لم تكن تجاوزت ال17 عاماً حين شاهدتها لأول مرة السيدة فاطمة اليوسف في إحدي المناسبات العائلية عام ,.1952 واستمعت إلي حوار بينها وبين إحسان عبدالقدوس تناقشه في رواياته وتسأله عن روايتي صانع الحب وبائع الحب وتستنكر أن يصنع الحب أو يباع.. تعجبت السيدة فاطمة اليوسف من الفتاة الصغيرة اللبقة متفتحة العقل.. وتسألها لو تعمل معها في مجلة روزاليوسف. وكان علي الصغيرة مديحة عزت في ذلك الوقت الطالبة بالمدرسة الثانوية أن تحصل علي موافقة والدها الذي تربطه علاقة صداقة بالسيدة فاطمة اليوسف ولم يستطع أن يرفض لها طلبا. تتحدث مديحة عزت عن أول مرة دخلت فيها مؤسسة روزاليوسف.. وتقول: كنت أرتدي ملابس المدرسة لأن السيدة فاطمة اليوسف كانت تأتي بسيارتها لتأخذني من المدرسة إلي المجلة.. وكان إحسان عبدالقدوس في ذلك الوقت رئيس التحرير وفاطمة اليوسف رئيس مجلس الإدارة.. أول مرة دخلت مكتب إحسان أدهشتني الفوضي التي يتسم بها وأكوام الكتب والأوراق والكراكيب التي يزدحم بها مكتب هذا الأديب والمفكر الذي طالما أعجبت به، وعشقت رواياته.. فإذا بي أجدني أمام رجل هادئ رقيق كان أشبه بطفل صغير في تلقائيته وصدقه.. وشعرت بمسئولية تجاهه منذ اليوم الأول لدخولي مكتبه، وقمت بقلب مكتبه رأساً علي عقب وإعادة ترتيبه وتنظيمه، وكان إحسان سعيداً بما فعلته. - هل كان يستشيرك في رواياته؟ - نعم كثير من الروايات كتبها عن حكايات قصصتها عليه، فكان أول ما يفعله حين يحضر إلي مكتبه أن يستمع إلي حكاياتي اليومية، وكثيراً ما خرج منها بقصص قصيرة وروايات، وأذكر من عاداته الرائعة بعد وصوله للمؤسسة أن يخلع جاكتة بدلته، وفي جيبها بعض النقود، فيأتي الزملاء ليقترضوا مني فآخذ من جيب إحسان وأعطيهم، وأخبره بعد ذلك ويضحك حينما لا يجد فائضاً لشراء سجائره. - - وفي يوم كان الرسام الزميل جمال كامل قد اقترض مني جنيهين فأخذتهما من جيب إحسان وأعطيتهما له.. وبعدها بأيام جاء لردهما فأخبرته أنهما من نقود إحسان.. ولكنه أصر أن يردهما وحين أخبرت إحسان قال لي إنهما من نصيبك. - وماذا عن بطلات قصصه.. وهل كان لهن وجود حقيقي في الواقع في حياته؟ - -معظم بطلاته حقيقيات.. فيأخذ إحسان بعضا من الحكاية ويكملها من خياله.. وبعد كل قصة تصدر له.. يأتي إلي المكتب العديد من الفتيات كل منهن تدعي أنها بطلة الرواية.. في حين أنني كنت أعرف البطلات الحقيقيات.. حتي أن الممثلة كريمة فاتنة المعادي وزوجة المطرب الراحل محمد فوزي ادعت أنها بطلة رواية النظارة السوداء في حين أن إحسان لم يرها في حياته، وبطلة الرواية الحقيقية اسمها كوليت وهي فتاة مصرية صاحبة محل ورد. - - أما بطلة رواية الخيط الرفيع فكانت أقرب لشخصية ناهد رشاد زوجة الدكتور يوسف رشاد. وبطل قصة شيء في صدري أحمد عبود باشا حيث كان يملأه الحقد تجاه موظف صغير لديه قيم ومبادئ، ورواية أين عمري؟ كانت بطلتها إحدي قريباته. وليس صحيحاً أن الدكتور هاشم فؤاد هو بطل رواية أنف وثلاث عيون، بل هو طبيب آخر كان صديقاً لإحسان عبدالقدوس وعاش حياته دون أن يتزوج. ؟ ما الموقف الذي لا ينسي بين إحسان ومعجباته؟ - أتذكر جيداً فتاة سورية وهي العين الثالثة في روايته أنف وثلاث عيون، هذه الفتاة كانت تريد أن تستغل إحسان لتهريب حقيبة بها بعض الممنوعات، يومها اتصل بي صفوت الشريف وكان يعمل بالمخابرات، وأخبرني أن أسافر إلي إحسان الإسكندرية وأحذره من الحقيبة التي سوف تعطيها له الفتاة السورية لينقلها معه إلي لبنان، سافرت إلي الإسكندرية في ميامي ووجدته بالفعل مع الفتاة السورية.. وسألني: لماذا جئت وأخبرته أنني في مهمة عمل؟ وبعد أن انصرفت الفتاة.. حذرته من الحقيبة التي تريد منه نقلها وبالفعل وجد بها ممنوعات تريد تهريبها. - - ؟ هل رواية أنا حرة هي بالفعل قصة حياة إحسان عبدالقدوس؟ - - - نعم إنها قصة حياته.. في البداية غضب حين ردد نجيب محفوظ ذلك، ولكنه بعد ذلك اعترف بأنها قصة حياته. - - ؟ وماذا عن علاقته بكبار الكتاب في ذلك الوقت؟ - - - كانت تربطه علاقات جيدة بالجميع، وكان العقاد والتابعي من كبار الكتاب في ذلك الوقت وكذلك توفيق الحكيم ونجيب محفوظ.. ولكنه لم يسلم من حروب بعضهم عليه، وإن كانت حروبا محترمة.. فكان مصطفي أمين دائماً يحاول اجتذاب العاملين بروزاليوسف إلي جريدة الأخبار كما فعل مع الرسام عبدالسميع، وذلك مقابل راتب مضاعف.. وقد حاول ذلك معي.. ولكن عبدالرحمن عوف عامل السويتش في ذلك الوقت كان دائم التنصت علي التليفونات وسمع مصطفي أمين وهو يحدثني فأعطي التليفون للسيدة فاطمة اليوسف التي استمعت إلي المكالمة حين عرض علي مصطفي أمين أن أنتقل للعمل في الأخبار ويضاعف راتبي من 30 جنيها إلي 60 جنيها فأجبته: - - أوافق ولكن بشرط.. أن إحسان عبدالقدوس والسيدة فاطمة اليوسف ينتقلان معي إلي الأخبار، حين سمعت السيدة فاطمة اليوسف المكالمة سعدت جداً ومنحتني مكافأة 10 جنيهات، وظل مصطفي أمين يحترمني ويقدرني حتي وفاته. ؟ وماذا تذكرين من ذكريات إحسان عبدالقدوس مع الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين؟ - - - كان إحسان يحب أحمد بهاء الدين كثيراً، وصمم أن يكون رئيس تحرير صباح الخير وعمره لم يتجاوز حينذاك 29 عاماً.. واعترضت فاطمة اليوسف عليه لصغر سنه وعدم خبرته الكافية بهذا المنصب، وقررت أن تكون هي رئيس التحرير، ولكن كان هناك قانون يمنع أصحاب الصحف من رئاسة التحرير، فاضطرت أن توافق علي أن يصبح أحمد بهاء الدين رئيس تحرير صباح الخير، وبعد ذلك صدق حدس فاطمةاليوسف حين ترك أحمد بهاء الدين صباح الخير ليرأس تحرير جريدة الشعب التي أصدرتها الثورة في ذلك الوقت.. بعد أن اتفقت مع صلاح سالم ضد إسماعيل الحبروك الذي كان مقرراً أن يكون رئيس تحرير الشعب، وجاء ليقابل بهاء الدين ويخطره بالأمر فوجده هو الذي صار رئيساً لتحرير الشعب وأصيب الحبروك بأزمة وغيبوبة بعد خروجه من مكتب بهاء ومات علي أثرها. ؟ وماذا عن علاقته بصلاح جاهين؟ - لم يكن صلاح جاهين في ذلك الوقت معروفاً كشاعر بل كان فنان كاريكاتير متميزاً في روزاليوسف، وأحياناً إحسان يعطيه أفكار الموضوعات ليرسمها ولكن عبدالسميع هو المسئول عن رسم المجلة كلها. - - ؟ إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وأحمد بهاء الدين والدكتور مصطفي محمود هل كانت تربطهم صداقة قوية ويلتقون لقاءً أسبوعياً؟ - - - كان إحسان والسباعي صديقين وأحياناً يدخلان في خلافات طريفة ونزاعات خفيفة الظل علي الستات والمعجبات حيث كان الأدباء في ذلك الوقت هم النجوم الحقيقيين الذين تحلم بهم الفتيات.. وكان إحسان والسباعي معشوقي النساء في ذلك الوقت.. أما مصطفي محمود فكان هو الذي يعشق النساء ويحكي كل يوم لبهاء وإحسان عن عصفورة حدثته في التليفون، حتي أنهما طلبا مني في يوم كنوع من المداعبة أن أقوم بدور معجبة، وأحدث مصطفي محمود، وكنت أحدثه أمام إحسان وأحمد بهاء الدين.. حتي ظن مصطفي محمود أنني معجبة حقيقية وطلب مني الزواج في التليفون، وعندما اعترفت له بالحقيقة غضب مني إلي أن قام الزملاء بالصلح بيننا.. ومن أصدقائنا أيضاً عبدالحليم حافظ.. حتي أنه كان يحضر إلي البيت ويعرف والدي وعندما يطلب كوب ماء ويشرب منه يقول لنا: لا تشربوا ورائي لأنني مصاب بالسل، كان يعتقد أنه مصاب بالسل لأنه يرجع دما.. فذهبت معه أنا وعادل ابن خالتي إلي الدكتور زكي سويدان الذي أكد أن لديه مشاكل في الكبد ومنعه من ثلاثة أشياء وقال له: لا تقرب الخمر.. والدهون ولا الستات. - - ؟ إحسان عبدالقدوس كان له دور سياسي كبير عن طريق مؤسسته روزاليوسف وبصفته مفكرا له آراؤه التي نعتد بها.. فكيف كانت علاقته برؤساء مصر.. ولنبدأ بالرئيس عبدالناصر؟ - - - أستطيع أن أقول إن الثورة قامت من روزاليوسف، وفي عام 1952 حين كنت أعمل سكرتيرة لإحسان كنت أشاهد جمال عبدالناصر وخالد محيي الدين وزكريا محيي الدين ويوسف صديق وأحمد أبوالعلا ومصطفي لطفي مدير إدارة الأسلحة والذخيرة يحضرون كل يوم ويمضون مع إحسان ما يقرب من 3 إلي 5 ساعات. - - وكان السادات يأتي بمفرده إلي مكتب إحسان، وكنت دائمة الشغب معه لأنه كان لا يسلم علي بحفاوة مثل زملائه، بل كان يتحدث بوجاهة شديدة وهو يسألني عن إحسان، وبعد ذلك أصبحنا صديقين، وقد قامت الثورة بعد هذه اللقاءات ب 7 شهور، بعدها حضر السادات إلي مكتب إحسان، وذهبت مع إحسان والسادات إلي مجلس الثورة، وقال السادات: أنت أول سيدة تدخلين مجلس الثورة. - - وظلت العلاقة طيبة بين رجال الثورة وإحسان إلي أن صدر قرار الرقابة علي الصحف في مارس 1954 وبدأ إحسان ويوسف صديق وخالد محيي الدين يطالبون بالديمقراطية والأحزاب، وكتب إحسان ثلاثة مقالات في هذا الشأن، وتم القبض علي إحسان عبدالقدوس وظل 3 أشهر في السجن الحربي، وبعد القبض علي إحسان منعت السيدة فاطمة اليوسف نشر أي كلمة أو حرف عن الثورة ورجالها، حتي أن الثورة أرسلت بعض المتظاهرين يهتفون تسقط الحرية، وكان هتافا عجيبا غريبا غبيا رددوه علي باب روزاليوسف! وكان لقرار فاطمة اليوسف بمنع نشر أي شيء عن الثورة تأثيره الكبير، فجاءها محمد أبونار مدير مكتب صلاح سالم وزير الثقافة والإرشاد في ذلك الوقت ناقلا رسالة قائلا: الريس بيسلم عليك وبيقولك إحسان خارج علي العيد، وبيعتب عليك لأن المجلة لا تكتب أخبارا عن الثورة ورجالها. - - لم تهتم فاطمة اليوسف أو تتراجع عما قررته وخرج إحسان من السجن، وتم إغلاق جريدة المصري وقال إحسان: - لن يستطيع عبدالناصر إغلاق روزاليوسف، وفي ذلك الوقت كان هناك ضابط صغير يعمل في السجن الحربي وصديق لإحسان، وكان يأخذ سيارة إحسان للتنزه بها وأرادوا الانتقام من إحسان فوضعوا له منشورات في سيارته التي كان يقودها الضابط في ذلك الوقت، ورفض إحسان أن يقول إن الضابط أخذ سيارته حتي لا يعرضه للخطر في حين أن الضابط اعترف وقال إن السيارة كانت معه وأنها منشورات مدسوسة علي إحسان! وبعد تأميم روزاليوسف دفع عبدالناصر ما يزيد علي 50 ألف جنيه ثمنا ل روزاليوسف، وترك إحسان كما هو في منصبه. - ولكن بعد إنشاء السد العالي جاء الشيوعيون ليعملوا في روزاليوسف بناء علي طلب روسيا، وجاء أحمد فؤاد رئيس مجلس إدارة وأحمد حمروش رئيس تحرير، وفي ذلك الحين كانوا يتطاولون علي إحسان عبدالقدوس بعد أن طلب منه عبدالناصر أن يكون كاتبا في روزاليوسف بنفس راتبه، ولم يستطع إحسان البقاء في روزاليوسف، وانتقل إلي أخبار اليوم كرئيس تحرير، ويومها قال لي: يعز علي أن أتركك ولا تأتي معي الأخبار، فأنت اسمك مديحة روزاليوسف. - - بعد شهرين من وجوده في الأخبار أعفوه من العمل وصار محمود أمين العالم قائما بأعمال أخبار اليوم فترة صغيرة. وحاول عبدالناصر مصالحة إحسان مرات عديدة وإحسان يرفض حتي أنه لم يكن يرد علي تليفونات جمال عبدالناصر ويطلب مني أن أقوم بالرد وأخبر جمال عبدالناصر بأن إحسان غير موجود، وسافر إحسان إلي الإسكندرية هربا من هذه المشكلة، فأرسل لي عبدالناصر مدير مكتبه وقال لي عبدالناصر يطلب منك أن تذهبي للإسكندرية وتعودي بإحسان لأنه يسمع كلامك، لكن إحسان رفض وذهب إليه عبدالناصر بنفسه إلي الإسكندرية ليصالحه وشاهد معه في برج العرب فيلم زوربا اليوناني، ولم تدم العلاقة طيبة بين عبدالناصر وإحسان، حيث إن هيكل كان يقوم بأدوار وأنشطة تفسد العلاقة بين عبدالناصر وإحسان، وكثيرا ما أضر هيكل ب روزاليوسف. - وظلت العلاقة سيئة بين عبدالناصر وإحسان منذ 1954 وحتي وفاة عبدالناصر. وطلب السادات إحسان وقال له أنه سيفرج عن محمد عبدالقدوس، لكن إحسان رفض وقال أن علي ابنه أن يتحمل مسئولية أعماله وأفكاره وانتمائه للإخوان، وكان السادات يحرص علي مجاملة إحسان عبدالقدوس في كل المناسبات، ويحرص علي حضور عيد ميلاد إحسان في بيته. - ومن الطرائف التي أتذكرها حين قابلت السادات في شارع عبدالخالق ثروت في طريقه إلي سويلم الترزي الخاص به، وكان وقتها رئيس جمهورية وأحيانا يحب أن يتمشي بنفسه وسألني علي فين؟ وأخبرته أنني أبحث عن هدية أشتريها لإحسان في عيد ميلاده، فقال السادات: سأرسل لك هدية جميلة، وأرسل لي كوفية وكرافت وأخبرني أنهما من فرنسا، وذهبت إلي إحسان في عيد ميلاده وتقدمت إليه لأعطيه هديتي، وكان السادات يقف بجواره وحين فتح هديتي وشاهدها أبدي دهشته وقال إن هذه هديتي للرئيس السادات قد أهديتها إليه من قبل، وضحك السادات وضحك إحسان، واتضح أن السادات قد نسي أن هذه هدايا إحسان وأعطاهما لي دون قصد لأهديهما لإحسان مرة أخري! - ؟ وماذا عن علاقته بالرئيس مبارك؟ الرئيس مبارك يقدر إحسان كثيرا، وحصل إحسان في عهده علي الكثير من جوائز الدولة.؟