لا أريد أن أطير. فارق كبير بين الطيران والتحليق، أن تطير هو أن تخفق بجناحين وفقط، الطيران خاص بطيور السماء، هو محض فعل، وكأنه مجرد طريقة للمشي في الهواء، أما التحليق فهو متاح لكل الكائنات والمخلوقات، هو فعل خاص بالقلوب -أي قلب- وكل مخلوق في العالم له قلب علي طريقته، الطيران هو أن تكون بمكان عادي بين السماء والأرض، التحليق هو أن تكون في أماكن السعادة بالعالم في نفس اللحظة وقلبك مليء بالأمل، الطيران هو فعل الأجنحة، والتحليق هو فعل القلوب. الطيران شيء عادي، لن يسمح لك بأكثر من السماء الملونة والهواء النظيف، لن تستطيع أن تمس الأشياء ولن تمسك الأشياء، لن تصاب بجرح ولا حتي بخدش، فقط ستستمتع لبعض الوقت بالهواء النقي الخالي من أية روائح، سيكون الفضاء فسيحًا بما يكفي لأن تتقلب كيفما تشاء، ستنظر للجميع بالأسفل، وتلك ليست ميزة، كما أنها فكرة غير صحيحة، فدائمًا سيظل شيء ما يطير أعلي منك، ثم بعد قليل من الوقت/ الطيران ستمل المناظر المكررة، والهواء النقي الخالي من رائحة، وهذا الفراغ المخيف حولك الذي مع الوقت سيحتلك وينتقل داخلك، وربما لذلك تفضل الطيور أن تتحرك في أزواج أو أسراب حتي لا يحتلها هذا الإحساس بالفراغ، بعد قليل من الوقت ستحتاج حتمًا لأن تشم رائحة، ستشتاق للزحام، لمن يشاركك هذا العالم حتي لا تتضايق من تكرار دقات قلبك وخفقان أجنحتك، ستشم رائحة البحر بعيدًا وتشعر بالألم لأنك غير قادر علي أن ترتطم به، ستمر فوق الغابة فتبدو لك مجرد لون أخضر، بينما تتصاعد من داخلها أصوات الحياة لتعذبك، فتتنمي أن تدخل هذه الحياة وتجربها ولو لبعض الوقت، لكنك لن تستطيع، ستنظر لأسفل وتتساءل وأنت تواصل طيرانك الممل: ماذا تفعل كل هذه المخلوقات والحيوانات والمياه والنباتات؟! وماذا لديك أنت هناك في طيرانك غير السماء والقمر والنجوم وعدة ألوان يستمتع بها في نفس الوقت كل من لا يطيرون؟ كما أن كل كائن في العالم مهما كان، له طريقة في الطيران، له طريقة يستطيع بها أن يطير بها لبعض الوقت، فيلمس النجوم والقمر ويمسك بالشمس ويعود بقطعة من السماء، كل كائن سيفعل هذا بطريقة ما ولأكثر من مرة في العام الواحد، وهذا ما يسمي التحليق، كما أن طائرًا مثل النسر يدمر أية فكرة عن المتعة في الطيران، ويجعله طيرانًا من أجل القتل، فهو يظل واقفًا في السماء لوقت طويل، أو يبدو كذلك، وكل من يراه علي هذه الحال لن يفكر في الطيران كمتعة، لن يحاول تقليده، ولن يشعر بالسعادة وإنما بالترقب والحذر، وعندما يندفع النسر للأرض سيكون مفهومًا أن هناك فريسة ما، فالفكرة ليست أن تكون في مكان بين السماء والأرض، ولكنها: أين يكون قلبك. الطيران لا يصلح إلا أن يكون حلمًا، ليس لأنه صعب التحقيق، فالعكس صحيح، يمكن الطيران بسهولة كل علي طريقته، لكنه ليس جميلا بما يكفي ليكون حياة، سيكون سيئا جدًا أن تكون حياتك طيران، أنا لا أري سعادة في وجوه طيور السماء، لكني أراها في وجوه من يراقبون هذه الطيور، كما أن الطيور نفسها تبدو وكأنها تمارس الطيران بشكل منظم مدروس بما يتناقض مع المتعة المتوقعة من الطيران، هذا بسبب ما يحدث في السماء والطيران، ولأن السماء بعيدة عن الخطر، لأن قصص الطيور والطيران متشابهة، لأنك عندما تنظر في مدي الطيور لن تجد شيئا جديدًا أو مختلفًا أو مثيرًا، بينما في كل خطوة علي الأرض أو في الغابة أو البحر ستجد شيئا جديدًا، ويمكنك بهذه الخطوة أن تدخل فورًا للمجهول وأن تحصل علي قصة مختلفة، الطيور نادرًا ما تلعب أثناء طيرانها، لكنك ستجد من يراقبون الطيور بالأسفل لا يفوتون فرصة للعب والاستمتاع والسعادة عندما يرون سرب طيور في السماء، لن يفوتوا فرصة لتقليد هذه الطيور حتي تختفي في غيمة أو سحابة، لكنها قبل أن تختفي ستنظر للكائنات التي تقلدها بالأسفل وتندهش من سعادتهم ولعبهم، ولن تعرف أنها السبب في هذه السعادة. سرب الطيور الذي يمر سيملأ عيون الكائنات التي تراقبه بالسعادة وسحابة من دموع حنونة، سيرسم فيها الأمل والرغبة في الحياة والعالم، وتلك وظيفة الطيور في السماء: أن تطير لتمنح الأمل والسعادة والإحساس بالطيران لكل من يرونها، متعة الطيران هي أن يبقي حلمًا، يظل احساسًا نمارسه من وقت لآخر. أن تحب حتي تشعر كأنك تطير، أن تنجح حتي تشعر كأنك تطير، أن تشعر بالعالم حتي تشعر كأنك تطير، أن تخترع علاقات مع الحياة تجعلك تشعر كأنك تطير، أن تمنح من قلبك لمن تعرف ومن لا تعرف حتي تشعر كأنك تطير، أن تحصل من العالم علي حب وتبادله حبًا يجعلك تشعر كأنك تطير، هذا ما يسمي التحليق، وهو أجمل بكثير من أن تطير بالفعل، لو كان لي الخيار، وأعرف أن الخيار يمكن أن نجعله أمر عائد إلينا، شيء نستطيع مع المزيد من التعب الممتع أن نجعله عائد إلينا، وفي هذه الحالة لن يكون الطيران حياتي، فقط سأجربه.. سأختار أن يكون السفر حياتي، سأطير هنا علي الأرض وفي البحر، أفكر أني سأحب أكثر أن أبحر علي الأرض وأبحر في الهواء، لأن الإبحار أكثر خطورة، لأنه ليس آمنا كالطيران وبالتالي أكثر حياة وأكثر متعة، كما أن السماء تحمل قلبًا طيبًا في النهاية، ومهما قست فإنها ستمنح حنانها ومطرها ببعض الإستجداء والتضرع، أما البحر فرغم أنه يعطي دون أن يطلب منه أحد، يمنح بجنون، فهو فلا يمنح بالإستجداء والتضرع، هو لا يحب ذلك، البحر يحمل قلبًا مغامرًا جسورًا، البحر هو الحرية عندما تتشكل ماء، أو الماء عندما يتشكل حرية، البحر لا يمنح علي سبيل العطف، هو يمنح بالحب، يمنح لأنه يحب، البحر يحب أن تشرب الملح ليعطيك، أن تنزع عنك ملابسك وخواتم أصابعك وتراب قلبك، يحبك أن تكون معه وجهًا لوجه، ومع العالم وجهًا لوجه وحبًا بحب، هو يحبك أن تسعي للذهاب بعيدًا، للجموح، تسعي لتحطيم قاربك، لن يمنحك قبل أن يري دمك ويعرف طعمه، قبل أن يذيقك دمك، وأن تري الحياة بعينيك وتمسكها بيديك، وهذا أحبه ويناسبني، وأعرف أن الحياة تحبه وأنه يناسبها. الطيور مع الوقت تتباطأ في طيرانها وكأنها تصاب بالملل، وصوت أجنحتها بعد قليل من الوقت يصير مملا ورتيبًا، وكأنما ليس هناك أية متعة ولا شيء مثير ينتظرها في الأفق بمدي عينيها، كما أن طيرانها بوتيرة واحدة لمسافات طويلة يبدو روتينيًا وغير حماسيّ، وهذا تمامًا عكس ما يحدث مع الأحصنة، التي مع الوقت يزداد جموحها وانطلاقها، وكلما ازداد تعبها وارتفع لهاثها ازدادت قوتها وسعادتها ورغبتها في الجموح، وبسهولة يستطيع أي أحد أن يلاحظ ذلك، الأحصنة تستمتع بما يبدو للآخرين أنه تعب وهو في الحقيقة غير ذلك، كما تستمتع بصوت لهاثها، لذا سريعًا ما تبدأ به ولا تتوقف عنه، كذلك يفعل البحر فلا يتوقف عن أن يكون له صوت يمكن اعتباره لهاثًا أو غناء أو حبًا، كذلك الغابة لا تتوقف عن الكلام والغناء ومزج أصوات كائناتها ببعضها البعض لتصنع أسطورتها، الأحصنة لن تمل أبدًا من الجموح والانطلاق لأنها تشعر في نفس اللحظة بمتعة الطيران والإبحار، لأنها علي وشك الطيران لكنها لا تفعله أبدًا، وفي نفس الوقت تشعره، هي تجري علي أمل ولأمل، وتري في مدي عينيها حلمًا تثق في وجوده ومن وصولها إليه بمزيد من الجموح واللهاث والجري والإبحار علي الأرض والإحساس بالطيران. أعرف أني بعد أن بذلت الكثير من التعب الممتع حتي صار الخيار لي، سأختار أن أكون بحارًا أو غجريًا متجولا أو رحالة أو مزيجًا من الثلاثة، سأختار أولا أن أكون بحارًا لعدة سنوات حتي أشرب من حياة البحر قدر ما أستطيع وقدر ما يمنحني في مقابل دمي، وفي البحر سأجرّب كل الخطوات التي تلقي بي لقصص وحكايات جديدة، ولن أغادر قبل أن أحطم قاربي ويتذوق البحر دمي وأتذوق دمه، سأجرّب التجوال والسفر بعيدًا، وفيه يكون العالم كائنا لا تملك له غير الحب ولا يملك لك غير الحب، ثم لن تجرّب الطيران إلا لبعض الوقت، بينما ستحتفظ بإحساس "التحليق" طوال الوقت، هذا بالإضافة لإحساسك المفضل: "الإبحار".. لأنك في النهاية ستعود إلي البحر.