الحمد لله على نعمته. كم أسعدتنى - فى رحلة الحياة- هذه المخلوقات الجميلة التى تُدعى العصافير. صغيرة، ظريفة، فاتنة. حتى ولو زعم العلماء أنها أبعد ما تكون عن الرقة، وأن تغريدها - الذى نطرب له - سباب متبادل مع العصافير الأخرى حول مناطق الطعام والنفوذ. لكنني - بكامل إرادتى - أتجاهل هذه النظريات المزعجة، وأرمقها فى افتتان وهى تنطلق راقصة فى أسراب لا يحصيها العد قبيل الغروب، قبل أن تستقر على أغصانها لتنخرط فى صلاة جماعية مؤثرة فى انتظار النوم. العصافير تلعب!! هذا ما اكتشفته بعد مراقبة لصيقة.. والبحث عن الطعام لا يفسر أوضاع طيرانها المتهورة، أحيانا تجرب النزول على الأرض، والمشى قليلا بطريقة ظريفة، ممتعة ومضحكة، فهى لا تسير مثلنا، بل تقفز فى «عصفرة» منقطعة النظير، وتبدو فخورة جدا بالمغامرة، وبعد أن تشبع هوايتها فى ممارسة الممنوع تطير بسرعة إلى ماما لتخبرها كم هى حلوة وشاطرة! ■ ■ ■ كنت طفلا صغيرا حينما شاهدت أول عصفور فى حياتى. تسلقت سور الشرفة المدعم بعواميد حديدية لأتطلع للطريق من خلاله، شرعت أرمق العصفور فوجدته أسمر اللون شديد الظرف يحلق على غصن الشجرة ثم يطير فى السماء. غامرت بتقليده مرفرفا بذراعىّ على أمل الارتفاع. وحينما ارتطمت بأرض الشرفة وارتفع صوت بكائى أسرعت أمى لتحملنى بيدها المليئة ببقايا الطبيخ، طيّبت خاطرى وقبّلتنى لأكف عن البكاء، وهى تنظر فى قلق إلى أوانٍ تطقطق على النار، ثم أفلتتنى برفق لتقلّب بالمغرفة شيئا ما. جلست على الأرض ووجهى منكس لأسفل، وتكشيرة كبيرة ارتسمت على وجهى الزعلان، وشفتى السفلى المقلوبة تعلن للكون أنى متضايق وغضبان! كرامتى مجروحة يا ناس!! فشلت فيما نجح فيه عصفور صغير! ومن أين لى أن أعلم أن العصافير تطير لأن عظامها خفيفة تحتوى على جيوب هوائية متصلة بالرئتين تسهّل ارتفاعها فى الفضاء؟ تخفق أجنحتها ببطء ثم تنحدر على الهواء الذى يحملها فى يسر. ■ ■ ■ منذ ذلك الحين أراقبها بفضول لا يخلو من حسد، وهى تمارس حياتها اليومية. تصنع أعشاشها على قمم الأشجار دون تصريح بناء!! لا يهز منها ريشة ارتفاع سعر الأسمنت والحديد! وحتى فضلاتها تلقيها بوفرة فوق رأسى دون أن تفكر فى الاعتذار! تغرد وتنطلق خالية البال فيما يميتنى الحزن كل يوم ثم لا يحيينى!! وبعين الخيال أرى العصفورة الصغيرة تشير نحوى قائلة لمامتها العصفورة الكبيرة: - مامى، شايفة الراجل اللى ماشى فى الشارع ده! فتلقى العصفورة الأم نحوى نظرة غير مكترثة، وتقول: - آه، ده أيمن، ماله؟ (باعتبار أن ماما تعرف دائما كل شىء حتى لو كانت عصفورة). - دايما أشوفه ماشى زعلان، وشايل الدنيا فوق راسه. فتلقى العصفورة الأم نظرة متفحصة، ثم تقول: - آه صحيح، باين عليه زعلان. - تفتكرى ليه يا مامى؟ جعان؟ فتموت العصفورة ماما من الضحك، وتقول: - جعان إيه!! هو بيبطل أكل؟ مش شايفه أد إيه تخين! فتتأمل العصفورة الصغيرة جسدها النحيل متحيرة، وكأنها تقول لنفسها «ماما عندها حق»، ثم تعاود السؤال: - أمال زعلان ليه يا مامى ما دام لاقى ياكل؟ فتقول الأم الخبيرة بأحوال البشر: - شوفى يا بنتى!! حاقولك كلمة تحطيها حلقة فى ودانك، البنى آدم، خصوصا الرجالة منهم، بيموتوا فى النكد، وإن ما لقوش نكد يخترعوه. تفكر العصفورة الصغيرة فى كلام ماما، تتذكر أنها لم تشاهد وجها سعيدا تقريبا، البشر فعلا يحبون النكد، بعكس العصافير التى إذا ملأت بطنها بالطعام استخفها المرح وانطلقت تلعب، تطير خلف بعضها البعض وتتشاقى حتى موعد النوم، بعدها تتبادل الثرثرة على غصون الأشجار وتحكى كل عصفورة مغامرات اليوم، ثم يغلبها النعاس فتنام على الشجرة خالية البال. هذه المرة تأخرت العصفورة الصغيرة فى النوم، راحت تتذكر وجهى الحزين المطفأ، بلا مبرر معقول عندها، ثم تنهدت بصوت مرتفع وقالت: «حكمتك يا رب!!»، بعدها رفعت جناحيها، وصلّت صلاة صغيرة لخالقها العظيم قائلة: أحمدك يا رب إنك ما خلقتنيش إنسان، وخلقتنى عصفورة!! ■ ■ ■ حوارات أتخيلها ولا أسمعها، لكنها بالتأكيد تدور باستمرار من فوق رأسى، وكلما شاهدتها تمارس معجزتها المحيرة- فيما أبقى أنا مسمّرا إلى الأرض– عاودنى حلمى الأول بالطيران. يفسرون طيرانها بخفة وزنها وأفسره أنا بقلة أحزانها!!.. أقول لنفسى كيف ترتفع وفى قلبك كل هذا الحزن!.. حاول الإغريقى «ددالوس» الارتفاع بجناحين مصنوعين من الشمع. يفسرون إخفاقه بحرارة الشمس التى أذابت الشمع، والحقيقة أنه تنهد فذاب الجناح من حرارة التنهيدة!! ■ ■ ■ أشياء كثيرة تغيرت منذ محاولتى الأولى للطيران، بيتى صار شركة كمبيوتر، الشرفة لم تعد ملكى، الشارع لا أجرؤ على المرور فيه، بابا مات، أخى مات، ماما لم تعد موجودة! ذهبت يداها الحبيبتان الملوثتان ببقايا الطبيخ، وحينما أسقط ويرتفع بكائى - وكثيرا ما صرت أسقط ويرتفع بكائى - لا أجد ماما لتحملنى وتطيب من خاطرى! ■ ■ ■ لم يعد أمامى سوى أن أصبح كالعصافير كى أطير!! أتخلص من متعلقاتى الأرضية لألحق بالسماء. أترك أشيائى المُعوّقة. فى عرض الطريق أمام العابرين رميت هاتفى، مفاتيحى، ذكرياتى القديمة، حقيبة مدرستى، نظارتى، ساعتى، مكاسبى، خسائرى، مصائبى، خيبة أملى، حزنا يسكن قلبى، دمعة تترقرق فى عينى، أشعارى الساذجة، أول فتاة أحببتها، صورة بالأبيض والأسود. كل ذلك رميته، لم أتردد لحظة. الأفق الأزرق ينادينى، يهمس لى أن أمى هناك، مع العصافير المحلقة، فى عنان السماء. مع رائحة الطبيخ، وأوان على النار تطقطق، يثور حنينى، يجن جنونى، أنضو ملابسى، أخلع حذائى، أرمى جوربى، أنزع سروالى، أمزق قميصى وأحلامى، ثم أركض فى الطريق كالمفتون، مرفرفا بذراعىّ على أمل الارتفاع!!