دخل أنيس منصور قلب الكعبة عشر مرات.. أربع مرات خلف الملك فيصل.. وأربع مرات وحده.. ومرة وراء الرئيس السوداني جعفر نميري.. ومرة وراء الرئيس السادات وبأسلوبه الرائع ترجم أحاسيسه في كتابه »طلع البدر علينا« .. بنفس تذوب شوقا إلي الحب الإلهي.. وبروح تتوق إلي السمو الروحي.. إن حروف الكتاب مغلفة بالصوفية.. ثم أعقب ذلك كتابه »الخالدون مائة أعظمهم محمد«. وكان لدي أنيس منصور أمل كبير أن يكمل مذكراته عن السلام.. أو كتاب »النيل لايصب في القدس«.. لقد سجل الكاتب الراحل أكثر من 004 ساعة من الحوار مع الرئيس السادات.. كشف فيها السادات أسرارا كثيرة.. وقال رأيه بوضوح في شخصيات سياسية مهمة علي الساحة المصرية والعربية والعالمية... إضافة إلي ذلك أن أنيس منصور نفسه قام بدور مهم لتحقيق السلام بين مصر وإسرائيل.. وهذا ما تحدث به الرئيس الإسرائيلي لوفد مجلس الشوري أثناء مقابلته لهم في القدس برئاسة د. محمود محفوظ، حينما سأل: أين أنيس منصور؟.. ثم قال: يوم يكتب التاريخ ستعرفون ماهو الدور الهام الذي قام به أنيس منصور لتحقيق السلام بين مصر وإسرائيل. وقد كشف أنيس منصور في بعض ماكتبه بعض تفاصيل ماتحويه الأشرطة التي سجلها مع السادات.. لكن ظل الجزء الأهم والأخطر مرهونا كشفه بموافقة أجهزة سيادية. وقد داهم الموت كاتبنا الكبير .. وقد علمت من الراحل الكبير أنه قد انتهي من كتابة الأسرار التي تحويها الأشرطة التي بحوزته.. وقد استأذن الجهات السيادية في نشرها.. ولكن طلب منه تأجيل ذلك.. فمتي تري هذه الأسرار طريقها إلي النشر.. ولا تسقط في هوة النسيان.. لأنها جزء مهم من تاريخ مصر؟ مشوار الكاتب الصحفي الكبير أنيس منصور في بلاط صاحبة الجلالة يمتد لأكثر من ستين عاما.. وبالتحديد أربعة وستون عاما، منذ بدأ خطواته الأولي عام 7491 في جريدة »الأساس«. ولقد دخل أنيس منصور إلي عالم الصحافة من الباب الضيق، فقد كان ينشر قصصا مترجمة في الصفحة الأدبية، ثم أصبح المحرر الأدبي لجريدة الأساس، فجمع بين تحرير الصفحة الأدبية وكتابة القصة القصيرة دون أن يظهر اسمه.. وقد اختفي خلال هذه السنوات وراء أسماء مستعارة مثل »سلفانا ماريللي«، و»أحلام شريف«.. و»مني جعفر«.. و»هالة أحمد«.. و»صلاح الدين محمد«. دخل أنيس منصور بلاط صاحبة الجلالة حين كان العظماء والأفذاذ والمترددون عليها من الموهوبين النابغين أمثال : محمد التابعي ومصطفي أمين وعلي أمين، وعباس العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم والمازني.. والصحافة آنذاك هي الكوكب الدري الذي يملك أدوات تشكيل الرأي العام بلا منازع.. والكلمة المكتوبة كالطلقة المدوية في فضاء ساكن لايغفلها أو يتغافلها أحد.. لم تكن هناك فضائيات ولا أرضيات.. ولكن صفحات راسخة بمقالات الأعلام والقمم. بلاط صاحبة الجلالة كما تري الباحثة والكاتبة سهير حلمي كان هو المكان الملائم الذي لم يسع إليه أنيس منصور.. فهو علي حد تعبيره »صحفي بالصدفة«.. ولكن الصحافة آنذاك استوعبت مواهب الأديب الفيلسوف المتفجر طاقة وحيوية وإبداعا من خلال تلك الشمولية التي تتسم بها صفحاتها.. لكنه ظل حريصا علي ألا تبتلعه تروسها ووطأة ضغوطها.. وكان له ما أراد وأعطته الصحافة كل ما يتمناه أي أديب من الشهرة والتقدير. وخلال مسيرته الصحفية الطويلة، حرص علي أن يبدو دائما جديدا لافتا أو »نيولوك« في كل حواراته مع المشاهير والعظماء والزعماء والفلاسفة أمثال: »الدلاي لاما« الزعيم الروحي للتبت، وشاه إيران محمد رضا بهلوي، والرئيس السادات، والأديب العالمي سومرست موم والفيلسوف مارتن هيدجر، وأم كلثوم ورياض السنباطي وغيرهم.. وخلال مشواره الصحفي تبني مئات القضايا العامة والإنسانية.. وإليه يرجع الفضل في إلغاء كلمة »لقيط« من شهادة الأطفال اللقطاء، حينما قام بزيارة لملجأ أيتام وتعلق طفل صغير بيده وعلم من إدارة الملجأ أنهم يسجلون الأطفال في شهادة الميلاد بتلك الوصمة الأبدية. المجد.. في أخبار اليوم ثم انتقل أنيس منصور من جريدة »الأساس« إلي »الأهرام« في عام 0591 ولم يكن مسموحا له بالتوقيع علي موضوعاته لتقاليد »الأهرام« شديدة الصرامة.. وقبل صدور جريدة »الأخبار« اليومية في عام 2591 ركز صاحباها: مصطفي وعلي أين علي الدعاية المكثفة للمولود الجديد.. وتنبأ الجميع بأن تكون »الأخبار« قنبلة التوأم الجديدة.. وقد أغري ذلك أنيس منصور لينضم إلي قلعة »أخبار اليوم« في سنة 2591 قبل صدورها بأيام، ولقد شجعه علي ذلك كامل الشناوي الذي قرر هو الآخر أن يكون إلي جوار مصطفي وعلي أمين في مشروعهما الجديد. كان أنيس منصور منذ تخرجه في كلية الآداب قسم الفلسفة عام 7491 يعمل بالصحافة كهاو.. فقد عين معيدا بقسم الفلسفة بآداب عين شمس من سنة 0591 إلي سنة 5591.. كان يمارس نشاطه الصحفي بين الترجمة وكتابة المقالات الأدبية والفلسفية.. وفي عام 4591 استقال من وظيفته بالجامعة ليتفرغ للعمل بالصحافة في أخبار اليوم. وقد بذل أنيس منصور في الصحافة والأدب جهدا كبيرا.. وبانتقاله إلي »الأخبار« عرف الأخوين علي ومصطفي.. وتبين امتيازه فصعد السلم الصحفي سريعا، فنجده وهو بعد في طليعة الشباب رئيسا لتحرير مجلة »الجيل الجديد« ثم رئيسا لتحرير مجلة »هي« ثم رئيسا لتحرير مجلة »آخر ساعة« في يوليو 1791. وتولي رئاسة تحرير عشر صحف ومجلات من عام 0691.. حتي عام 8991. وقد أمضي في دار أخبار اليوم 22 عاما صنع خلالها المجد والشهرة.. منها ست سنوات رئيسا لتحرير »آخر ساعة« من منتصف عام 1791 إلي عام 6791.. وهو إلي جانب ذلك أهم وأشهر كاتب عمود في الصحافة اليومية المصرية والعربية في »الأهرام، والأخبار، والعالم اليوم، والشرق الأوسط اللندنية، والشرق القطرية.. إلي جانب كونه كاتبا للمقالات الأسبوعية في »أخبار اليوم« و»أكتوبر« وكل الناس واليقظة الكويتية، وأساهي اليابانية«.. ومقالات شهرية في المجلات الشهرية وأهمها الشباب بالأهرام. إصدار مجلة أكتوبر لقد حقق أنيس منصور نجاحا عمليا وإنسانيا منقطع النظير في مهمته الشاقة كرئيس تحرير في المجلات التي رأس تحريرها في الجيل وهي وآخر ساعة. ولقد فوجئ أنيس منصور، وكان عائدا مع الرئيس السادات بالطائرة قادمين من السعودية إلي القاهرة وكان وقتها رئيسا لتحرير آخر ساعة بسكرتير الرئيس السادات يدعوه إلي لقاء مع الرئيس في كابينته.. وبادره الرئيس السادات قائلا: »أنا عازوك تطلع مجلة 6 أكتوبر يا أنيس«. ومنذ تلك اللحظة انتهت علاقة أنيس منصور كرئيس تحرير بمجلة آخر ساعة والتي استمرت ست سنوات شهدت خلالها آخر ساعة تطويرا شاملا في التحرير والإخراج والتبويب، وشهدت جهدا شاقا من رئيس تحريرها أنيس منصور لتصبح المجلة الأولي في العالم العربي ويصل توزيعها المعتاد إلي أكثر من مائتي ألف نسخة..وفي بعض الأعداد الخاصة يصل التوزيع إلي ربع مليون نسخة.. كان أنيس منصور مؤمنا بالشباب ففتح أمامه الأبواب ليعمل بأقصي جهده وطاقته.. وكان يجيد تقدير قدرات كل من يعمل معه، ومن هنا جاء تكليفه للمحررين بما يتناسب وقدراتهم وثقافتهم، ثم يضيف إلي العمل من خبراته الكثير ثم تأتي عناوينه غير التقليدية وغير المسبوقة في تاريخ الصحافة المصرية والعربية.. ومن حسن حظ أنيس منصور أن تصادف أن إحسان عبدالقدوس كان رئيسا لمجلس إدارة أخبار اليوم في تلك الفترة، فقد قدم له كل العون والمساعدة لتنطلق آخر ساعة وتصبح المجلة الأولي في العالم العربي.. فقد كان مؤمنا بموهبته وثقافته وقدرته علي التجديد والإبداع.. فإحسان عبد القدوس هو أول من بشر بموهبة أنيس منصور وكان ذلك عندما قدمه إلي قراء مجلة روز اليوسف عام 2591 مبشرا بأديب واعد علي غرار عبارة »موتسارت« عن »بيتهوفن« : انتطروا هذا الفتي إنه سيملأ الدنيا موسيقي وضجيجا ذات يوم.. فقد تنبأ إحسان عبدالقدوس بهدا »الكوكتيل المنعش« الذي أخاف أنيس منصور ووصفه بالصعود المفاجئ الذي تدور منه الرؤوس قائلا: »منتهي الكرم والتشجيع من إحسان عبد القدوس«. ففي عبارة جامعة لهذه التوليفة الأدبية الجديدة كتب إحسان عبد القدوس يقول: »انتظروا هذا الأديب الشاب فهو خليط من سارتر والعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم«. وقد صدقت نبوءة إحسان عبد القدوس وانطلق أنيس منصور يحلق في الآفاق ويصنع مجده بأفكاره المتجددة وأسلوبه الذي تتميز جملته الصحفية بالرشاقة والخفة والأبهة والأناقة والشياكة.. إنها البساطة المذهلة. ومن غير شك فإن الفلسفة أعطت أنيس منصور كل الأعماق والآفاق، والقدرة علي النفاذ والتحليل والاستيعاب.. أي أنها أعطته باختصار طريقة مميزة في التفكير والتناول حتي أصبح أسلوبه متفردا يعرفه قراؤه حتي لو لم يوقعه باسمه.