يعاني العقل المصري وأنماطه المختلفة – الديني والسلفي والليبرالي والماركسي والناصري والمستقل – من اعتلالات بنيوية في عملياته الذهنية وإنتاجه الفكري والسياسي والثقافي، والتي تتمثل في إعادة إنتاجه الخطاباته المتعددة في عديد المجالات، في مرجعياتها ولغتها ونمط المحاججة داخلها، وفي الشعارات والسرديات التي يطرحها على مستهلكي إنتاجه من سلع سياسية وثقافية ومن تصورات حول التنمية والخروج من آثار التخلف التاريخي والبنيوي، بل وفي إعادة طرح الأمثلة على نجاح بعض هذه الوصفات الفكرية حول التنمية في بعض المجتمعات الأوروبية، أو في جنوب العالم. أفكار قديمة باتت تقليدية على الرغم من أنها تقدم في لغة تبدو حداثية أو تحديثية. نعيش في مجتمع متغير وإقليم مضطرب وعالم سريع التطور تقنياً وفكرياً واقتصادياً، تجتاحه ثورة هائلة في تكنولوجيا الاتصالات والوسائط المتعددة وانهيار الحدود والسياجات وتآكل مبدأ السيادة الوطنية، وضعف قدرة السلطات السياسية على السيطرة والحكم من خلال الأفكار والسرديات الكبرى التي انهارت، وظهرت السرديات الصغيرة، والمعاني والأطر الصغيرة الجامعة لمكونات بعض المجتمعات في كثير من بلدان العالم المعولم وما بعده. ولا نزال نفكر في أمورنا وشواغلنا الحادة، ومشاكلنا المتفاقمة بنفس المفاهيم والمنطق واللغة والشعارات والأفكار التي سادت في عالمنا وإقليمنا وبلدنا منذ عديد العقود التي تمتد في بعضها إلى المرحلة شبه الليبرالية 23-1952، أو في عهدي ناصر والسادات بعد تأسيس نظام يوليو التسلطي، أو إعادة تكرار مقولات الإصلاح الاقتصادي والخصخصة التي نشرت الفساد السلطوي والنخبوي والجماهيري إلى نطاقات واسعة أدت إلى تحوله إلى أحد آليات عمل البيروقراطية، وجزءاً أساسياً من السلوك الاجتماعي للمصريين، وبات يشكل عقبة أساسية إزاء أي إمكانية للإصلاح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي. تحولت جرائم السرقة والاختلاس والرشوة وجرائم الموظفين العموميين إلى جزء لا يتجزأ من أنماط الحياة اليومية، ولا تزال الأفكار حول مكافحة الفساد تواجه بعنت ورفض وتبريرات له! والأخطر أنه أصبح جزءاً من منظومة كاملة للقيم تمتد من جرائم الموظفين العموميين إلى بعض التبريرات ذات التأويل الديني، وتحويله "لقيمة أخلاقية" مسيطرة، صحيح أنها قيمة مضادة للقيم الأخلاقية الإيجابية، أو التي تستند إلى أصول دينية، أو إلى قيمة قانونية مستمدة من المصالح والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها قانون الدولة وتنظيمها الاجتماعي والإداري الحديث! الجمود الفكري، وإعادة إنتاج الأفكار والمقولات – وبعضها أيديولوجي ديني تأويلي- باتت تشكل سمت عام منذ عقود، ويبدو أن هذه الحالة التاريخية المستمرة لم تعد تقلق أحداً في النخب السياسية الحاكمة، أو في المعارضة، أو في دوائر المثقفين أو الباحثين، والاستثناءات القلقة محدودة، ويتم فرض النسيان والحجب عليها! حالة من فقر الفكر، وضعف الإرادة، والكسل العقلي تسيطر على حياتنا العقلية، وبنياتنا النفسية الجماعية، والجميع يبدون متصالحين مع هذه الحالة الجماعية، إلا قليلاً من العقول النقدية والإبداعية المسكونة بقلق الأسئلة، ونقد الموروثات الوضعية، والسلوكيات الاجتماعية المحمولة على الازدواجية والنفاق والكسل الجماعي، واحتقار قيمة العمل والمسئولية وضعف المبادرة الفردية أو الجماعية. ساد الامتثال والخضوع للقيم السلبية السائدة وتمثلها والتطبيع معها والتبرير لها. ثمة نزعة للتمثيل الظاهري لأداء العمل، بينما لا عمل ولا إنتاج ولا إبداع، وإنما الجميع في حالة تمثيل شكلي لأداءهم للأعمال المنوطة بهم، بينما لا يقدم العمل في أشكاله البيروقراطية المتخلفة إلا كجزء من سوق الفساد والرشوة والاختلاس ... إلخ! الأخطر أن تضخم الجهاز الإداري للدولة بات مفرطاً وخطراً – 7 ملايين موظف وعامل- وبات يشكل حالة من استنزاف موارد الدولة لأنها بيروقراطية كسول وتكره العمل الجاد وأعمال قواعد المسئولية والثواب والعقاب، وتعتبر أن محاولة تحريك هذه الجثة البيروقراطية الضخمة، هو تهديد لمصالحها وعمل مضاد للثورة، وتثير المخاوف من التظاهر والاحتجاج الفئوي إذا ما حاولت الدولة أحداث إصلاح إداري جذري أو جزئي في إطار هذه البيروقراطية الهرمة! الأفكار المقدمة من النخبة السياسية الحاكمة، والمعارضة لتحريك الاقتصاد ومعالجة إختلالاته الهيكلية، وتمظهراته على صعيد المشاكل الاجتماعية تبدو قديمة ومستهلكة، وتفتقر إلى التجديد أو السعي إليه، أو الاطلاع على التجارب التنموية الناجحة في بعض بلدان جنوب العالم التي عانت من مشاكل اقتصادية طاحنة، وأزمات اجتماعية حادة، ووجدت حلولاً لمشاكلها! بينما نعيش في حضانات الفكر القديم الذي ينتمي إلى زمن الحرب الباردة بين الإمبراطورية الماركسية، وبين الكتلة الرأسمالية الكبرى بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية. انهارت الإمبراطورية الفلسفية الماركسية والكتلة الشيوعية، ومعها السرديات الكبرى والحقائق الأيديولوجية المطلقة، ونحن لا نزال نكرر ذات الخطابات والرؤى والأفكار والسلع السياسية والأيديولوجية، ونتعامل مع لغة عصرنا الجديد ومتغيراته على أنها "ماكياج لغوي"، وبيان إنشائي لا أكثر ولا أقل، وقلة قليلة ناقدة ومطلعة هي الخارجة على سلطة الخطابات الجوفاء السائدة. عديد من المثقفين والمفكرين المصريين والعرب على قلتهم سكنهم القلق والتوتر الخلاق ورفض الأبنية الفكرية السائدة، وسعوا إلى تفكيكها ومساءلة مقولاتها ولغتها الخشبية، وقدموا أفكاراً ومقاربات ولغة جديدة، ولكنهم ظلوا محاصرين، نظراً لعداء السلطات القائمة للأفكار الجديدة الحاملة لقلق أسئلتها وتوترات انتقاداتها، خوفاً وخشية من العقل الناقد وما يثيره من مناقشات وتشكيك فيما هو سائد من أفكار وشعارات وسياسات، خوفاً مما قد يثيره من غليان اجتماعي، واضطراب ومساءلة للسلطة الحاكمة وأفكارها، وللمعارضة السياسية وخطاباتها! هذا الجمود العقلي المسيطر وراءه عديد الأسباب، وعلى رأسها: 1- حالة موت السياسة التي سادت في ظل البيروقراطية السياسية والإدارية للدولة التسلطية منذ 23 يوليو 1952، ونظامها المستمر حتى الآن، حيث لا يوجد طلب سياسي واجتماعي على الفكر النقدي الجديد الذي يساءل مجتمعه وقيمه وأفكاره وأنماط تدينه التقليدي الوضعي الموروث والمستمر تاريخياً. 2- سطوة مفهوم الإجماع السياسي ذو السند الديني التأويلي، والنزعة الأشعرية الداعمة للسلطة السياسية الحاكمة، ونزعتها الإقصائية للرؤى والأفكار الأخرى، وحساسيتها من النزعة العقلية النقلية. 3- هيمنة التسلطية الدينية ربيبة التسلطية السياسية المسيطرة تاريخياً، على نحو أدى إلى سطوة عقلية التكفير والتحريم والتأثيم على حرية العقل والإبداع، وحلول العقل الناقل الاتباعي علاقة ورمزاً على الذهنية السائدة نخبوياً وجماهيرياً إلا قليلاً! 4- التدهور المستمر في النظام التعليمي وسياساته ومناهجه على نحو أصبح التعليم يشكل عائقاً أساسياً من عوائق التطور السياسي والاجتماعي والثقافي في بلادنا، وبات يمثل علامة على التدهور الأخلاقي العام من خلال ظواهر الغش في الامتحانات العامة، والنقل من فصل دراسي لآخر، وانتشار الدروس الخصوصية علناً، وبلا مواجهة جادة لهذه الأمراض المزمنة. 5- ترييف الفكر والقيم وأنماط السلوك الاجتماعي الرافضة للتفكير الحر، والمبادرة الفردية، والعقل الناقد. 6- الفجوة المعرفية بين تكوين النخب السياسية والثقافية، وبين تطورات المعرفة في عالمنا المتغير. هذه الأسباب وغيرها باتت تشكل علامة على غياب العقل الناقد والحيوية الذهنية وروح المبادرة والإبداع الوطني. و أسفاه