«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معارك إحسان عبد القدوس والرؤساء
عبد الناصر يقاطعه بسبب روايتي في بيتنا رجل .. و البنات والصيف !! .. والبرلمان يهاجمه بسبب أنف وثلاث عيون !!
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 01 - 2013


الرئيس أنور السادات يكرم احسان عبدالقدوس
حتي لاتظل »آفة حارتنا النسيان« علي حد تعبير نجيب محفوظ، نسعي دائما إلي الاحتفاء برموز الثقافة قدامي ومعاصرين، تعزيزا لأثر القوة الناعمة التي تتجلي بها مصرنا العظيمة، وهي قوة لاتعرف الضعف ولا تعترف إلا بالعنفوان.
ملفنا هذا العدد.. يضيء بذكري ميلاد الكاتب الكبير »إحسان عبدالقدوس« الذي ولد في الأول من شهر يناير عام 1919 ورحل في نفس الشهر 12 يناير 1990 وما بين الميلاد والرحيل 71 عاما من العطاء الذي يجمع النقاد والمؤرخون علي انه يشكل نقلة نوعية في الرواية والصحافة والسياسة.
وشخصية احسان عبدالقدوس معقدة ومركبة فهو الكاتب السياسي، والمبدع الروائي، والصحفي العملاق.. الذي اثري المكتبة العربية بروائعه الإبداعية وخاض معارك فكرية وصحفية وأدبية تحتاج رصدا أكثر شمولية، وتستدعي قراءة متجددة بتجدد التحولات والمناهج والرؤي.
يعيش احسان عبدالقدوس في الوجدان والعقل والذاكرة.. برواياته وقصصه وكتبه السياسية والصحفية وكتاباته الاجتماعية، وقلمه الذي انغمس عمرا طويلا في قلب المجتمع وسطر تاريخا.
تبقي اعماله مشعة بعد ان تخلصت من التباسات الواقع التاريخي والسياسي.. هذه الالتباسات التي شكلتها العلاقة بين المثقف والسلطة وهي علاقة شائكة من كل الوجوه.
في المسافة ما بين السياسي.. والابداعي.. والثقافي ينهل هذا الملف ويلقي الضوء علي محورر مهم ومرتكز حيوي: احسان عبدالقدوس والرؤساء.. في ومضة توثق وتحقق وتكشف.
»أخبار الأدب«
( ...وهمسوا في أذن الرئيس بأن إحسان عبدالقدوس يحث الرجال والنساء علي ممارسة الحب الساخن كل ليلة من خلال برنامج يقدمه بالإذاعة المصرية! فهو ينهي حديثه اليومي بعبارة ( تصبحوا علي حب ) .. واستغلتها مراكز القوي في إقناع رئييس الدولة بأن الكاتب الكبير يستثمر أحاديثه الإذاعية في هدف قد يدمر المجتمع!! بعدها توالت المفاجآت التي كانت سبباً في مخاصمة إحسان عبدالقدوس لكل الأحاديث والبرامج الإذاعية ثلاثين عاماً متصلة.. حتي مات !! ) .
في عهد ثورة يوليو :
نزيل الزنزانة رقم 91
لم يكن ذلك اللقاء هو الأول بينهما.. فقد أعلن عبدالناصر عن إعجابه البالغ بإحسان عبدالقدوس قبل أن تقوم الثورة..!!
كان عبدالناصر يتابع مقالات إحسان الوطنية.. وحملاته المثيرة علي القصر والفساد والاستعمار.. خاصة حملة إحسان علي الأسلحة الفاسدة والتي سببت له العديد من المتاعب مما دفع أحد الباشوات إلي التفكير في اغتياله وبعد قيام الثورة.. توطدت الصداقة بين عبدالناصر والكاتب اللامع.. لكن صداقة الحكام محفوفة غالبا بالمخاطر !.
فرغم اهتمام عبدالناصر باستشارة إحسان في الكثير من قرارات مجلس قيادة الثورة.. ورغم اهتمام إحسان بإخلاص النصح إلي الزعيم الذي استبدت شعبيته بقلوب المصريين والعرب ودول العالم الثالث.. فقد جاء يوم كان لابد أن يجيء!.
أمر الرئيس باعتقال إحسان عبدالقدوس!.
وصدرت روزاليوسف وهي تنتقد بعض تصرفات مجلس قيادة الثورة.. مما أغضب زعيم الثورة.. وحينما يغضب الحكام ينتهز آخرون الفرصة !.
ظل الكاتب الكبير في السجن ثلاثة أشهر!.
لم يكن يؤلم إحسان خلف أسوار السجن العالية سوي غدر الصحاب! فالذي سجنه هو صديقه وقائد الثورة التي ألهبت خيال إحسان الثوري.. فتحمس لها.. ودافع عنها.. ووهبها قلمه وفكره.. حتي عندما انتقدها لم يكن ذلك إلا من منطلق الحرص عليها والنصح لها! وتمضي الأشهر الثلاثة كأنها الدهر.
وفجأة.. ذات صباح.. يرن التليفون في مكتب مأمور السجن.. لم يكد مأمور السجن يسمع صوت محدثه علي الطرف الآخر حتي هب واقفاً، تتساقط من فمه سيجارته دون أن ينتبه إليها حتي أحرقت سترته!.. كان المتحدث هو جمال عبدالناصر شخصياً!.. يسود الهرج والمرج داخل السجن بعد أن طلب رئيس الجمهورية الحديث إلي نزيل الزنزانة رقم 91 بالسجن الحربي.. إحسان عبدالقدوس!.. الجنود يهرولون نحو الزنزانة.. المأمور مازال يرفع يده بالتحية العسكرية وهو ينظر إلي سماعة التليفون، فمازال الخط مفتوحاً في انتظار حضور إحسان!
يندهش الكاتب الكبير وهو يستمع إلي صوت الرئيس!
أخبره عبدالناصر أنه أصدر قراراً بالإفراج عنه.. وأنه ينتظره خلال ربع الساعة ليتناول الإفطار معه!!!.. مازال الكاتب اللامع غارقاً في دهشته بعد أن انتهت المكالمة.. مأمور السجن يخبره بأن سيارة الرئيس تنتظره أمام بوابة السجن.. يسير إحسان في ثقة نحو السيارة بينما يرفع كل من يشاهده يده بالتحية كلما مر علي مجموعة من الضباط أو الجنود!
ودارت الدنيا برأسه
يصل إحسان إلي منزل عبدالناصر في منشية البكري! يجلس علي مائدة الإفطار مع رئيس الجمهورية.. يتبادلان نظرات لها ألف معني.. يعتقد الكاتب الكبير أن الرئيس سوف يصارحه بسبب اعتقاله.. وربما أيضاً اعتذر له.. فإحسان لا يعرف ماذا أغضب عبدالناصر بالضبط.. أي مقال أثاره.. يتمني إحسان لو تكلم عبدالناصر.. المناقشة ستكون في صالح الطرفين.. لكن الرئيس يظل صامتاً حتي ينتهي الإفطار.. وبينما يحتسي الشاي مع ضيفه.. يقطع صوت الزعيم جدار الصمت.. ينظر إلي إحسان ثم يسأله:
- اتربيت يا إحسان.. ولاّ لسه ؟!!
تدور الدنيا برأس إحسان.. فلم يكن الصحفي الكبير ناقص تربية حتي يربيه ضباط الثورة.. يتغير وجه إحسان.. يضحك عبدالناصر ويعود للحديث إلي ضيفه مؤكداً له أن السجن خير مرب وأعظم معلم.. لكنه يستطرد أمام هدوء إحسان ورقته واعداً ضيفه بإزالة كل الآثار التي سببها له السجن!.. وقبل أن ينتهي اللقاء يتواعدان علي لقاء جديد.. كانت تلك عادة عبدالناصر كلما انتهي لقاء بينهما علي مائدة الغداء أو العشاء أو الإفطار .. الاتفاق علي موعد آخر.. وهكذا تستمر دعوات عبدالناصر لإحسان عدة أشهر حتي يخبره الرئيس في اللقاء الثلاثين بينهما قائلاً:
- أعتقد يا إحسان أنني قد عالجتك نفسياً من صدمة السجن!.
لم يعلق إحسان فالرئيس دائما ما يصر علي رأيه .. لكن يلمع نجم إحسان في الصحافة والأدب أكثر مما كان!
زوار الفجر
وبعد عام واحد من سجن إحسان عبدالقدوس الأول.. يفاجأ الكاتب الكبير بزوار الفجر يلقون القبض عليه مرة أخري.. ويعيدونه إلي السجن الحربي من جديد.. التهمة تلك المرة كانت أبشع وأظلم.. محاولة قلب نظام الحكم بالقوة!
قبل أن يكتمل الأسبوع الثالث علي سجن الكاتب الكبير.. يصدر قرار جمهوري من الرئيس عبدالناصر بالإفراج عن إحسان فوراً.. ويستقبله في نفس اليوم.. لكنه هذه المرة يعتذر لإحسان!!!.
يخبره الرئيس أنه كان يطالع كشوف المعتقلين ففوجئ باسم إحسان بينها.. ولم يكن قد علم بخبر القبض عليه.. لأن المجموعة التي اعتقلته لا تتبع أجهزة عبدالناصر.. وإنما تتبع المشير عبدالحكيم عامر! يصمت إحسان وملامح وجهه تسودها الدهشة والحيرة.. يلمح الرئيس شرود إحسان.. يكرر أسفه الشخصي واعتذاره بالنيابة عن المشير عامر!.. ثم يفاتح إحسان في أمر وصفه عبدالناصر بأنه خدمة جليلة سوف يقدمها الكاتب الكبير للثورة الرائدة.. يستوضح إحسان عن طبيعة هذه الخدمة.. يستطرد عبدالناصر طالباً من إحسان أن يتحدث إلي الشعب المصري من الإذاعة المصرية يوماً في الأسبوع.. علي أن يكون حديثاً ذا شجون( سياسي- اجتماعي- وطني).. وقبل أن يرد إحسان، يقنعه عبدالناصر بالمهمة التي يعقد عليها آمالاً كبيرة في ربط الجماهير بميكروفون الإذاعة من خلال كاتب كبير يحبونه ويحترمونه..و لا يجد إحسان غير الموافقة.. يصافحه عبدالناصر ويشد علي يده شاكراً.. وينصرف الكاتب الكبير إلي مكتبه بينما تتحول استديوهات الإذاعة إلي خلية نحل لتنفيذ توجيهات الرئيس!!
تصبحوا علي حب
ينجح إحسان بمهارة فائقة في مهمته الجديدة و أحاديثه الإذاعية التي جذبت آلاف المستمعين من شتي بقاع مصر.. التف الجميع حول أجهزة الراديو في موعد حديث إحسان الذي حرص علي أن ينهيه دائماً بثلاث كلمات:
.... وتصبحوا علي حب!
ملأت الغيرة والأحقاد قلوب مراكز القوي!
فكروا في وسيلة لهدم إحسان عبدالقدوس.. وتشويه صورته.. ومنع حديثه الأسبوعي في الإذاعة.. وإفساد علاقته بعبدالناصر.. فالكاتب الكبير يؤمن بالحرية.. يرفض أن يكون ذيلاً أو دلدولاً أو طربوشاً!.. كما أن الرئيس يثق فيه ويقربه منه ويعتمد عليه.. فإحسان كاتب يملك قلمه.. لا ينتمي إلي أحزاب أو تيارات أو اتجاهات.. رأيه مجرد.. وطنيته واضحة.. لا يتاجر ولا يزايد ولا يدق الطبول ولا يحمل المزامير! كل هذه الصفات تقلق وتؤرق مراكز القوي التي تريد الانفراد بعبدالناصر وحدها.. لتحكم مصر من خلاله!
همسوا في أذن الرئيس بأن إحسان يحرِّض الرجال والنساء علي ممارسة الحب الساخن كل ليلة.. وأن الرئيس هو الذي منحه هذه الفرصة.. حينما سمح له بلقاء المستمعين من خلال ميكروفون الإذاعة! وسأل عبدالناصر.. كيف؟ قالوا له إن إحسان حينما يقول للناس (تصبحوا علي حب) فإنه لا يقصد سوي المعني الخبيث !! فالحب عند إحسان هو الرغبات المحمومة.. والقبلات الملتهبة.. والعناق الحار.. والحجرات المغلقة.. والأنوار المطفأة!.. أليست رواياته تدور حول امرأة جائعة أو رجل ظامئ.. رائحة الرغبة تفوح من سطورها.. واللقاءات المجنونة تفترش فصولها.. لم يكد عبدالناصر يرد علي واحد حتي يصرخ الآخر بأن إحسان يهدم المجتمع ويشوه الأخلاقيات ويتلاعب بالقيم.!.
أخيراً سكت الرئيس.. بعض الرؤساء يفضلون سد الأبواب التي تهب منها الرياح.. يفضلون إرضاء كل الأطراف.. يلجأون إلي الحلول الوسط..لقد عثر الرئيس علي حل تحمس له.. وأخطر إحسان به وأنهي من خلاله همسات من حوله.. قال لإحسان:
خليها تصبحوا علي محبة بدلاً من الحب يا إحسان!!
ووعده إحسان بأن يفكر خلال يومين!
ولم يرد إحسان.. اتصلوا به.. لكنه اعتذر.. رفض كل الوساطات والتدخلات..اختار الابتعاد عن الإذاعة.. وأصر علي البعد حتي بعد وفاة عبدالناصر.. ظل علي موقفه من هجر ميكروفونات الإذاعة ثلاثين عاماً متصلة إلي أن مات! لكن هل كان ذلك هو السر الوحيد في حياة إحسان؟.. لا.. فأوراق إحسان السرية مليئة حتي آخرها بأسرار بعضها يثير الدهشة.... وبعضها يثير الفضول.. وبعضها أيضاً يثير القرف من قسوة ما حدث !!
في أذن عبدالناصر
قالوا للرئيس إنه لا يليق بصديقه الكاتب الصحفي أن يثير الغرائز في رواياته.. ويبدو من خلالها عجوزاً مراهقاً يهدم أجيال الشباب من خلال قصصه الماجنة التي تتسلل إلي البيوت.. وتصرف الطلاب عن دروسهم.. وتحرِّض الزوجات علي الخيانة.. وتدفع بالرجال إلي الهاوية.. طلبوا من الرئيس أن يقرأ رواية إحسان الجديدة (البنات والصيف) ليتأكد بنفسه ..و تذكر الرئيس أن إحسان قد أهدي تلك الرواية له منذ أيام.. عاد الرئيس إلي منزله.. قرأ الرواية أكثر من مرة.. توقف عند فصول كثيرة تذكر معها همسات مراكز القوي، اتصل بإحسان.. ناقشه.. شعر إحسان أن عبدالناصر لا يتحدث بلسانه.. ولا بأفكاره.. ولا بمشاعره التي اعتادها منه.. أحس الكاتب الكبير أن رئيس الدولة مشحون ضده.. منقلب عليه.. لم يستمر الحوار طويلاً.. انقلب إلي قطيعة دامت عدة أشهر.. كان إحسان يضرب كفاً بكف مما يحدث.. فقد سبق أن اعترض عبدالناصر علي رواية (في بيتنا رجل !) بعد أن أقنعوه في خبث أن بطل الرواية الذي صوره إحسان هو نفسه المتهم الذي دبر لاغتيال عبد الناصر وحوله إحسان إلي بطل في روايته..! وأحدثت تلك الوشاية شرخا جديدا في علاقة الرئيس بالكاتب الكبير!.
أنف وثلاث عيون في البرلمان
وبعد سنوات أحدثت رواية (أنف وثلاث عيون) ضجة هائلة أثارها نواب البرلمان !!
وبسبب هذه الرواية أصبح إحسان عبدالقدوس أول كاتب وأديب في العالم تثير روايته استجواباً في مجلس الأمة.. كان وقتها أنور السادات رئيساً لمجلس الأمة.. والدكتور حاتم وزيراً للثقافة.. وتقدم- حينئذ- عضو بالبرلمان يدعي عبدالصمد محمد باستجواب لوزير الثقافة متهماً إحسان بإفساد أخلاق المصريين وحثهم علي ممارسة الجنس! وبعد رد الوزير يطلب رئيس المجلس من العضو أن يتقدم ببلاغ إلي النيابة إذا كان متأكداً من إدانة إحسان عبدالقدوس!
وبعد شهور يطلب نفس العضو من الأستاذ الكبير أن يأذن له بمقابلته.. ويسمح إحسان باللقاء.. وما أن يجلس العضو أمام إحسان حتي يعترف له:
- أنا آسف يا إحسان بك.. لم أكن قد قرأت روايتك.. لكن البعض دفعني إلي هذا لموقف دفعاً لأهاجمك!
آخر القصيدة
وكانت علاقته بالرئيس السادات بعد ذلك مليئة بالأسرار أيضاً !
اتصل الرئيس السادات في عام 1971 بإحسان عبدالقدوس.. كان إحسان وقتها رئيساً لمجلس إدارة جريدة الأهرام.. وكان الاتصال بينه وبين الرئيس السادات لا ينقطع.. بل كان السادات يعلن في فخر عن صداقته للكاتب الكبير.. وفي إحدي المرات اتصل السادات بإحسان بعد أن ألقي خطاباً سياسياً مهماً.. سأله السادات عن رأيه في الخطاب.. ورد إحسان في جرأته المعهودة وشجاعته التي كانت أكبر من كل المناصب التي تولاها.. قال للرئيس إنه لم يكن موفقاً في بعض الفقرات.. وراح إحسان يعدد اعتراضاته علي بعض الفقرات.. ويدلل علي خطأ الرئيس فيها.. وتناقضها مع أفكار الرئيس نفسه عن الشرعية والقانون والدستور ودور القوات المسلحة.. وقاطعه الرئيس السادات في لهفة قائلاً:
- هذه الآراء عظيمة يا إحسان.. لماذا لا تكتبها في الأهرام.. أرجو أن أقرأها في مقالك القادم!
لم يتردد إحسان.. كتب مقاله الشهير (تساؤلات حول خطاب السادات!) ..
وبعد نشر المقال بيومين فوجئ إحسان بقرار من الرئيس السادات بعزله من رئاسة مجلس إدارة جريدة الأهرام!! وتعيينه مستشاراً بالجريدة!.
بعد أن رسخ في ذهن الناس أن وظيفة المستشار عندما تصدر في قرار جمهوري فهي تأكيد لإقالة صاحب المنصب وتجريده من كل نفوذه!.. وتضايق الكاتب الكبير من أسلوب السادات في قرار عزله حيث لم يعلم به إحسان إلا من مديرة مكتبه! وبنفس الطريقة المهينة التي عزله بها السادات من قبل.. وكانت لها هي الأخري قصة غريبة!
علي مقهي في الشارع السياسي
كان إحسان وقتها رئيساً لمجلس إدارة أخبار اليوم.. أما السادات فكان في أوج رضائه عن الرئيس العربي....وتسبب مقال إحسان في غضب الرئيس السادات.. وأثار حنقه.. فلم يتردد في عزل إحسان عبدالقدوس من رئاسة أخبار اليوم!.. ومن عجائب السياسة ومفارقات القدر.. أن تسوء العلاقة بعد ذلك بين الرئيس السادات والرئيس العربي فيتصل السادات بإحسان ويطالبه بأن يشن حملة ضد هذا الرئيس .. لكن إحسان يرفض في إصرار.. لأنه لا يعمل حسب مزاج رئيس الجمهورية..!.. يغضب الرئيس السادات.. وتظل الجفوة بينه وبين الكاتب الكبير عاماً كاملاً.. بعدها يتصل به الرئيس في إحدي المناسبات.. يصالحه.. يطلب إليه أن يكتب في مجلة (أكتوبر) فهي المجلة التي يرعاها الرئيس ويتبناها ويحلم بأن يرأس تحريرها بعد أن يترك رئاسة الجمهورية !! يخبر السادات إحسان باهتمامه البالغ بمجلة أكتوبر.. ولهذا اختار لها أنيس منصور ليرأس تحريرها.. وأن قلم إحسان سيضمن لها النجاح والاستمرار والتفاف القراء حولها.. ويوافق إحسان.. ويختار عنواناً لباب ثابت يكتب للقراء من خلاله.. (علي مقهي في الشارع السياسي).
وتمضي الأيام.. والشهور.. ويتحول آلاف القراء إلي مجلة أكتوبر.. وتحظي مقالات إحسان بشعبية جارفة.. يشعر القراء أن قلم إحسان هو نبض الشارع المصري.. فهو لا يعارض للمعارضة.. ولا يؤيد للمجاملة.. لكن مرة أخري يغضب الرئيس.. لكنه لا يعزل إحسان فهو يكتب في أكتوبر (بغير منصب) ..و يفهم إحسان ما يدور حينما يخبره الأستاذ أنيس منصور قائلاً:
- مقالاتك يا أستاذي تعجب ملايين المصريين ماعدا واحداً.. واحد فقط لا تعجبه مقالاتك!!
يضحك إحسان في مرارة فهو يعرف هذا الواحد.. إنه الرئيس السادات نفسه.. وقبل أن يرد إحسان يستطرد أنيس منصور بأن هذا الواحد لا يستطيع رؤساء التحرير أن يغضبوه!.. هنا يمسك إحسان بورقة وقلم ليكتب استقالته من أكتوبر.. ويختفي من فوق صفحاتها وللأبد باب (علي مقهي في الشارع السياسي).. ويفاجأ القراء بغياب قلم إحسان عبدالقدوس دون أن يفهموا سر هذا الاختفاء الغريب.
أنيس يكشف سر إحسان
لكن الكاتب الكبير أنيس منصور يكتب سرا اخر عن إحسان .. نشره انيس في لندن ولم ينشر في مصر حتي الآن !!
يقول أنيس : كنت قد اتفقت مع الملكة فريدة ملكة مصر السابقة علي أن أنشر مذكراتها في مجلة أكتوبر.. ولم أكن أعرف متي يكون ذلك؟ طبعا ليس في أعدادها الأولي . فقد طلبت إلي الرئيس السادات أن يتحدث إلي الشباب كما وعد. فكانت سلسلة : الجليد يذوب بين مصر وروسيا وفي هذه السلسلة روي الرئيس السادات للشباب حقيقة ما حدث بين مصر، وروسيا، وكان كلامه بالعقل .. ولم يعجب لا روسيا ولا الشيوعيين.
وفي الوقت نفسه جلست إلي الملكة فريدة أسألها . ولاحظت أن أسئلتي قد قصدت بها أن أرد علي مصطفي أمين، واتهاماته للملك فاروق فبعض مما قاله عن الملك ليس صحيحا. فليس صحيحا أن الملك فاروق كان سكيرا. لانه لم يذق الخمر ، لا تدينا ولكنه لا يحب طعمها . هكذا قالت لي الملكة فريدة . وقالت لي الملكة ناريمان وقال لي الأمير أحمد فؤاد عندما دعاني الي الغداء في بيته في باريس .. وعندما التقيت به في بيت وزير الثقافة المغربي في الرباط .. فقد وجدت زوجته التي انفصل عنها لا تكف عن التدخين والشرب . أما هو فيدخن فقط . وأكد لي أنه مثل والده لا يحب الخمر .. ولكن لم يعجبني ان أهاجم مصطفي أمين .. ولاهي مهمتي ان أتولي الدفاع عن الملك فاروق .. فليس موضوع الخمر يشربها أو لا يشربها هي القضية..
ولكن وجدت لمصطفي أمين عذراّ ، وهو انه لا يحب أن يخرج أحد من أخبار اليوم... ولا أن يخرج عليها .. أما أنني خرجت منها او تخرجت فيها فهذا صحيح أما أنني خرجت عليها فليس صحيحاّ ولكن خرجت لأرأس مؤسسة دار المعارف التي كانت للطباعة والنشر ، فصارت مؤسسة صحفية ، والفضل في ذلك لمجلة أكتوبر الجديدة.
وتضايقت أكثر عندما انتقلت تشنيعات ونكت علي لساني ضد مصطفي أمين. قلت له: اسمع يا مصطفي بيه أنا لا أنكر فضل أخبار اليوم.. وأنا لا أزال وسوف أبقي أقول عندنا في أخبار اليوم! ولم أغير هذه الكلمة حتي الآن.. فأنا تركت أخبار اليوم من 21 عاما، ولاأزال أقول عندنا في اخبار اليوم وإذا ذهبت إلي الاسكندرية، فإنني أذهب إلي مكتب أخبار اليوم رغم أنني أكتب مقالات للأهرام .. ولا أعرف أحداّ في مكتب الأهرام بالأسكندرية و لا أحد في في مكتب مجلة أكتوبر لانني ما زلت في اسرة اخبار اليوم وصورتي في مدخل اخبار اليوم. وصعدت ورأست فيها تحرير ثلاث مجلات الجيل وهي وآخر ساعة
ومصطفي امين سيد العارفين فالجو الصحفي كله كلام.. صنعتنا الكلام و الاخبار .. والاخبار التي ليست صحيحة و ما اكثرها فإننا نفبرك غيرها من الحكايات و النكت والشائعات و علي الرغم من أن الكلام صنعتنا فاننا نضيق بالكلام انتاجا و استهلاكا واستيرادا و تصديرا.
وكان شارلي شابلن يندهش من سلوكيات الناس و كان يقول اننا نفزع من منظر الدم مع انه يجري في عروقنا!
فكيف نفزع من الكلام الذي يجري حبرا أسود في عروقنا وبنزينا في أنوفنا!
وفجأة دعاني مصطفي أمين إلي مكتبه وسألني:
- عاوز أرشح لك كاتبا ناشئا ليكتب عنك..
- يسعدني.. يا مصطفي بيه.
- ألا تسأل من يكون؟
- يكفي أنك رشحته .. من هو يا ستاذ؟
- قال: أنا..
- ياه .. شرف لنا يا مصطفي بيه .. متي يكون أول مقال؟
- يا شيخ بضحك معاك!
- تصور يا مصطفي بيه .. مصطفي أمين واحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وإسماعيل فهمي ومذكرات الرئيس السادات .. انها صواريخ تدفعنا إلي فوق إلي مدار حول الأرض .. في السماء .. وفي إحدي حفلات ميلاد مجلة اكتوبر جاءنا مصطفي أمين وجلس إلي تلامذته من أخبار اليوم .. فأكثر شباب مجلة أكتوبر كانوا في آخر ساعة.. السكرتارية كلها من آخر ساعة . والباقون من الأخبار .. ولم يشعر بأنه غريب عنا .. ولا نحن غرباء عنه. ثم قال كلاما أسعد الرئيس السادات عندما نقلت إليه كلام مصطفي أمين لنا جميعاّ : لا شئ يدل علي حرية الصحافة في مصر إلاما تنشره مجلة أكتوبر من مقالات في غاية الجرأة.. ولم يشأ مصطفي أمين أن يشير صراحة إلي مقالات إحسان عبد القدوس التي عنوانها بعلي مقهي في الشارع السياسي«.. ففي هذة المقالات كان إحسان يهاجم سياسة مصر، وسياسة الحكومة، وسياسة الرئيس السادات ..
ولم يحدث مرة واحدة- أن قلت ل إحسان عبد القدوس : اكتب شيئا ذ أو احذف شيئا.. أو نقلت اليه شكوي رئيس الوزراء، وقيادات الحزب، الذين يهاجمون احسان بمنتهي السخرية والقسوة، أو السخرية القاسية، أو القسوة الساخرة.. كل أسبوع..
حتي إحسان عبد القدوس انزعج وشكاني إلي بعض الأصدقا . وإلي زوجتي، وقال: ان أنيس يريدني أن أدخل السجن، فهو لم ينبهني مرة واحدة إلي ما أكتبهش ومدي العنف الذي في كل عبارة..
ثم سألني احسان عبد القدوس في عشاء عنده، وكأنما اراد ان يورطني أو يجعل عددا من الأصدقاء يشهدون علينا.. فبعد العشاء سألني: أريدك ان تجاوبني امام الجميع: لماذا تتركني أكتب ما أكتب دون أن تحذرني من غضب الرئيس السادات ؟
وأقسمت لإحسان عبد القدوس صادقا : ان الرئيس السادات لم يغضب مرة واحدة.. ولا راجعني في هذا الذي تكتبه . ولا طلب مني أن ألفت نظرك. صحيح رئيس الوزراء اشتكي وأمناء الحزب، والوزراء.. ولكني أعتقد أنك سيد المحللين السياسيين في مصر .. وأن الذي تكتبه أكبر دليل علي حرية المجلة وحرية الصحافة .. فإن لم يكن الذي تكتبة نوعا من المعارضة داخل الحزب، فأنت كاتب حر! وإحسان عبد القدوس مثل مصطفي أمين: سيئ الظن بالناس. حتي بأصدقائه .. أو خصوصا ّبأصدقائه!
حاكموا أنيس أولا
وقرأت حديثا لإحسان عبد القدوس في مجلة الحوادث اللبنانية يقول فيه :(أنا أكتب والسلام .. ولا أعرف أين يقع أو يذهب كلامي .. وإذا دخلت السجن أو اغتالني أحد ف انيس منصور هو المسئول.. لأنه استدرجني لأن أقول كل ما يخطر علي بالي ، دون ان يحذرني وانا اعرف عبد الناصر، والسادات.. عبد الناصر دغري.. إذا لم يعجبه كلامي وضعني في السجن ، او يرسل واحدا يضربني بالرصاص .. أما السادات ففلاح وباله طويل.. وقد اعتاد الفلاح المصري إذا اراد أن يقتل احدا ان يختفي في حقول الأرز أو القصب.. اعتقد ان السادات الآن في حقول القصب .. لأن عبد الناصر زعيم واضح و السادات رجل متآمر.. فعلي الرغم من انه اصبح رئيسا للدولة ، فهو يتصرف كواحد لم يصل بعد الي السلطة ولذلك فهو يسكت ويصبر، ثم ينقض بعد ذلك .. وقد اوصيت زوجتي اذا حدث لي شيئا فليحاكموا انيس منصور اولاّ )!
وقلت لإحسان عبد القدوس :
- اولاّ انا الذي طلبت اليك ان تكتب ولا تزال تكتب ذ وان كان يحزنني ذلك. وليس من المعقول ان اسكت عنك والسادات ضدك وكذلك أجهزة الدولة ، كل هذه الفترة الطويلة لم تتعرض لك.. فليس اسهل من ان يعتقلوك في اي وقت.. وهذا مالم يحدث ولن يحدث!
وشكوته الي يوسف السباعي:
انني تعبت طول عمري مع احسان انه يريد ان يكون مدللا معظم الوقت فاذا كتب لابد ان تضرب له تليفونا، وتقول يا حلاوتك.. يا جمالك.. يا عظمتك.. ولا تكتفي بالتليفون وانما يجب ان تزوره مع طلوع كل مقال.. وانا لم استطع.. وأنت لن تستطيع ..
وقال لي السباعي:
-لا تسأل فيه ذ احسان دلوعة ودلعه بايخ .. اسمع قل له ان الرئيس السادات طلب منك ان اكتب أنا بدلاّ من احسان.. هاها.. هاها.. تعرف لو حصل، سوف يلعن اجدادي أنا.. ويري أنني الذي تآمرت عليه.. وسوف يحذرك مني ايضاّ.. هاها.. هاها...
وفوجئت بمصطفي أمين يقول لي :
- ايه حكاية يوسف السباعي ؟
- هل طلب الرئيس أن يكتب يوسف بدلاّ من احسان ؟
- ابدا دي نكتة..
- لا مش نكتة.. احسان قاعد قدامي اهوه..
- نكتة .. والله زي نكتك يا مصطفي بيه!
- وأذكر أن الرئيس حسني مبارك طلبني في ساعة مبكرة ، وقال لي :هل قرأت ماكتبه إحسان ؟
- ايوة ياريس
- هل يعجبك مثل هذا الكلام؟!
- لا ياريس
- ولا أنا.. إنني أتكلم باعتباري مواطنا مصريا.. وأري ان الذي كتبه احسان عبد القدوس فيه مغالطة، وفيه اضرار بالوطن .. وانه يعطي صورة وحشة جدا بقلم كاتب كبير.
-طيب ياريس تحب ألفت نظر احسان ..
-لا... أرجوك .. هو حر يكتب مايمليه عليه ضميره .. أرجوك لاتقل إنني غير راض عن الذي يكتبه ..
- حاضر ياريس..
- شكرا..
- .............
ولم أقل لإحسان عبد القدوس أن الرئيس حسني مبارك غير راض عما يكتبه حتي لا يظن بي الظنون!!
أغرب أسرار إحسان
ويبقي سر من أغرب أسرار إحسان عبدالقدوس!
سر بدأ في عام 1951 واستمر حتي عام 1991!
في عام 1951 شن إحسان عبدالقدوس حملته الشهيرة التي كشفت للرأي العام المصري والتاريخ المعاصر فضيحة الأسلحة الفاسدة التي تعاقد عليها القصر.. وقتها حاول أحد الباشوات المتهمين في الفضيحة أن يغتال إحسان.. دبّر خطته التي أوكل تنفيذها إلي بعض البلطجية ليفاجئوا إحسان عبدالقدوس في الظلام.. وينهالوا ضرباً بالسكاكين علي رأسه ويلوذوا بالفرار.. لكن السماء تكتب نجاة إحسان بمعجزة!..
وفي عام 1991 يكتشف أطباء أوروبا أن مرض إحسان يرجع إلي إصابته في رأسه منذ عشرات السنين.. مما ترتب عليه ورم خبيث في رأسه.. ويؤكد تقرير الأطباء أن إحسان لن يعيش أكثر من ستة أشهر!
يعود إحسان إلي القاهرة..
وبعد ستة أشهر يدخل في غيبوبة..
وفي اليوم الخامس عشر من انتهاء مهلة الستة أشهر يلقي إحسان عبدالقدوس ربه!
( ...وهمسوا في أذن الرئيس بأن إحسان عبدالقدوس يحث الرجال والنساء علي ممارسة الحب الساخن كل ليلة من خلال برنامج يقدمه بالإذاعة المصرية! فهو ينهي حديثه اليومي بعبارة ( تصبحوا علي حب ) .. واستغلتها مراكز القوي في إقناع رئييس الدولة بأن الكاتب الكبير يستثمر أحاديثه الإذاعية في هدف قد يدمر المجتمع!! بعدها توالت المفاجآت التي كانت سبباً في مخاصمة إحسان عبدالقدوس لكل الأحاديث والبرامج الإذاعية ثلاثين عاماً متصلة.. حتي مات !! ) .
في عهد ثورة يوليو :
نزيل الزنزانة رقم 91
لم يكن ذلك اللقاء هو الأول بينهما.. فقد أعلن عبدالناصر عن إعجابه البالغ بإحسان عبدالقدوس قبل أن تقوم الثورة..!!
كان عبدالناصر يتابع مقالات إحسان الوطنية.. وحملاته المثيرة علي القصر والفساد والاستعمار.. خاصة حملة إحسان علي الأسلحة الفاسدة والتي سببت له العديد من المتاعب مما دفع أحد الباشوات إلي التفكير في اغتياله وبعد قيام الثورة.. توطدت الصداقة بين عبدالناصر والكاتب اللامع.. لكن صداقة الحكام محفوفة غالبا بالمخاطر !.
فرغم اهتمام عبدالناصر باستشارة إحسان في الكثير من قرارات مجلس قيادة الثورة.. ورغم اهتمام إحسان بإخلاص النصح إلي الزعيم الذي استبدت شعبيته بقلوب المصريين والعرب ودول العالم الثالث.. فقد جاء يوم كان لابد أن يجيء!.
أمر الرئيس باعتقال إحسان عبدالقدوس!.
وصدرت روزاليوسف وهي تنتقد بعض تصرفات مجلس قيادة الثورة.. مما أغضب زعيم الثورة.. وحينما يغضب الحكام ينتهز آخرون الفرصة !.
ظل الكاتب الكبير في السجن ثلاثة أشهر!.
لم يكن يؤلم إحسان خلف أسوار السجن العالية سوي غدر الصحاب! فالذي سجنه هو صديقه وقائد الثورة التي ألهبت خيال إحسان الثوري.. فتحمس لها.. ودافع عنها.. ووهبها قلمه وفكره.. حتي عندما انتقدها لم يكن ذلك إلا من منطلق الحرص عليها والنصح لها! وتمضي الأشهر الثلاثة كأنها الدهر.
وفجأة.. ذات صباح.. يرن التليفون في مكتب مأمور السجن.. لم يكد مأمور السجن يسمع صوت محدثه علي الطرف الآخر حتي هب واقفاً، تتساقط من فمه سيجارته دون أن ينتبه إليها حتي أحرقت سترته!.. كان المتحدث هو جمال عبدالناصر شخصياً!.. يسود الهرج والمرج داخل السجن بعد أن طلب رئيس الجمهورية الحديث إلي نزيل الزنزانة رقم 91 بالسجن الحربي.. إحسان عبدالقدوس!.. الجنود يهرولون نحو الزنزانة.. المأمور مازال يرفع يده بالتحية العسكرية وهو ينظر إلي سماعة التليفون، فمازال الخط مفتوحاً في انتظار حضور إحسان!
يندهش الكاتب الكبير وهو يستمع إلي صوت الرئيس!
أخبره عبدالناصر أنه أصدر قراراً بالإفراج عنه.. وأنه ينتظره خلال ربع الساعة ليتناول الإفطار معه!!!.. مازال الكاتب اللامع غارقاً في دهشته بعد أن انتهت المكالمة.. مأمور السجن يخبره بأن سيارة الرئيس تنتظره أمام بوابة السجن.. يسير إحسان في ثقة نحو السيارة بينما يرفع كل من يشاهده يده بالتحية كلما مر علي مجموعة من الضباط أو الجنود!
ودارت الدنيا برأسه
يصل إحسان إلي منزل عبدالناصر في منشية البكري! يجلس علي مائدة الإفطار مع رئيس الجمهورية.. يتبادلان نظرات لها ألف معني.. يعتقد الكاتب الكبير أن الرئيس سوف يصارحه بسبب اعتقاله.. وربما أيضاً اعتذر له.. فإحسان لا يعرف ماذا أغضب عبدالناصر بالضبط.. أي مقال أثاره.. يتمني إحسان لو تكلم عبدالناصر.. المناقشة ستكون في صالح الطرفين.. لكن الرئيس يظل صامتاً حتي ينتهي الإفطار.. وبينما يحتسي الشاي مع ضيفه.. يقطع صوت الزعيم جدار الصمت.. ينظر إلي إحسان ثم يسأله:
- اتربيت يا إحسان.. ولاّ لسه ؟!!
تدور الدنيا برأس إحسان.. فلم يكن الصحفي الكبير ناقص تربية حتي يربيه ضباط الثورة.. يتغير وجه إحسان.. يضحك عبدالناصر ويعود للحديث إلي ضيفه مؤكداً له أن السجن خير مرب وأعظم معلم.. لكنه يستطرد أمام هدوء إحسان ورقته واعداً ضيفه بإزالة كل الآثار التي سببها له السجن!.. وقبل أن ينتهي اللقاء يتواعدان علي لقاء جديد.. كانت تلك عادة عبدالناصر كلما انتهي لقاء بينهما علي مائدة الغداء أو العشاء أو الإفطار .. الاتفاق علي موعد آخر.. وهكذا تستمر دعوات عبدالناصر لإحسان عدة أشهر حتي يخبره الرئيس في اللقاء الثلاثين بينهما قائلاً:
- أعتقد يا إحسان أنني قد عالجتك نفسياً من صدمة السجن!.
لم يعلق إحسان فالرئيس دائما ما يصر علي رأيه .. لكن يلمع نجم إحسان في الصحافة والأدب أكثر مما كان!
زوار الفجر
وبعد عام واحد من سجن إحسان عبدالقدوس الأول.. يفاجأ الكاتب الكبير بزوار الفجر يلقون القبض عليه مرة أخري.. ويعيدونه إلي السجن الحربي من جديد.. التهمة تلك المرة كانت أبشع وأظلم.. محاولة قلب نظام الحكم بالقوة!
قبل أن يكتمل الأسبوع الثالث علي سجن الكاتب الكبير.. يصدر قرار جمهوري من الرئيس عبدالناصر بالإفراج عن إحسان فوراً.. ويستقبله في نفس اليوم.. لكنه هذه المرة يعتذر لإحسان!!!.
يخبره الرئيس أنه كان يطالع كشوف المعتقلين ففوجئ باسم إحسان بينها.. ولم يكن قد علم بخبر القبض عليه.. لأن المجموعة التي اعتقلته لا تتبع أجهزة عبدالناصر.. وإنما تتبع المشير عبدالحكيم عامر! يصمت إحسان وملامح وجهه تسودها الدهشة والحيرة.. يلمح الرئيس شرود إحسان.. يكرر أسفه الشخصي واعتذاره بالنيابة عن المشير عامر!.. ثم يفاتح إحسان في أمر وصفه عبدالناصر بأنه خدمة جليلة سوف يقدمها الكاتب الكبير للثورة الرائدة.. يستوضح إحسان عن طبيعة هذه الخدمة.. يستطرد عبدالناصر طالباً من إحسان أن يتحدث إلي الشعب المصري من الإذاعة المصرية يوماً في الأسبوع.. علي أن يكون حديثاً ذا شجون( سياسي- اجتماعي- وطني).. وقبل أن يرد إحسان، يقنعه عبدالناصر بالمهمة التي يعقد عليها آمالاً كبيرة في ربط الجماهير بميكروفون الإذاعة من خلال كاتب كبير يحبونه ويحترمونه..و لا يجد إحسان غير الموافقة.. يصافحه عبدالناصر ويشد علي يده شاكراً.. وينصرف الكاتب الكبير إلي مكتبه بينما تتحول استديوهات الإذاعة إلي خلية نحل لتنفيذ توجيهات الرئيس!!
تصبحوا علي حب
ينجح إحسان بمهارة فائقة في مهمته الجديدة و أحاديثه الإذاعية التي جذبت آلاف المستمعين من شتي بقاع مصر.. التف الجميع حول أجهزة الراديو في موعد حديث إحسان الذي حرص علي أن ينهيه دائماً بثلاث كلمات:
.... وتصبحوا علي حب!
ملأت الغيرة والأحقاد قلوب مراكز القوي!
فكروا في وسيلة لهدم إحسان عبدالقدوس.. وتشويه صورته.. ومنع حديثه الأسبوعي في الإذاعة.. وإفساد علاقته بعبدالناصر.. فالكاتب الكبير يؤمن بالحرية.. يرفض أن يكون ذيلاً أو دلدولاً أو طربوشاً!.. كما أن الرئيس يثق فيه ويقربه منه ويعتمد عليه.. فإحسان كاتب يملك قلمه.. لا ينتمي إلي أحزاب أو تيارات أو اتجاهات.. رأيه مجرد.. وطنيته واضحة.. لا يتاجر ولا يزايد ولا يدق الطبول ولا يحمل المزامير! كل هذه الصفات تقلق وتؤرق مراكز القوي التي تريد الانفراد بعبدالناصر وحدها.. لتحكم مصر من خلاله!
همسوا في أذن الرئيس بأن إحسان يحرِّض الرجال والنساء علي ممارسة الحب الساخن كل ليلة.. وأن الرئيس هو الذي منحه هذه الفرصة.. حينما سمح له بلقاء المستمعين من خلال ميكروفون الإذاعة! وسأل عبدالناصر.. كيف؟ قالوا له إن إحسان حينما يقول للناس (تصبحوا علي حب) فإنه لا يقصد سوي المعني الخبيث !! فالحب عند إحسان هو الرغبات المحمومة.. والقبلات الملتهبة.. والعناق الحار.. والحجرات المغلقة.. والأنوار المطفأة!.. أليست رواياته تدور حول امرأة جائعة أو رجل ظامئ.. رائحة الرغبة تفوح من سطورها.. واللقاءات المجنونة تفترش فصولها.. لم يكد عبدالناصر يرد علي واحد حتي يصرخ الآخر بأن إحسان يهدم المجتمع ويشوه الأخلاقيات ويتلاعب بالقيم.!.
أخيراً سكت الرئيس.. بعض الرؤساء يفضلون سد الأبواب التي تهب منها الرياح.. يفضلون إرضاء كل الأطراف.. يلجأون إلي الحلول الوسط..لقد عثر الرئيس علي حل تحمس له.. وأخطر إحسان به وأنهي من خلاله همسات من حوله.. قال لإحسان:
خليها تصبحوا علي محبة بدلاً من الحب يا إحسان!!
ووعده إحسان بأن يفكر خلال يومين!
ولم يرد إحسان.. اتصلوا به.. لكنه اعتذر.. رفض كل الوساطات والتدخلات..اختار الابتعاد عن الإذاعة.. وأصر علي البعد حتي بعد وفاة عبدالناصر.. ظل علي موقفه من هجر ميكروفونات الإذاعة ثلاثين عاماً متصلة إلي أن مات! لكن هل كان ذلك هو السر الوحيد في حياة إحسان؟.. لا.. فأوراق إحسان السرية مليئة حتي آخرها بأسرار بعضها يثير الدهشة.... وبعضها يثير الفضول.. وبعضها أيضاً يثير القرف من قسوة ما حدث !!
في أذن عبدالناصر
قالوا للرئيس إنه لا يليق بصديقه الكاتب الصحفي أن يثير الغرائز في رواياته.. ويبدو من خلالها عجوزاً مراهقاً يهدم أجيال الشباب من خلال قصصه الماجنة التي تتسلل إلي البيوت.. وتصرف الطلاب عن دروسهم.. وتحرِّض الزوجات علي الخيانة.. وتدفع بالرجال إلي الهاوية.. طلبوا من الرئيس أن يقرأ رواية إحسان الجديدة (البنات والصيف) ليتأكد بنفسه ..و تذكر الرئيس أن إحسان قد أهدي تلك الرواية له منذ أيام.. عاد الرئيس إلي منزله.. قرأ الرواية أكثر من مرة.. توقف عند فصول كثيرة تذكر معها همسات مراكز القوي، اتصل بإحسان.. ناقشه.. شعر إحسان أن عبدالناصر لا يتحدث بلسانه.. ولا بأفكاره.. ولا بمشاعره التي اعتادها منه.. أحس الكاتب الكبير أن رئيس الدولة مشحون ضده.. منقلب عليه.. لم يستمر الحوار طويلاً.. انقلب إلي قطيعة دامت عدة أشهر.. كان إحسان يضرب كفاً بكف مما يحدث.. فقد سبق أن اعترض عبدالناصر علي رواية (في بيتنا رجل !) بعد أن أقنعوه في خبث أن بطل الرواية الذي صوره إحسان هو نفسه المتهم الذي دبر لاغتيال عبد الناصر وحوله إحسان إلي بطل في روايته..! وأحدثت تلك الوشاية شرخا جديدا في علاقة الرئيس بالكاتب الكبير!.
أنف وثلاث عيون في البرلمان
وبعد سنوات أحدثت رواية (أنف وثلاث عيون) ضجة هائلة أثارها نواب البرلمان !!
وبسبب هذه الرواية أصبح إحسان عبدالقدوس أول كاتب وأديب في العالم تثير روايته استجواباً في مجلس الأمة.. كان وقتها أنور السادات رئيساً لمجلس الأمة.. والدكتور حاتم وزيراً للثقافة.. وتقدم- حينئذ- عضو بالبرلمان يدعي عبدالصمد محمد باستجواب لوزير الثقافة متهماً إحسان بإفساد أخلاق المصريين وحثهم علي ممارسة الجنس! وبعد رد الوزير يطلب رئيس المجلس من العضو أن يتقدم ببلاغ إلي النيابة إذا كان متأكداً من إدانة إحسان عبدالقدوس!
وبعد شهور يطلب نفس العضو من الأستاذ الكبير أن يأذن له بمقابلته.. ويسمح إحسان باللقاء.. وما أن يجلس العضو أمام إحسان حتي يعترف له:
- أنا آسف يا إحسان بك.. لم أكن قد قرأت روايتك.. لكن البعض دفعني إلي هذا لموقف دفعاً لأهاجمك!
آخر القصيدة
وكانت علاقته بالرئيس السادات بعد ذلك مليئة بالأسرار أيضاً !
اتصل الرئيس السادات في عام 1971 بإحسان عبدالقدوس.. كان إحسان وقتها رئيساً لمجلس إدارة جريدة الأهرام.. وكان الاتصال بينه وبين الرئيس السادات لا ينقطع.. بل كان السادات يعلن في فخر عن صداقته للكاتب الكبير.. وفي إحدي المرات اتصل السادات بإحسان بعد أن ألقي خطاباً سياسياً مهماً.. سأله السادات عن رأيه في الخطاب.. ورد إحسان في جرأته المعهودة وشجاعته التي كانت أكبر من كل المناصب التي تولاها.. قال للرئيس إنه لم يكن موفقاً في بعض الفقرات.. وراح إحسان يعدد اعتراضاته علي بعض الفقرات.. ويدلل علي خطأ الرئيس فيها.. وتناقضها مع أفكار الرئيس نفسه عن الشرعية والقانون والدستور ودور القوات المسلحة.. وقاطعه الرئيس السادات في لهفة قائلاً:
- هذه الآراء عظيمة يا إحسان.. لماذا لا تكتبها في الأهرام.. أرجو أن أقرأها في مقالك القادم!
لم يتردد إحسان.. كتب مقاله الشهير (تساؤلات حول خطاب السادات!) ..
وبعد نشر المقال بيومين فوجئ إحسان بقرار من الرئيس السادات بعزله من رئاسة مجلس إدارة جريدة الأهرام!! وتعيينه مستشاراً بالجريدة!.
بعد أن رسخ في ذهن الناس أن وظيفة المستشار عندما تصدر في قرار جمهوري فهي تأكيد لإقالة صاحب المنصب وتجريده من كل نفوذه!.. وتضايق الكاتب الكبير من أسلوب السادات في قرار عزله حيث لم يعلم به إحسان إلا من مديرة مكتبه! وبنفس الطريقة المهينة التي عزله بها السادات من قبل.. وكانت لها هي الأخري قصة غريبة!
علي مقهي في الشارع السياسي
كان إحسان وقتها رئيساً لمجلس إدارة أخبار اليوم.. أما السادات فكان في أوج رضائه عن الرئيس العربي....وتسبب مقال إحسان في غضب الرئيس السادات.. وأثار حنقه.. فلم يتردد في عزل إحسان عبدالقدوس من رئاسة أخبار اليوم!.. ومن عجائب السياسة ومفارقات القدر.. أن تسوء العلاقة بعد ذلك بين الرئيس السادات والرئيس العربي فيتصل السادات بإحسان ويطالبه بأن يشن حملة ضد هذا الرئيس .. لكن إحسان يرفض في إصرار.. لأنه لا يعمل حسب مزاج رئيس الجمهورية..!.. يغضب الرئيس السادات.. وتظل الجفوة بينه وبين الكاتب الكبير عاماً كاملاً.. بعدها يتصل به الرئيس في إحدي المناسبات.. يصالحه.. يطلب إليه أن يكتب في مجلة (أكتوبر) فهي المجلة التي يرعاها الرئيس ويتبناها ويحلم بأن يرأس تحريرها بعد أن يترك رئاسة الجمهورية !! يخبر السادات إحسان باهتمامه البالغ بمجلة أكتوبر.. ولهذا اختار لها أنيس منصور ليرأس تحريرها.. وأن قلم إحسان سيضمن لها النجاح والاستمرار والتفاف القراء حولها.. ويوافق إحسان.. ويختار عنواناً لباب ثابت يكتب للقراء من خلاله.. (علي مقهي في الشارع السياسي).
وتمضي الأيام.. والشهور.. ويتحول آلاف القراء إلي مجلة أكتوبر.. وتحظي مقالات إحسان بشعبية جارفة.. يشعر القراء أن قلم إحسان هو نبض الشارع المصري.. فهو لا يعارض للمعارضة.. ولا يؤيد للمجاملة.. لكن مرة أخري يغضب الرئيس.. لكنه لا يعزل إحسان فهو يكتب في أكتوبر (بغير منصب) ..و يفهم إحسان ما يدور حينما يخبره الأستاذ أنيس منصور قائلاً:
- مقالاتك يا أستاذي تعجب ملايين المصريين ماعدا واحداً.. واحد فقط لا تعجبه مقالاتك!!
يضحك إحسان في مرارة فهو يعرف هذا الواحد.. إنه الرئيس السادات نفسه.. وقبل أن يرد إحسان يستطرد أنيس منصور بأن هذا الواحد لا يستطيع رؤساء التحرير أن يغضبوه!.. هنا يمسك إحسان بورقة وقلم ليكتب استقالته من أكتوبر.. ويختفي من فوق صفحاتها وللأبد باب (علي مقهي في الشارع السياسي).. ويفاجأ القراء بغياب قلم إحسان عبدالقدوس دون أن يفهموا سر هذا الاختفاء الغريب.
أنيس يكشف سر إحسان
لكن الكاتب الكبير أنيس منصور يكتب سرا اخر عن إحسان .. نشره انيس في لندن ولم ينشر في مصر حتي الآن !!
يقول أنيس : كنت قد اتفقت مع الملكة فريدة ملكة مصر السابقة علي أن أنشر مذكراتها في مجلة أكتوبر.. ولم أكن أعرف متي يكون ذلك؟ طبعا ليس في أعدادها الأولي . فقد طلبت إلي الرئيس السادات أن يتحدث إلي الشباب كما وعد. فكانت سلسلة : الجليد يذوب بين مصر وروسيا وفي هذه السلسلة روي الرئيس السادات للشباب حقيقة ما حدث بين مصر، وروسيا، وكان كلامه بالعقل .. ولم يعجب لا روسيا ولا الشيوعيين.
وفي الوقت نفسه جلست إلي الملكة فريدة أسألها . ولاحظت أن أسئلتي قد قصدت بها أن أرد علي مصطفي أمين، واتهاماته للملك فاروق فبعض مما قاله عن الملك ليس صحيحا. فليس صحيحا أن الملك فاروق كان سكيرا. لانه لم يذق الخمر ، لا تدينا ولكنه لا يحب طعمها . هكذا قالت لي الملكة فريدة . وقالت لي الملكة ناريمان وقال لي الأمير أحمد فؤاد عندما دعاني الي الغداء في بيته في باريس .. وعندما التقيت به في بيت وزير الثقافة المغربي في الرباط .. فقد وجدت زوجته التي انفصل عنها لا تكف عن التدخين والشرب . أما هو فيدخن فقط . وأكد لي أنه مثل والده لا يحب الخمر .. ولكن لم يعجبني ان أهاجم مصطفي أمين .. ولاهي مهمتي ان أتولي الدفاع عن الملك فاروق .. فليس موضوع الخمر يشربها أو لا يشربها هي القضية..
ولكن وجدت لمصطفي أمين عذراّ ، وهو انه لا يحب أن يخرج أحد من أخبار اليوم... ولا أن يخرج عليها .. أما أنني خرجت منها او تخرجت فيها فهذا صحيح أما أنني خرجت عليها فليس صحيحاّ ولكن خرجت لأرأس مؤسسة دار المعارف التي كانت للطباعة والنشر ، فصارت مؤسسة صحفية ، والفضل في ذلك لمجلة أكتوبر الجديدة.
وتضايقت أكثر عندما انتقلت تشنيعات ونكت علي لساني ضد مصطفي أمين. قلت له: اسمع يا مصطفي بيه أنا لا أنكر فضل أخبار اليوم.. وأنا لا أزال وسوف أبقي أقول عندنا في أخبار اليوم! ولم أغير هذه الكلمة حتي الآن.. فأنا تركت أخبار اليوم من 21 عاما، ولاأزال أقول عندنا في اخبار اليوم وإذا ذهبت إلي الاسكندرية، فإنني أذهب إلي مكتب أخبار اليوم رغم أنني أكتب مقالات للأهرام .. ولا أعرف أحداّ في مكتب الأهرام بالأسكندرية و لا أحد في في مكتب مجلة أكتوبر لانني ما زلت في اسرة اخبار اليوم وصورتي في مدخل اخبار اليوم. وصعدت ورأست فيها تحرير ثلاث مجلات الجيل وهي وآخر ساعة
ومصطفي امين سيد العارفين فالجو الصحفي كله كلام.. صنعتنا الكلام و الاخبار .. والاخبار التي ليست صحيحة و ما اكثرها فإننا نفبرك غيرها من الحكايات و النكت والشائعات و علي الرغم من أن الكلام صنعتنا فاننا نضيق بالكلام انتاجا و استهلاكا واستيرادا و تصديرا.
وكان شارلي شابلن يندهش من سلوكيات الناس و كان يقول اننا نفزع من منظر الدم مع انه يجري في عروقنا!
فكيف نفزع من الكلام الذي يجري حبرا أسود في عروقنا وبنزينا في أنوفنا!
وفجأة دعاني مصطفي أمين إلي مكتبه وسألني:
- عاوز أرشح لك كاتبا ناشئا ليكتب عنك..
- يسعدني.. يا مصطفي بيه.
- ألا تسأل من يكون؟
- يكفي أنك رشحته .. من هو يا ستاذ؟
- قال: أنا..
- ياه .. شرف لنا يا مصطفي بيه .. متي يكون أول مقال؟
- يا شيخ بضحك معاك!
- تصور يا مصطفي بيه .. مصطفي أمين واحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وإسماعيل فهمي ومذكرات الرئيس السادات .. انها صواريخ تدفعنا إلي فوق إلي مدار حول الأرض .. في السماء .. وفي إحدي حفلات ميلاد مجلة اكتوبر جاءنا مصطفي أمين وجلس إلي تلامذته من أخبار اليوم .. فأكثر شباب مجلة أكتوبر كانوا في آخر ساعة.. السكرتارية كلها من آخر ساعة . والباقون من الأخبار .. ولم يشعر بأنه غريب عنا .. ولا نحن غرباء عنه. ثم قال كلاما أسعد الرئيس السادات عندما نقلت إليه كلام مصطفي أمين لنا جميعاّ : لا شئ يدل علي حرية الصحافة في مصر إلاما تنشره مجلة أكتوبر من مقالات في غاية الجرأة.. ولم يشأ مصطفي أمين أن يشير صراحة إلي مقالات إحسان عبد القدوس التي عنوانها بعلي مقهي في الشارع السياسي«.. ففي هذة المقالات كان إحسان يهاجم سياسة مصر، وسياسة الحكومة، وسياسة الرئيس السادات ..
ولم يحدث مرة واحدة- أن قلت ل إحسان عبد القدوس : اكتب شيئا ذ أو احذف شيئا.. أو نقلت اليه شكوي رئيس الوزراء، وقيادات الحزب، الذين يهاجمون احسان بمنتهي السخرية والقسوة، أو السخرية القاسية، أو القسوة الساخرة.. كل أسبوع..
حتي إحسان عبد القدوس انزعج وشكاني إلي بعض الأصدقا . وإلي زوجتي، وقال: ان أنيس يريدني أن أدخل السجن، فهو لم ينبهني مرة واحدة إلي ما أكتبهش ومدي العنف الذي في كل عبارة..
ثم سألني احسان عبد القدوس في عشاء عنده، وكأنما اراد ان يورطني أو يجعل عددا من الأصدقاء يشهدون علينا.. فبعد العشاء سألني: أريدك ان تجاوبني امام الجميع: لماذا تتركني أكتب ما أكتب دون أن تحذرني من غضب الرئيس السادات ؟
وأقسمت لإحسان عبد القدوس صادقا : ان الرئيس السادات لم يغضب مرة واحدة.. ولا راجعني في هذا الذي تكتبه . ولا طلب مني أن ألفت نظرك. صحيح رئيس الوزراء اشتكي وأمناء الحزب، والوزراء.. ولكني أعتقد أنك سيد المحللين السياسيين في مصر .. وأن الذي تكتبه أكبر دليل علي حرية المجلة وحرية الصحافة .. فإن لم يكن الذي تكتبة نوعا من المعارضة داخل الحزب، فأنت كاتب حر! وإحسان عبد القدوس مثل مصطفي أمين: سيئ الظن بالناس. حتي بأصدقائه .. أو خصوصا ّبأصدقائه!
حاكموا أنيس أولا
وقرأت حديثا لإحسان عبد القدوس في مجلة الحوادث اللبنانية يقول فيه :(أنا أكتب والسلام .. ولا أعرف أين يقع أو يذهب كلامي .. وإذا دخلت السجن أو اغتالني أحد ف انيس منصور هو المسئول.. لأنه استدرجني لأن أقول كل ما يخطر علي بالي ، دون ان يحذرني وانا اعرف عبد الناصر، والسادات.. عبد الناصر دغري.. إذا لم يعجبه كلامي وضعني في السجن ، او يرسل واحدا يضربني بالرصاص .. أما السادات ففلاح وباله طويل.. وقد اعتاد الفلاح المصري إذا اراد أن يقتل احدا ان يختفي في حقول الأرز أو القصب.. اعتقد ان السادات الآن في حقول القصب .. لأن عبد الناصر زعيم واضح و السادات رجل متآمر.. فعلي الرغم من انه اصبح رئيسا للدولة ، فهو يتصرف كواحد لم يصل بعد الي السلطة ولذلك فهو يسكت ويصبر، ثم ينقض بعد ذلك .. وقد اوصيت زوجتي اذا حدث لي شيئا فليحاكموا انيس منصور اولاّ )!
وقلت لإحسان عبد القدوس :
- اولاّ انا الذي طلبت اليك ان تكتب ولا تزال تكتب ذ وان كان يحزنني ذلك. وليس من المعقول ان اسكت عنك والسادات ضدك وكذلك أجهزة الدولة ، كل هذه الفترة الطويلة لم تتعرض لك.. فليس اسهل من ان يعتقلوك في اي وقت.. وهذا مالم يحدث ولن يحدث!
وشكوته الي يوسف السباعي:
انني تعبت طول عمري مع احسان انه يريد ان يكون مدللا معظم الوقت فاذا كتب لابد ان تضرب له تليفونا، وتقول يا حلاوتك.. يا جمالك.. يا عظمتك.. ولا تكتفي بالتليفون وانما يجب ان تزوره مع طلوع كل مقال.. وانا لم استطع.. وأنت لن تستطيع ..
وقال لي السباعي:
-لا تسأل فيه ذ احسان دلوعة ودلعه بايخ .. اسمع قل له ان الرئيس السادات طلب منك ان اكتب أنا بدلاّ من احسان.. هاها.. هاها.. تعرف لو حصل، سوف يلعن اجدادي أنا.. ويري أنني الذي تآمرت عليه.. وسوف يحذرك مني ايضاّ.. هاها.. هاها...
وفوجئت بمصطفي أمين يقول لي :
- ايه حكاية يوسف السباعي ؟
- هل طلب الرئيس أن يكتب يوسف بدلاّ من احسان ؟
- ابدا دي نكتة..
- لا مش نكتة.. احسان قاعد قدامي اهوه..
- نكتة .. والله زي نكتك يا مصطفي بيه!
- وأذكر أن الرئيس حسني مبارك طلبني في ساعة مبكرة ، وقال لي :هل قرأت ماكتبه إحسان ؟
- ايوة ياريس
- هل يعجبك مثل هذا الكلام؟!
- لا ياريس
- ولا أنا.. إنني أتكلم باعتباري مواطنا مصريا.. وأري ان الذي كتبه احسان عبد القدوس فيه مغالطة، وفيه اضرار بالوطن .. وانه يعطي صورة وحشة جدا بقلم كاتب كبير.
-طيب ياريس تحب ألفت نظر احسان ..
-لا... أرجوك .. هو حر يكتب مايمليه عليه ضميره .. أرجوك لاتقل إنني غير راض عن الذي يكتبه ..
- حاضر ياريس..
- شكرا..
- .............
ولم أقل لإحسان عبد القدوس أن الرئيس حسني مبارك غير راض عما يكتبه حتي لا يظن بي الظنون!!
أغرب أسرار إحسان
ويبقي سر من أغرب أسرار إحسان عبدالقدوس!
سر بدأ في عام 1951 واستمر حتي عام 1991!
في عام 1951 شن إحسان عبدالقدوس حملته الشهيرة التي كشفت للرأي العام المصري والتاريخ المعاصر فضيحة الأسلحة الفاسدة التي تعاقد عليها القصر.. وقتها حاول أحد الباشوات المتهمين في الفضيحة أن يغتال إحسان.. دبّر خطته التي أوكل تنفيذها إلي بعض البلطجية ليفاجئوا إحسان عبدالقدوس في الظلام.. وينهالوا ضرباً بالسكاكين علي رأسه ويلوذوا بالفرار.. لكن السماء تكتب نجاة إحسان بمعجزة!..
وفي عام 1991 يكتشف أطباء أوروبا أن مرض إحسان يرجع إلي إصابته في رأسه منذ عشرات السنين.. مما ترتب عليه ورم خبيث في رأسه.. ويؤكد تقرير الأطباء أن إحسان لن يعيش أكثر من ستة أشهر!
يعود إحسان إلي القاهرة..
وبعد ستة أشهر يدخل في غيبوبة..
وفي اليوم الخامس عشر من انتهاء مهلة الستة أشهر يلقي إحسان عبدالقدوس ربه!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.