الأماكن تسكن فينا وستظل.. رغم اختفائها عن الخرائط.. رغم ما جد.. نظل لسنوات وسنوات طويلة نحوم حولها ويجرفنا إليها الحنين.. وكأنى اليوم وأنا فى ذلك النزل البعيد أمام البحر عند الساحل الشمالى تحديداً, بالقرب من مرسى مطروح: كانت هى عند كيلو 81 وامامها منطقة فوكة أقطع اليها المسافات وثباً.. من أى مكان بالذاكرة تحديداً القت بى الرياح اليه.. بعد أن أختفى كل شيء أبحث عنه وأدقق النظر.. أين أختفى يا ترى مكانى الآن ونوافذ بيت بعينه أعلى التلة.. كل ابوابه من الخشب المهوجنى وكراسيه من البامبو المختوم بختم الملك على أسفله.. ومائدة كبيرة عليها صحن نحاسى به أكواب ليموناده مثلجة وصحن فاكهة عنب أحمر وتين ما أروع مذاقه.. أجدنى وانا أحكى لرفقاء سهرة العشاء كيف كان هذا المكان.. واكرر أن بعض الأماكن تحمل طاقة ونور.. أماكن شفاء وسلام.. اغمض عينى واهيم فى ارجائه كان الأفق مفتوحاً.. الهواء يرقص.. ملء الفضاء.. البحر بلونه الفيروزى يعانق أطراف السحاب.. كنت أجلس أتامل النجوم فى السماء.. لا أختصر لحظة فى ذلك المساء.. أسجل كل شئ.. أعيش واتنفس رائحة الياسمين والفل وهى تهل.. كأنى أدخل عالماً خاصا.. أو أدخل فيلماً سينمائياً بالأبيض والأسود.. تعود بى الأحداث إلى الخلف تدور عقارب الساعة فيه إلى الوراء.. ورغم ان المسافة أصبحت تتسع شيئاً فشيئاً.. وأصبحنا بعيداً.. جداً بعد السماء عن الأرض.. تمنيت لو لحظة قرب تعيدنا او أن تعود حوائط بعينها.. بيوت لاهية مشرعة نوافذها وأبوابها.. أمشى حافية.. يعلو صدى ضحكاتنا الأجواء.. وكانت الأمنية أن التقط لهم صورة ربما أجمع فيها الأصدقاء والأحباء فى ساعة واحدة.. وانشد عناقاً.. مازال فى القلب متسع للجميع.. تملأ رائحة الفل الهندى.. ورائحة مسك الليل كل الأنحاء أجمل المحطات.. أتطلع إليها.. بيت ذهبنا أليه فى أحضان الجبل.. مكون من 4 حجرات نوم.. تطل كلها على البحر.. وصالة فسيحة بها أرائك بيضاء مريحة.. ومنضدة طويلة.. ملحق بها مطبخ فسيح حوائطه خضراء.. فاتح لونها.. به مائدة مستديرة أضع عليها مالذ وطاب من خضراوات طازجة أته ونعناع قطفته من الحديقة, وأعواد من الريحان.. وليمون أضاليا معسل.. ولم أنس أن أطلب من التابع أن يحضر لنا بطيخ وشمام من المتجر الوحيد: لا تستطيع أن تقول أنه محل بقاله فيه علب كبريت وعلب مسحوق غسيل وشموع أذا انقطعت الكهرباء.. وصناديق مياه غازية.. كان على أن أحضر كل شيء معى.. والحقيقة لم أكن أحمل هم أى شىء فى ذلك الصيف العجيب الذى ذهبنا فيه أليه.. ولم تنقطع زيارتنا له الا بعد ذهابه. كان مكاننا الأثير إذا أحببنا ان نلتقى.. أشاور من بعيد هو هناك فوق التلة.. لازال قلبى معلقاً.. أجمل المحطات.. وأجمل اللحظات.. لا تفارقنا.. يطل على البحر.. بحرنا.. وصاحبنا المفضل.. لا أول له ولا آخر.. أطرافه حتى مرمى الأفق.. هادئاٍ صافياً.. فى المغيب يحضن قرص الشمس وترسم هى أشعتها فى السماء الوان قرمزية بنفسجية يتخللها اللون الأخضر والأزرق بكل درجاته السماوى والتركواز.. تستطيع أن تمتع نظرك بالمنظر الخلاب من كل الشرفات ويصل إلى مسامعك من بعيد هدير الأمواج.. مكانى المفضل الأرجوحة بدائية لوح خشب عريض معلق بحبلين ما بين شجرتين أجلس عليه فى المساء وأضع أحد الأغطية القطنية عليها وفى يدى كتاب وكان يجلس هو أمامى ينظر لى طويلا يستجم من طول رحلة السفر والبعاد.. الصمت أقوى الروابط.. الصمت أحيانا كلام.. أحيانا نتبادل الأماكن أو يجلس بجانبى.. راسيا هادئاً رقيقاً.. يظللنى بقامته العالية يصغى إلى بكل اهتمام كأنه كان يسجل صوتى.. ما بيننا أبلغ من كل العبارات.. أو ثرثرة ما بين اثنين يجمع بينهما حب من نوع خاص.. كان يكفى اليوم أن يحضر لى أحدهم صورة للمكان وتأتى سيرته ليتغير شكل مسائى ونهارى إلى الأبد نعم تكفى أحيانا بضعة كلمات وصورته تأتى إلى عيونى أكثر وضوحاً من ذى قبل ومعها يتدفق سيل الحكى.. كان يتقن القفشات والضحك.. حتى يكاد يفر من عيوننا الدمع.. واما الموسيقى فكنت أترك له الخيار.. بديعة هى أختياراته كل مساء, وإذا رآنى انسجمت يأخذ بيدى ويراقصنى على الرمال الناعمة.. حافية الأقدام كنت أمشى مطمئنة هادئة الصوت ينغمر علينا الندى وصوت فى الافق يشدو «يا عاشقة الورد أن كنت على وعدى» وصوت فى الأفق يشدو وحبييك منتظر.. يا عاشقة الورد.. آمنة كانت أيامى معه.. أمسيات هادئة وايام مشرقة نقطعها بالسباحة والمشى على طول الشط.. كم غاصت أقدامنا فى الرمال البيضاء.. التى تجاورها شتلات التين واوراقه الخضراء.. ولفت يوم نظرنا.. طفلان أمامنا يجريان يتسابقان فى يد أحدهما طائرة من الأوراق الملونة تكاد تلمس السماء.. كلما اقتربنا منهما يبتعدان.. ما عادا يسيران فوق الأرض.. اختفيا وراء الكثبان.. والطائرة حملها الهواء بعيداً كما حمل أحلامنا.. وتابعتها عيوننا التى مازالت تسكن فوق السحاب.. واختفى الكوخ الخشبى هناك.. لم يعد له أثر وأحكى عنه وعنا.. يا فؤادى لا تسل أين الهوي كان صرحاً من خيال فهوى.