تنعكس أهمية السادات وخطورة دوره على الأدب الروائى المصرى منذ مطلع الثمانينيات، الذى يبدو عظيم الاحتفال بتوجهه الموضوعى وسماته الشخصية على حد سواء، ويتمثل ذلك فى إبداعات كُتاب ينتمون إلى أجيال مختلفة ومدارس فنية متباينة ورؤى سياسية شتى مثل نجيب محفوظ، إحسان عبدالقدوس، فتحى غانم، بهاء طاهر، صنع الله إبراهيم، جميل عطية إبراهيم، رءوف مسعد، خيرى شلبى، علاء الديب، يوسف القعيد، جمال الغيطانى، إبراهيم عبدالمجيد، مصطفى نصر، محمود الوردانى، عمرو عبدالسميع، ناصر عراق، مصطفى عبيد، روبير الفارس. .................................... باستثناء نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس، الأقربين إلى الاعتدال والموضوعية فى الشهادة المقدمة عن السادات، يجمع الآخرون جميعا، بدرجات متفاوتة من الحدة، على الإدانة والتشهير، ولا متسع للتأييد أو التعاطف. لا شك أن السياسات التى يتبعها السادات والأفكار المقترنة به، فضلا عن سماته وملامحه الذاتية، هى المسئولة عن الموقف السلبى متعدد الوجوه، لكن الأمر الذى لا يحتمل الجدال هو الإقرار الضمنى بالأثر الخطير الذى يتركه الرئيس، داخليا واقليميا ودوليا، خلال سنوات حكمه التى تمتد من أكتوبر 1970، وصولا إلى محطة النهاية المأسوية الدامية فى حادث المنصة الشهير، حيث الاغتيال فى الاستعراض العسكرى، احتفالا بذكرى الانتصار فى حرب العبور، السادس من أكتوبر 1981. أحد عشر عاما فى الحكم، تبدأ بالإعلان عن التمسك بميراث عبدالناصر وتوجهاته وشعاراته، وتنتهى باغتيال غير مسبوق على أيدى صنائع النظام وأدواته من الإسلاميين المتطرفين المشمولين برعاية ودعم النظام. بين البداية والنهاية، محطات ذات شأن، يتمثل أهمها فى المحاور التالية: أولا: الصراع على السلطة مع الجناح المناوئ فى مايو 1971، الذى يحسمه السادات لصالحه فى معركة يسميها «حركة تصحيحية»، قبل أن يروج الرئيس وأجهزة إعلامه لمقولة إنها «ثورة التصحيح»!. ثانيا: العداء المتطرف والكراهية الأصيلة العميقة لعبدالناصر وجوهر سياسته، ما يبرر تصاعد الحملات الهجائية العنيفة ضد الرئيس السابق واتهامه بكل نقيصة ورذيلة. ثالثا: حرب أكتوبر 1973، الإنجاز الأهم والأعظم للرئيس السادات، تتعرض لإجهاض المأمول منها. إذا كان الانتصار العسكرى جديرا بالفخر والمباهاة، لأنه بمثابة الثأر ورد الاعتبار. رابعا: انتهاج سياسة الانفتاح الاقتصادى العشوائى، بكل ما يترتب عليه من تحولات اجتماعية خطيرة مدمرة، ذلك أن الطبقة الطفيلية غير المنتجة، المسلحة بكل ما هو سلبى من القيم، هى من تفيد وتثرى وتصعد، أما الكتلة الشعبية الفقيرة فتزداد تدهورا وفاقة، ولعل الأثر الأخطر من المعاناة المادية هو تغيير منظومة القيم القائمة، والتراجع المريع فى التعليم والثقافة، مقابل الازدهار السرطانى الخطير للتعصب الدينى والانتهازية والفهلوة، وترسيخ مبدأ الربح السريع دون نظر إلى وسائله وآلياته. خامسا: التحالف المشين مع القوى الدينية الرجعية، الإخوان المسلمين والجماعات الدينية الخارجة من معطفها، يعبر عن عداء السادات الأصيل للأفكار والقوى اليسارية، الماركسية والناصرية، التى يتزايد نفوذها فى الشارع المصرى، ويتوهم السادات أنه سيجد فى حلفائه هؤلاء ظهيرا شعبيا بفعل الرايات الدينية والشعارات العاطفية الفضفاضة التى تترك أثرا لا يمكن إنكاره فى قلوب قطاع عريض من المصريين، وسرعان ما يتجه هؤلاء الحلفاء إلى العمل المستقل بعيدا عن مظلة السادات لتحقيق أهدافهم الخاصة، وبأيديهم يُقتل الرئيس الذى يصف نفسه بالمؤمن، ويثبت عمليا خطل سياسته غير الرشيدة، المسكونة بالمقامرة والاندفاع. سادسا: التوتر الطائفى ملمح مهم فى حقبة السادات، يبدأ مبكرا مع أحداث الخانكة، 1972، ويصل إلى الذروة بمأساة الدرب الأحمر، 1981، مرورا باحتقانات وصدامات شتى تترجم الأثر الوخيم لمتاجرة السادات بالدين ومحاولة استثماره قصير النظر لتحقيق أهداف سياسية. يتكئ الرئيس على مفاهيم مثل «دولة العلم والإيمان»، ويلح على أنه «رئيس مسلم لدولة مسلمة»، ويتغافل عن حقيقة أن مقولاته هذه تأكيد على تدمير مدنية الدولة وضرب فى الصميم لفكرة المواطنة. سابعا: تمثل انتفاضة 18 و19 يناير 1977، التى تشتعل بعد الارتفاع المباغت لأسعار عدد هائل من السلع الشعبية الضرورية، علامة فارقة فى عصر السادات، وتكشف الشعارات المعادية التى يرددها المتظاهرون الساخطون عن وصول شعبية الرئيس إلى الحضيض. ثامنا: قرارات سبتمبر 1981، التى تسبق الاغتيال بشهر واحد، دليل ساطع على انفلات السادات ووصول محنة النظام إلى هاوية يستحيل الخروج منها. لا مجال للشك فى ضرورة إدانة أشكال العنف والإرهاب كافة، ومن هنا لا تقدم الرواية المصرية من يسعدون بالنهاية المأسوية، لكن الأمر لا يخلو من شماتة تختلط بالخوف على مستقبل الوطن دون الرئيس.. تاسعا: تتسع الرواية المصرية لاستعراض تاريخ السادات السابق لثورة يوليو 1952، حيث العمل السرى والانخراط فى تنظيمات ذات منحى إرهابى، وتتسع أيضا لإشارات دالة عن الوجود الهامشى الهش للسادات خلال سنوات حكم عبدالناصر، أما عن السمات الشخصية فتحظى باهتمام لافت لا ينفصل عن الرؤى الموضوعية. من استعراض الرؤى الروائية المقدمة عن شخصية السادات فى فصول الدراسة، لا يصعب إدراك التركيز على بعض الملامح الذاتية التى يتسم بها الرئيس، وتتجلى بأشكال مختلفة فى المعالجة. لا تنفصل ملامحه الشخصية هذه عن توجهه الموضوعى بطبيعة الحال، والأبرز منها يتمثل فى: أولا: الإسراف فى النرجسية والشعور المتضخم بالذات، ومثل هذه السمة تترك بالضرورة آثارها السلبية على السياسات والقرارات المصيرية التى تصدر عادة بشكل فردى غير مدروس، وتنم عن الثقة المفرطة بامتلاك رؤى استراتيجية خارقة، لا يُتاح لغير السادات إدراكها واستيعابها.. ثانيا: ولع السادات بحياة الترف والبذخ والأناقة، منفصلا بهذا النمط من الحياة المرفهة عن الإحساس بمعاناة الأغلبية الساحقة من الفقراء. لا يرى السادات من معطيات الواقع إلا ما يريد أن يراه، ويحلق بأوهامه وأحلام يقظته بعيدا عن الهموم الحقيقية التى يكتوى المصريون بنيرانها الحارقة. إذا كان عبدالناصر يجتهد فى زراعة الأحلام الوردية، التى يفضى أغلبها إلى نتائج كابوسية، فإن السادات بدوره يسرف فى بعثرة الأوهام والأكاذيب، وصولا إلى محطات كابوسية، ومن هنا تستمد الدراسة عنوانها: «السادات فى الرواية المصرية.. الوهم والكابوس». ثالثا: ملمح ذاتى آخر يتجسد فى النزعة الاستعراضية للسادات، وانشغاله المتطرف بالإعلام وأضوائه. ليس أدل على ذلك من خطبه وتصريحاته التى لا تتوقف، والإصرار المرضى المزمن على اتباع سياسة الصدمات التى لا تتكئ على دراسة متأنية بقدر ما أنها تعبر عن رغبة فى المباغتة وإثارة الضجيج.. لا أحد يتعاطف مع السادات فى الإبداع الروائى المصرى، ولا يمكن القول بوجود تيار «ساداتى» يتشبث بأفكار الرئيس بعد اغتياله، كما هو الحال مع عبدالناصر الذى يعتنق الكثيرون رؤاه ويتمسكون بتوجهاته ويشكلون تيارا ناصريا متعدد الاجتهادات. الإجماع كامل، تقريبا، على إدانة السادات وحقبته الحافلة بالتحولات والازمات، والاختلاف فى أساليب الهجوم والتنديد. من مجمل الشهادات المقدمة، تتبلور صورة متعددة الملامح، قوامها الأساسى قراءة نقدية سلبية، تتنوع فيها مرتكزات الرفض والاستياء.. كفة العداء راجحة، ورافضو السادات فى الواقع المعيش والنص الروائى هم الأغلبية الساحقة، لكن اللافت للنظر أن الكثير مما يؤخذ عليه فى حياته، يتحول بعد موته إلى مسلمات مستقرة مألوفة لا تستدعى الاحتجاج والغضب، والعديد من الانتقادات الساخنة، وليدة الإسراف الانفعالى، تحتاج إلى منهج جديد للتواصل والتقييم فى ظل المتغيرات الدولية والإقليمية، ومثل هذا المنهج الذى لم يتبلور بعد، يقود بالضرورة إلى تخفيف الحدة والقسوة. هل كان السادات صاحب رؤية استراتيجية عميقة، يعز إدراكها عن معارضيه الذين يتشبثون بمفاهيم وأفكار تقليدية لا تناسب إيقاع العصر؟. هل كان بعيد النظر وقارئا جيدا للمستقبل ومتغيراته الحتمية، فى الوقت الذى ينغمس فيه خصومه السياسيون، من منطلقات أيدلوجية جامدة، فى قراءة الحاضر والمستقبل بمنظور الماضى؟!. الأقرب إلى الاعتدال، نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس، لا يصل إنصافهم إلى درجة الحب، ولا يقودهم الحرص على الإنصاف إلى ما يتجاوز الحياد وتجنب الهجائيات المقذعة. فى المقابل، لا يجد الكارهون المتشددون لعهده ونرجسيته ما يستحق الإشادة أو يعفى من الهجوم والإدانة. سياسة السادات الداخلية تزلزل المجتمع المصرى وقيمه الموروثة، وسياسته الخارجية تطيح بالمفاهيم الراسخة والقواعد المستقرة، والمحصلة النهائية هى غلبة الأحكام العنيفة التى تتفاعل مع جملة المعطيات فى واقع يمر بمرحلة التغيير العاصفة.. يهدف البحث إلى التعرف على صورة السادات كما تتجسد فى مجموعة من النصوص الروائية لعدد من المبدعين المتميزين، الذين يقدمون شهادات فنية وفكرية جديرة بالتأمل والاهتمام، دون نظر إلى الاتفاق أو الاختلاف معها. إنها تعكس رؤى تحفل بالصدق النسبى والإخلاص والجدية، وإن لم تخل بطبيعة الحال مما يستدعى المناقشة والتحفظ.