فى اليوم الذى وصل فيه الصاروخ الروسى إلى القمر، مدشنا عصرا جديدا فى المعرفة والعلم والقوة، وسباقا خطيرا على احتكار المستقبل، اتفقت جريدة الأهرام مع الروائى الكبير نجيب محفوظ صاحب الثلاثية الشهيرة على نشر روايته الجديدة «أولاد حارتنا». ومنحت الأهرام مكافأة قدرها ألف جنيه للمرة الأولى لكاتب مصرى على نشر عمل إبداعي، وهو مبلغ يمثل قفزة نوعية فى أجور الكتاب حينها. وقالت الأهرام فى خبر نشرته بالصفحة الأولي، تحت عنوان «الأهرام ينشر قصة نجيب محفوظ الجديدة» : «اتفقت الأهرام مع نجيب محفوظ كاتب القصة الكبير على أن ينشر له تباعا قصته الجديدة الطويلة. إن نجيب محفوظ هو الكاتب الذى استطاع أن يصور الحياة المصرية تصوير فنان مقتدر مبدع، ولذلك فإن قصصه كانت حدثا أدبيا بارزا فى تاريخ النهضة الفكرية فى السنوات الأخيرة. ولقد وقع الأهرام مع نجيب محفوظ عقدا يصبح للأهرام بمقتضاه حق النشر الصحفى لقصته الجديدة مقابل ألف جنيه. والأهرام لا يذكر هذا الرقم وهو أكبر مبلغ دفع فى الصحافة العربية لقصة واحدة تفاخراً أو «دعاء، وإنما يذكره ليسجل بدء عهد جديد فى تقدير الإنتاج الأدبي». وكان نشر تلك الرواية أشبه بوصول صاروخ إلى القمر، فى مسيرة الروائى الكبير، فقد فتحت هذه الرواية الكبيرة الطريق أمام محفوظ إلى جائزة نوبل.. وكأن القدر اختار تلك اللحظة الباهرة فى عمر الإنسانية ليكون يوم بداية علاقة الأهرام بالأستاذ نجيب ونشر روايته العميقة التى تحكى فى ثوب روائى قصة الإنسانية ورحلتها من التراث الروحى الغيبى إلى العلم، مرورا بتاريخ الدين, طارحة على طمى ضفافها قضايا السلطة والطغيان باسم الدين، وكاشفة بعمق الحكمة وبصيرة الرائى تلك العلاقة الأبدية بين الحرافيش والفتوات، بين العامة والسلطان، وهى «التيمة» التى سيكررها محفوظ بعد حوالى عشرين عاما من كتابة أولاد حارتنا فى رائعته الحرافيش . ويرى الكثير من النقاد أن الحرافيش نسخة غير ملغومة بأسئلة تمثل الرموز الدينية وتفسير جمالى لأولاد حارتنا وتنويع على اللحن الفنى والفلسفى لتيمة الرواية: علاقة العامة بالسلطة وعلاقتهما معا بالدين والعلم. فنجيب محفوظ من الروائيين الذين امتلكوا مشروعا أدبيا يتكيء على قيم معرفية وإن لم تظهر بوضوح فى أعماله، فقد استفاد من التجارب الروائية العالمية وهضمها وقدم رؤيته المصرية فى أعمال كبيرة ولم يبتعد عن الفلسفة والتحليل النفسى كثيرا فى أعماله. وليست هذه المقالة مجالا لتقديم رؤية عميقة عن استفادة محفوظ بالعلوم الإنسانية والفلسفات الدينية والفكرية. بل هى عن لحظة دخول الأهرام من بوابة الرواية فى أواخر الخمسينيات, لنطرح السؤال الذى طرح من قبل: هل غير محفوظ قناعاته الفكرية الليبرالية ابنة ثورة 1919 ووريثة الرؤى الوفدية أم أنه دخلها كروائى فقط، وهو فى الرواية غيره فى الكتابة الثقافية والسياسية. ففى الرواية يمكن أن نسميه كاتبا تقدميا, سواء على مستوى الطرح الاجتماعى والواقعى لرواياته فى الثلاثية او فى مرحلة الستينيات عبر اللص والكلاب وميرامار وثرثرة فوق النيل, أو فى رواياته ذات المنحى الفلسفى والوجودى مثل أولاد حارتنا والشحاذ والطريق وحضرة المحترم- التى قدم لها الناقد المعروف جورج طرابيشى دراستين من زاويتين مختلفتين فى كتابه الرائع «الله فى رحلة نجيب محفوظ». ولكن الدخول الرسمى لنجيب محفوظ ككاتب من كبار كتاب الأهرام كان مع عصر السادات وانتهاء ما يمكن تسميته بالحقبة الاشتراكية. وفى هذا الدخول كان محفوظ يكتب مقالات ثقافية فى ملحق الجمعة كما كان يكتب مقالا صغيرا كل خميس ولكن الكتابة السياسية لمحفوظ تحتاج إلى وقفة أخري. صخب البداية كانت لحظة البداية صاخبة للغاية، حيث كان صوت الرواية أعلى من صوت كاتبها.. صحيح أن محفوظ كان روائيا كبيرا عندما نشر رائعته أولاد حارتنا، فقد قدم قبلها فى منتصف الخمسينيات ثلاثيته الشهيرة (انتهى من كتابتها فى أواخر الأربعينيات) التى دفعت به إلى مصاف الكتاب الكبار، إلا أن أولاد حارتنا جاءت بعد فترة صمت عن الإبداع ، بعد ثورة يوليو 1952. وقرر فيها محفوظ أن يسكت عن الكتابة ، ليفهم ما يجرى على السطح، سواء فى المشهد السياسى أو المشهد المجتمعي. وبعد ما طال صمت قطعه نجيب بالعمل فى السينما، قرر الروائى الكبير أن يكتب روايته التى حيرت النقاد..حيث رآها البعض قراءة للمشهد السياسى ونقدا جماليا بالغ الدلالة للمرحلة الناصرية فى الخمسينيات، وتساءل البعض : هل كان نجيب محفوظ يقول كلمته بطريقته المراوغة احتجاجا على اعتقال أصحاب الرأي، أم أن الرواية أكبر من ربطها بمشهد أو لحظة.. فهى الرواية التى يقول كثير من النقاد إن محفوظ أعاد كتابتها فى سفر بشرى خالص هو الحرافيش لم يخل من دلالات ميتافيزيقية, فيما رآها البعض قراءة فلسفية عميقة للكون والوجود وتاريخ العالم، وسفرا إبداعيا يضع العلم والدين فى صيرورة التاريخ، ويجعل العلم هو الوريث الشرعى الوحيد للدين. الرواية المربكة استخدمت الرموز البشرية وألبستها ثوبا يمكن ان يرى فيه البعض على السطح طيفا من قصص الأنبياء، لكن القصة ليست عن الانبياء فلا يمكن لروائى فذ كنجيب محفوظ ان يضحى بحريته كمبدع وحرية شخوصه ويقيد نفسه بسقف الدين او التأويل الديني. لكن التأويل الدينى قفز الى الواجهة مع بداية نشر الرواية فى الثانى والعشرين من سبتمبر من عام 1959، ما جعل الكثيرين وفى مقدمتهم علماء الأزهر يعترضون على الرواية باعتبارها مساسا بالمقدسات الدينية وتطاولا على الذات الإلهية، خاصة أن الرواية تطرح قضية موت الجبلاوى كتيمة مركزية فى الرواية وأحد مفاتيح فهمها فنيا..وهو الامر الذى فُسر على انه تأثر الروائى بما قدمه نيتشه عن موت الإله. وعندما ثار الجدل وهدد الرواية والروائى بمصير غامض، أصرت الاهرام على نشر الرواية فى حلقات مسلسلة إلى أن تأتى موافقة الأزهر ويتم نشر الرواية فى كتاب مستقل. فقد اتفق الروائى الكبير مع أحد مستشارى الرئيس جمال عبد الناصر آنذاك على ألا ينشر الرواية فى كتاب إلا بعد الحصول على موافقة الأزهر. وهنا قد يتساءل قاريء: لماذا وافق نجيب محفوظ على مثل هذا العقد الشفاهى أو التزم بهذا العهد المجحف بحقه وحق روايته ؟ التفسير الأقرب الى المنطق هو أن نجيب محفوظ بطبعه شخص مسالم، وفى الحياة العامة لا يمتلك جرأة الروائى الفذ التى نراها فى رواياته، وهو آثر السلامة حتى لا يغضب المؤسسة الدينية، وقد عرف فى حياته ماذا فعلت المؤسسة الدينية لمن تجرأ على تقديم رؤى مختلفة. كما أنه ليس فى عداء مع الدين ولا يريد من ناحية اخرى ان يؤكد الاتهام الذى واجهه به علماء الدين وكان حصيفا فى ترك المسألة للزمن الكفيل بالدفاع عن الرواية. المهم فى قراءتنا لتلك اللحظة الفارقة أن الأهرام قدمت نفسها كحصن يدافع عن حرية الرأى والتعبير والإبداع.. واللافت أنها نجحت فى ذلك فى عام اشتهر فى الأدبيات السياسية بأنه الأصعب فى التاريخ المصرى فى قضية حرية الرأي. فقد تعرض كثير من المثقفين والكتاب للاعتقال بتهمة اعتناق الفكر الشيوعي. لكن لحظة أولاد حارتنا تؤسس لعلاقة الأهرام بالإبداع وحمايته وتكريم المبدعين أيا كان الموقف من قضايا الاعتقال فى العام نفسه والصمت على ما جري. والرواية، التى توقف الأهرام عن نشرها عند الخامس والعشرين من ديسمبر من العام نفسه، صارت علامة فى تاريخ الرجل فلم يتم إصدارها فى كتاب بشكل شرعى أو رسمى إلا بعد سنوات طويلة رغم طبعها فى بيروت بقرصنة فكرية وسطو على حق الكاتب الذى لم يصرح بطبعها احتراما لتعهده لجمال عبدالناصر فى انتظار رأى الازهر . وعندما تعرض الروائى الكبير لمحاولة اغتيال من شاب لم يقرأ له حرفا كانت الرواية والاتهام بالكفر الذى جرته على الروائى هما المبرر لدى ذلك الشاب المصري. وهنا سارعت بعض الصحف إلى نشر الرواية. فقد قامت جريدة المساء بنشر حلقة أولى منها واعترض نجيب محفوظ على ذلك وتوقف النشر، ثم طبعتها جريدة الاهالى فى الثلاثين من اكتوبر من عام 1994. إلا أن النشر الرسمى فى كتاب بموافقة نجيب محفوظ قد صدر عن دار الشروق بعد أن قدم لها الكاتب والمفكر الاسلامى أحمد كمال أبوالمجد شهادة أنصفت الرواية. ونشرت الأهرام شهادة ابوالمجد التى صور فيها ما دار من حوار بينه وبين نجيب محفوظ بحضور الكاتب محمد سلماوى وفيه يسأل ابوالمجد محفوظ قائلا : «ويبقى أن نسألك عن رأى عبرت عنه منذ أسابيع قليلة برسالة وجيزة إلى الندوة التى نظمتها الأهرام تحت عنوان «نحو مشروع حضارى عربي» فقد قلت للمشاركين فى الندوة: إن أى مشروع حضارى عربى لابد أن يقوم على الإسلام وعلى العلم, ولقد وصلت رسالتك على قصرها واضحة وصريحة ومستقيمة ولاتحتمل التأويل، ولكن يبقى ونحن معك نسمع لك وننقل عنك أن تزيد هذا الأمر تفصيلا، نحتاح جميعا إليه وسط المبارزات الكلامية التى يجرى فيها مايستحق الحزن والأسف، من ألوان تحريف الكلام وتزييف الآراء والافتئات على أصحابها.. وفى حماسة شديدة, وصوت جهير ونبرة قاطعة, انطلق نجيب محفوظ يقول: وهل فى تلك الرسالة جديد؟. إن أهل مصر الذين أدركناهم, وعشنا معهم, والذين تحدثت عنهم فى كتاباتى كانوا يعيشون بالإسلام, ويمارسون قيمه العليا, دون ضجيج ولا كلام كثير, وكانت أصالتهم تعنى هذا كله, ولقد كانت السماحة وصدق الكلمة وشجاعة الرأى وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس, هى تعبير أهل مصر الواضح عن إسلامهم, ولكنى فى كلمتى إلى الندوة أضفت ضرورة الأخذ بالعلم, لأن أى شعب لا يأخذ بالعلم ولايدير أموره كلها على أساسه لايمكن أن يكون له مستقبل بين الشعوب, إن كتاباتى كلها, القديم منها والجديد, تتمسك بهذين المحورين: الإسلام الذى هو منبع قيم الخير فى أمتنا, والعلم الذى هو أداة التقدم والنهضة فى حاضرنا ومستقبلنا. وأحب أن أقول: إنه حتى رواية أولاد حارتنا التى أساء البعض فهمها لم تخرج عن هذه الرؤية». وفى الخامس والعشرين من ديسمبر نشرت الاهرام حلقة اخيرة من الرواية وذيلتها بعبارة «انتهت القصة». لكن قصة محفوظ مع الاهرام بدأت ولم تنته. فقد كانت له لحظات روائية اخرى فى الاهرام وله لحظة بالغة الاهمية هى يوم فوزه بالجائزة الكبرى فى عالم الأدب ولحظة نشره لآخر ما كتب من إبداع فى مجلة نصف الدنيا. قصة محفوظ مع الاهرام طويلة وعميقة وتحتاج الى دراسات مطولة وتلك قصة أخري.