نعم، ما تفسير هذا الغياب شبه الكُلِّى للفلسفة فى حياتنا العقلية؟ هل هاجر الفكر الفلسفى والتفلسف حياة المثقفين المصريين المعاصرين؟ أين الفلاسفة؟ أو على أقل تقدير محاولات التفلسف، أو مشاريعه فى حواراتنا، أو على الأقل فى منولوجات شبه الصمم السائدة؟ قد يُقال كعادة الفكر الرائج بغلظته، وسطحيته فى طرح الأسئلة المعادة -التى لفرط تكرارها وضحالتها فقدت شرعية أن تكون أسئلة- وهل المشكلات الفكرية، والثقافية بحاجة إلى الفلسفة؟ وهل نحن فى حاجة إلى المزيد من تعقيد الأمور والسبل أمامنا حتى نطالب الفلسفة بالحضور فى حياتنا؟ نعم نحن بحاجة إلى الحضور الفلسفى فى حياتنا الثقافية، لكى تكون هناك حياة ثقافية أصلًا. إن أحد أسباب ضحالة بعض الحوارات السياسية، والثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية السائدة منذ عديد العقود، مرجعة غياب الأبعاد الفلسفية، والتأصيلية لمثل هذه الحوارات، بحيث تبدو كأنها سجال وصراخ حول جزئيات القضايا، وأقسام من نظم الأفكار السائدة فائدة للوهج والألق، الذى يصاحب بعض السجالات الفكرية العميقة، حال حضورها الاستثنائى والنادر فى حياتنا الثقافية والسياسية والأكاديمية. إن ملف الفلسفة ودورها فى حياة المصريين المحدثين من أخطر هذه الملفات قاطبة. ويبدو أن هذا الغياب مرجعه أسباب عديدة يكمن بعضها فى ما يلى: 1- أن النظم السياسية المتعاقبة فى مصر، بحكم التكوين الثقافى لقادتها، وموقفهم الوجل من الثقافة، حيث ارتبطت الفلسفة، فى أذهانهم بالتعقيد، والتعالى على الواقع، ومن ثَمَّ انطبعت فى أذهانهم، ومدركاتهم، صورة سلبية عن الفلسفة والمشتغلين بها، باعتبارهم يقومون بنشاط سفسطائى ومتعالٍ على الواقع، ومن ثَمَّ يشكلون تعبيرًا عن أفكار هابطة من أعلى، أو محلقة فى أجواء الأبراج العاجية. ولعل انعزال المشتغلين بالفلسفة، ونزوعهم إلى معالجة الموضوعات والمباحث التقليدية فى الفلسفة، أدّى إلى صياغة هذه الصور والمدركات السلبية والمشوهة عن الفلسفة، والمشتغلين بها. خصوصًا أن غالب المشتغلين بالدراسات الفلسفية فى جامعاتنا لم يشاركوا إلا قليلاً ومن خلال قلة لامعة، فى السجالات الوطنية والثقافية، والفكرية التى سادت مصر طيلة عديد العقود. 2- ارتبطت بالصور السلبية للصفوة والسلطة السياسية من الفلاسفة والمتفلسفين سياسة إعلامية، محورها تهميش دور المشتغل بالفلسفة فى النشاط الإعلامى، والثقافى للنظام إلا لقلة، مما زاد من تفاقم مواقع تهميش العاملين فى الحقل الفلسفى. 3- ارتبط النشاط الفلسفى فى جامعاتنا بالتدريس، وعرض تاريخى -ذو طبيعة سردية حينا ونقدية على الأقل- للتطور النظرى لتاريخ الفلسفة، كبديل عن تحليل لأنظمة الأفكار والنظريات والمفاهيم الفلسفية الكبرى بتنوعاتها وروافدها، وربط هذه النتاجات الفلسفية بالواقع الاجتماعى والاقتصادى السياسى والثقافى الذى أسهم فى إنتاجها، مع دراسة لدور الفيلسوف فى تاريخ الأفكار. هذه الطريقة فى تدريس الفلسفة أسهمت فى خلق مدرسين للفلسفة، ولم تساعدنا على خلق فلاسفة فى كل مرحلة تاريخية، ولأن لدينا فى الغالب مدرسين للفلسفة، لا منتجى أفكار فلسفية، وكان من أثر ذلك هو ظهور بعض المشاريع الفلسفية المجهضة، كمحاولة عثمان أمين فى الجوانية فى إطار الفلسفة المثالية، وزكى نجيب محمود فى الوضعية، المنطقية، وعبد الرحمن بدوى فى الزمان الوجودى. أو يحيى هويدى فى الحياد الفلسفى، ووصولًا إلى حسن حنفى وكتاباته، والنزعة العقلانية اللامعة والرصينة لدى فؤاد زكريا. 4- وقد أدّت البيئة السياسية والفكرية والجامعية المسيطرة إلى عدم قدرتنا على دفع العناصر الموهوبة، ومن ثَمَّ إلى ظهور فلاسفة من بينهم قادرين على إنتاج الأفكار الفلسفية، فضلًا عن عدم قيام المشتغلين بالدراسات الفلسفية فى المساهمة فى صياغة بعض السمات القومية للفلسفة، حتى فى إطار الفلسفات والمدارس الفلسفية العالمية، وعدم تطوير الموروثات الفلسفية الوطنية. وهو الأمر الذى عرقل عمليات تطوير وتجديد العقل المصرى المعاصر. 5- أن الكتابات الفلسفية المصرية فى الجامعة، يبدو أنها تعانى من انقطاع التواصل مع الفكر الفلسفى الغربى المعاصر، لدى هابرماس ودريدا، وفوكو وجاك ديلوز، وبودليارد وأترابهم وما بعدهم، أو لدى لويس التوسير وآخرين. وما زلنا ندرس التاريخ الفلسفى وفق مناهج تحليلية تقليدية، وحول شخصيات، وأفكار نمطية فى الكتب المدرسية. هذا الانقطاع عن التواصل مع العطاء الفلسفى الإنسانى المعاصر، هو ما أدّى بالفعل إلى جمودنا الفكرى، وتعثّر فلسفى إذا ما قورن ذلك بالثورة فى المناهج التحليلية لدراسة الفلسفة فى العالم. 6- أن غياب الفلسفة فى الحوارات والسجالات السياسية الراهنة يؤدّى إلى جدب الأفكار المطروحة، وغياب أى أفق لتطور الحوارات والسجالات الخصبة، أو الصراعات الفكرية المثمرة. ويجعل تفكيرنا السياسى والاقتصادى مقطوع الجذور. 7- أن تعقيد الكتابة والمصطلح الفلسفى، أسهم فى إيجاد فجوة وجفوة بين المثقف والقارئ العام والكتابة أو القول الذى يسكنه بعض التفلسف، ومن ثَمَّ ميل الصحف والإعلام المرئى أساسًا إلى رفض هذا النمط من الكتابات أو الحوارات أو المداخلات، بمقولة ابتعادها عن الوصول إلى قطاعات واسعة من المشاهدين والقراء. ذات مرة تقابلت فى أوائل التسعينيات مع المفكر المغربى محمد عابد الجابرى على مقهى كلينى «Clune» فى تقاطع السان جيرمان والسان ميشيل، وسألته عن سر النشاط الثقافى والأكاديمى فى المغرب الشقيق، كانت إجابته إنها الفلسفة.. الفلسفة وإدماجها فى التعليم الثانوى والإعدادى على ما أتذكَّر. يبدو أن ترجمة الإنتاج الفلسفى المرجعى فى الفلسفة الغربية وغيرها من الأهمية بمكان لتطوير ثقافاتنا المصرية، وكذلك ضرورة إدخال الفكرى والتفكير الفلسفى والنقدى فى نظامنا التعليمى العام والدينى، وذلك كأحد مداخل تطوير وتجديد ثقافتنا، وحواراتنا، وسجالاتنا، وأفكارنا.