاقاتها بتشكيلات النظام الرأسمالى الأوروبى والغربى. من ثم بدت فجوات معرفية وتاريخية بين بعض الأنساق الفكرية المستعارة من المرجعيات الغربية، وبين الواقع الموضوعى المصرى وسياقاته التاريخية والاجتماعية، والاقتصادية،. ترتب على ذلك ضعف القدرة على قراءة الحالة المصرية وتشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فى ضوء بعض الأفكار شبه الليبرالية، أو الماركسية أو الإسلامية النقلية، أو القومية العربية. قلة قليلة من المفكرين كانوا قادرين على استيعاب الفجوات التاريخية والمعرفية بين الواقع التاريخى المتطور للأنساق الليبرالية والماركسية الغربية فى إطار تغيرات وتحولات الرأسمالية الأوروبية، وحركة القوميات، والدولة/ الأمة، وبين حالة التشوه البنائى فى التشكيلة شبه الرأسمالية، وسطوة كبار ملاك الأراضى الزراعية فى المرحلة شبه الليبرالية. من ناحية أخرى، شكل الانقطاع فى تطور التجربة شبه الليبرالية بعد تأسيس نظام يوليو، أحد أسباب عدم تطور سرديات الأفكار الكبرى الليبرالية، والماركسية، فى ظل سيادة الأيديولوجيا الناصرية، وذلك بسبب القيود التى فرضت على حريات الرأى والتعبير، وحل الأحزاب السياسية، والضوابط الصارمة على تكوين الجمعيات الأهلية. أسهمت أيضا قلة الترجمات للفكر الليبرالى الفلسفى والسياسى على عدم حيوية منظومة الأفكار الليبرالية ودعاتها فى مصر الناصرية، والساداتية على الرغم من عديد التغيرات والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التى تمت بعد سياسة الانفتاح الاقتصادى، واستمرارية التسلطية السياسية والتسلطية الدينية حتى عهد مبارك. هيمنة الجمود والسلفية الفكرية التى تعيد إنتاج بعض المقولات أيديولوجية العامة الليبرالية والماركسية، ترجع أيضاً إلى: القيود السياسية والتشريعية والأمنية المفروضة على المجال العام السياسى، وعلى حرية تكوين الأحزاب السياسية، والجمعيات الأهلية، الأمر الذى أدى إلى ضعف التفاعل بين الفكر السياسى لهذه الجماعات السياسية والفكرية، وبين الواقع الموضوعى، ومن ثم غياب التجارب السياسية وسط القوى الاجتماعية المختلفة، وعدم تبلور رأسمال سياسى خبراتى، يتراكم عبر الحركة والفعل السياسى الجماهيرى. ساعد كذلك على استمرارية السلفيات الأيديولوجية والفكرية، قلة الكتابات النقدية التى درست هذه الأنساق والجماعات الحاملة لها، فضلا عن ندرة الدراسات والكتب حول تاريخ تطور الأفكار والسرديات التى ظهرت فى الحياة الفكرية المصرية منذ يوليو 1952، وحتى الآن، وذلك من خلال الرصد والتحليل النقدى والتاريخى للإنتاج الفكرى الأجيال المختلفة من المثقفين المصريين البارزين، منذ عقد الخمسينيات من القرن الماضى، وحتى اللحظة التاريخية الراهنة. نقص وندرة الكتابات التاريخية المنهجية والنقدية حول الإنتاج الفكرى لأجيال المثقفين المصريين البارزين أدتا إلى ضعف عمليات التجديد الفكرى، وتآكل النزعة إلى تكوين المدارس الفكرية، والأخطر إلى عدم المساءلة التاريخية والمنهجية للحياة التاريخية للأفكار على تعددها التى سادت فى مصر والمنطقة إلا قليلاً، ولدى بعض المفكرين والباحثين المصريين والعرب. من هنا تبدو من الأهمية بمكان ضرورة المساهمات البحثية حول تاريخ تطور الحياة العقلية والفكرية للأجيال المتعاقبة للمثقفين البارزين، لاسيما منذ عقد السبعينيات، وذلك لمساءلة تقاليدنا وأفكارنا الكبرى أو الفرعية، ومن ثم ثقافاتنا المصرية وإظهار مناطق الحيوية ومساحات الجمود والتخلف الفكرى. إن مساءلة التقاليد وتغييرها وفق البروفيسور فضل الرحمن بإمكانها أن تتواصل إلى ما لا نهاية، ولا تكون ثمة نقطة محددة أو ذات أفضلية، يكون التاريخ الفعلى المعين مسبقاً، فى حصانة من مثل هذه المساءلة وبالتالى يمكن تأكيده بشكل واع. لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح