الحكومة اليابانية تقدم منح دراسية للطلاب الذين يرغبون في استكمال دراستهم    «أنصفه على حساب الأجهزة».. الأنبا بولا يكشف علاقة الرئيس الراحل مبارك ب البابا شنودة    النائب شمس الدين: تجربة واعظات مصر تاريخية وتدرس عالميًّا وإقليميًّا    تراجع عيار 21 الآن.. سعر الذهب في مصر اليوم السبت 11 مايو 2024 (تحديث)    زيادات متدرجة في الإيجار.. تحرك جديد بشأن أزمة الإيجارات القديمة    الزراعة: زيادة الطاقة الاستيعابية للصوامع لأكثر من 5 ملايين طن قمح    «القومية للأنفاق» تعلن بدء اختبارات القطار الكهربائي السريع في ألمانيا    الإمارات تستنكر تصريحات نتنياهو بالدعوة لإنشاء إدارة مدنية لقطاع غزة    بلينكن يقدم تقريرا مثيرا للجدل.. هل ارتكبت إسرائيل جرائم حرب في غزة؟    يحيى السنوار حاضرا في جلسة تصويت الأمم المتحدة على عضوية فلسطين    مجلس الأمن يطالب بتحقيق فوري ومستقل في اكتشاف مقابر جماعية بمستشفيات غزة    سيف الجزيري: لاعبو الزمالك في كامل تركيزهم قبل مواجهة نهضة بركان    محمد بركات يشيد بمستوى أكرم توفيق مع الأهلي    نتائج اليوم الثاني من بطولة «CIB» العالمية للإسكواش المقامة بنادي بالم هيلز    الاتحاد يواصل السقوط بهزيمة مذلة أمام الاتفاق في الدوري السعودي    المواطنون في مصر يبحثون عن عطلة عيد الأضحى 2024.. هي فعلًا 9 أيام؟    بيان مهم من الأرصاد الجوية بشأن حالة الطقس اليوم: «أجلوا مشاويركم الغير ضرورية»    أسماء ضحايا حادث تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    إصابة 6 أشخاص إثر تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    مصرع شاب غرقًا في بحيرة وادي الريان بالفيوم    النيابة تأمر بضبط وإحضار عصام صاصا في واقعة قتل شاب بحادث تصادم بالجيزة    عمرو أديب: النور هيفضل يتقطع الفترة الجاية    حظك اليوم برج العقرب السبت 11-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    رسائل تهنئة عيد الأضحى مكتوبة 2024 للحبيب والصديق والمدير    حظك اليوم برج العذراء السبت 11-5-2024: «لا تهمل شريك حياتك»    بتوقيع عزيز الشافعي.. الجمهور يشيد بأغنية هوب هوب ل ساندي    النجم شاروخان يجهز لتصوير فيلمه الجديد في مصر    رد فعل غريب من ياسمين عبدالعزيز بعد نفي العوضي حقيقة عودتهما (فيديو)    هل يجوز للمرأة وضع المكياج عند خروجها من المنزل؟ أمين الفتوى بجيب    الإفتاء تكشف فضل عظيم لقراءة سورة الملك قبل النوم: أوصى بها النبي    لأول مرة.. المغرب يعوض سيدة ماليا بعد تضررها من لقاح فيروس كورونا    «آية» تتلقى 3 طعنات من طليقها في الشارع ب العمرانية (تفاصيل)    تفاصيل جلسة كولر والشناوي الساخنة ورفض حارس الأهلي طلب السويسري    مران الزمالك - تقسيمة بمشاركة جوميز ومساعده استعدادا لنهضة بركان    نيس يفوز على لوهافر في الدوري الفرنسي    على طريقة القذافي.. مندوب إسرائيل يمزق ميثاق الأمم المتحدة (فيديو)    حكومة لم تشكل وبرلمان لم ينعقد.. القصة الكاملة لحل البرلمان الكويتي    انخفاض أسعار الدواجن لأقل من 75 جنيها في هذا الموعد.. الشعبة تكشف التفاصيل (فيديو)    هشام إبراهيم لبرنامج الشاهد: تعداد سكان مصر زاد 8 ملايين نسمة أخر 5 سنوات فقط    الطيران المروحي الإسرائيلي يطلق النار بكثافة على المناطق الجنوبية الشرقية لغزة    الخارجية الأمريكية: إسرائيل لم تتعاون بشكل كامل مع جهود واشنطن لزيادة المساعدات في غزة    الجرعة الأخيرة.. دفن جثة شاب عُثر عليه داخل شقته بمنشأة القناطر    تراجع أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 11 مايو 2024    حلمي طولان: «حسام حسن لا يصلح لقيادة منتخب مصر.. في مدربين معندهمش مؤهلات» (فيديو)    طولان: محمد عبدالمنعم أفضل من وائل جمعة (فيديو)    رؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية: العدالة الكاملة القادرة على ضمان استعادة السلام الشامل    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    حج 2024.. "السياحة" تُحذر من الكيانات الوهمية والتأشيرات المخالفة - تفاصيل    وظائف جامعة أسوان 2024.. تعرف على آخر موعد للتقديم    جلطة المخ.. صعوبات النطق أهم الأعراض وهذه طرق العلاج    إدراج 4 مستشفيات بالقليوبية ضمن القائمة النموذجية على مستوى الجمهورية    زيارة ميدانية لطلبة «كلية الآداب» بجامعة القاهرة لمحطة الضبعة النووية    لتعزيز صحة القلب.. تعرف على فوائد تناول شاي الشعير    لماذا سمي التنمر بهذا الاسم؟.. داعية اسلامي يجيب «فيديو»    5 نصائح مهمة للمقبلين على أداء الحج.. يتحدث عنها المفتي    بالصور.. الشرقية تحتفي بذكرى الدكتور عبد الحليم محمود    نائب رئيس جامعة الزقازيق يشهد فعاليات المؤتمر الطلابي السنوي الثالثة    محافظة الأقصر يناقش مع وفد من الرعاية الصحية سير أعمال منظومة التأمين الصحي الشامل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستقلال عن السلطة.. المعركة الكبري في حياة محفوظ
نشر في القاهرة يوم 06 - 12 - 2011

عندما أعلن عن فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في 13 أكتوبر 1988 لم يذهب لاستلام الجائزة وإنما أناب عنه من يستلمها (ابنتيه أم كلثوم وفاطمة) وأرسل خطابا الي لجنة نوبل يقدم فيها نفسه الي كل من لا يعرفه فقال فيه "أنا ابن حضارتين تزاوجا في عصر من عصور التاريخ زواجا موفقا أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة وهي الحضارة الفرعونية والثانية هي الحضارة الإسلامية . وعن الحضارة الفرعونية لن أتحدث عن الغزوات الإمبراطورية، ولن أتحدث عن اهتدائهما لأول مرة الي الله سبحانه وتعالي وكشفها عن فجر الضمير البشري .. ولا يوجد منكم من لم يلم بسيرة اخناتون .. بل أنا أتحدث عن انجازاتها في الفن والأدب ومعجزاتها الشهيرة .. الأهرام وأبو الهول والكرنك . وعن الحضارة الإسلامية فلن أحدثكم عن دعوتها الي إقامة وحدة بشرية في رحاب الخالق تنهض علي الحرية والمساواة والتسامح، ولا عن عظمة رسولها ،فمن مفكريكم من كرمه كأعظم رجل في تاريخ البشرية، ولا عن فتوحاته التي غرست آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوي والخير علي امتداد أرض مترامية، مابين مشارف الهند والصين وحدود فرنسا . ولا عن المؤاخاة التي تحققت بين الأديان والعناصر في تسامح لم تعرفه الإنسانية من قبل ولا من بعد . لكن سأقدمها في موقف درامي مؤثر يلخص سمة من أبرز سماتها، ففي احدي معاركها مع الدولة البيزنطية ردت الأسري في مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقي العتيد». هكذا قدم نجيب محفوظ نفسه الي لجنة جائزة نوبل والي جميع الحاضرين في حفل تسليم الجائزة .ومن الخطاب أنه أراد أن يؤكد للحاضرين وغيرهم أن جذوره هي الفرعونية .. فرعونية اخناتون أول من دعي الي التوحيد .. وأن عقيدته الدينية هي الإسلام الذي دعا ايضا الي التوحيد . التوحيد باله واحد لهذا الكون . حياته.. مشوار حياة ولد نجيب محفوظ يوم الاثنين 11ديسمبر 1911، وتوفي يوم الأربعاء 30 أغسطس 2006 . وما بين التاريخين عمر مديد حوالي خمسة وتسعين عاما، وحياه حافلة بالحب والانتماء والصداقة النقية المخلصة وزاخرة بالإنتاج الأدبي الرائع من القصة القصيرة والرواية والمسرحية وسيناريوهات السينما. اسمه الكامل هو نجيب محفوظ عبد العزيز ابراهيم، حيث تعود أصول أسرته الي مدينة رشيد ( محافظة البحيرة ) علي ساحل البحر الأبيض المتوسط شرق الإسكندرية . وقد ولد نجيب محفوظ في حي الجمالية وهو أحد أحياء منطقة الحسين بمدينة القاهرة أو "قاهرة المعز" وقد أمضي طفولته في حي الجمالية الذي استلهم منه أركان رواياته التي كتبها وصعد معها الي آفاق الأدب الانساني. في حي الجمالية، وعندما بلغ نجيب محفوظ الرابعة من عمره، ذهب الي كتاب "الشيخ بحيري" وكان يقع في "حارة الكبابجي" بالقرب من "درب قرمز". وفي عام 1920 وبعد ثورة 1919 بعام، انتقلت الأسرة الي حي العباسية، وهناك التحق بمدرسة بين القصرين الابتدائية حتي حصل علي الشهادة الابتدائية. ثم حصل علي شهادة البكالوريا، «الثانوية العامة الآن» عام 1930 من مدرسة فؤاد الأول الثانوية . وكان والده يأمل أن يلتحق بكلية الحقوق أو الطب . ولكن نجيب محفوظ أخبر والده بأنه سوف يلتحق بقسم الفلسفة بكلية الآداب - جامعة القاهرة فغضب والده من ذلك بالرغم من أنه كان بالقسم العلمي في البكالوريا ومتفوقا في الرياضيات والعلوم . وبعد مناقشات حرة.. وافق والده. كان والد نجيب محفوظ من العاشقين لسعد زغلول وثورته، ولذلك ورث نجيب عن والده حب سعد زغلول، وحب الوفد، حتي أنه عندما مات سعد زغلول وكان عمر نجيب خمسة عشر عاما، اعتبره أفجع يوم في حياته . ولقد ظل حب الوفد يملك قلب ووجدان نجيب محفوظ حتي وفاته بالرغم من انه لم يسجل اسمه في حزب الوفد . وعندما حصل نجيب محفوظ علي ليسانس الفلسفة عام 1934، وقع فريسة لصراع حاد في نفسه بين متابعة دراسة الفلسفة، وميله الي الأدب الذي زاد شغفه به في السنوات الأخيرة من تخصصه في الفلسفة بعد قراءات كثيرة لكبار الكتاب مثل العقاد وطه حسين . وبالرغم من انه قد سجل اسمه للحصول علي درجة الماجستير في الفلسفة قبل أن يتفرغ تماما للأدب لكنه لم يكمل دراساته في الماجستير . وقد بدأ ينشر مقالات وأبحاثاً فلسفية وهو في سن مبكرة جدا أي عندما كان في التاسعة عشر من عمره تقريبا وقد استمر ينشر حتي حلول عام 1945، مترددا بين اختيار الأدب أو الفلسفة حتي استقر تماما علي الإبداع الأدبي، تاركا الفلسفة تتحدث عن نفسها في اعماله الأدبية العظيمة . وقد نشر محفوظ أول قصة قصيرة له بالمجلة الجديدة الأسبوعية الصادرة يوم 3 أغسطس عام 1934 وكانت بعنوان "ثمن الضعف " واستمر في كتابة القصص والروايات حيث بدأ برواية "عبث الأقدار" إلا أن موهبته في فن الرواية تجلت في ثلاثيته الشهيرة التي انتهي من كتابتها عام 1952 إلا أنه لم يستطع نشرها قبل عام 1956 وذلك نظرا لضخامة حجمها. العمل الحكومي بدأ أول أعماله الحكومية في وظيفة رسمية حيث عمل سكرتيرا برلمانيا بوزارة الأوقاف من عام 1938 الي عام 1945، ثم انتقل للعمل بمكتبة الغوري بالأزهر، ثم نقل للعمل مديرا لمؤسسة الفرض الحسن بوزارة الأوقاف حتي عام 1954، ثم عمل مديرا لمكتب وزير الإرشاد ثم مديراللرقابة علي المصنفات الفنية في عهد وزير الثقافة ثروت عكاشة . وفي عام 1960 عمل مديرا عاما لمؤسسة دعم السينما، وفي عام 1963 عمل مستشارا للمؤسسة العامة للسينما والإذاعة والتليفزيون. وفي أكتوبر عام 1966 عين رئيسا لمجلس ادارة المؤسسة العامة للسينما. وظل يعمل بهذه المؤسسة حتي أحيل الي المعاش في عام 1971 . ثم طلبه محمد حسنين هيكل للانضمام الي مؤسسة الأهرام للعمل بها كاتبا متفرغا فرحب محفوظ بذلك، وزامل الكاتب الكبير توفيق الحكيم في حجرته بالدور السادس بالأهرام وهو الدور الخاص بكبار الكتاب والمشاهير. السينما بين عامي 1952 و1959 كتب نجيب محفوظ عددا من سيناريوهات الأفلام السينمائية ولم تكن هذه السيناريوهات تتصل بأعماله الروائية . حيث بدأ بكتابة سيناريو لفيلم باسم " المنتقم " عام 1947. للمخرج صلاح أبو سيف الذي علمه كتابة السيناريو . وانتهي بسيناريو لفيلم " وكالة البلح " اخراج حسام الدين مصطفي عام 1983 . وكان مجموع السيناريوهات التي كتبها للأفلام حوالي 25 فيلما. في عام 1960 بدأت السينما المصرية في اخراج رواياته ومن اعماله الروائية التي تحولت الي أفلام بداية ونهاية، زقاق المدق، الثلاثية وغيرها . ومن الجدير بالملاحظة أن كثيرا من روايات نجيب محفوظ قد ترجمت الي عدة لغات أوروبية منها الفرنسية والإنجليزية والألمانية . وقد زادت هذه الترجمات لرواياته خاصة بعد حصوله علي جائزة نوبل في الأدب عام 1988 . كما أن بعضا من هذه الروايات قد تحول الي أفلام سينمائية أجنبية وخاصة في أمريكا اللاتينية. الزواج تزوج نجيب محفوظ في عام 1954 وهو في سن الثالثة والأربعين وأنجب بنتين هما أم كلثوم وفاطمة والأخيرة تيمنا باسم بنت الرسول واسم والدته . ويقول نجيب محفوظ عن زواجه إنه تزوج خلال توقفه عن كتابة الرواية في فترة البأس الأدبي تزوج وهو يكتب السيناريو للسينما، ومن الممكن أن يكون الفراغ الذي كان يعانيه قد لعب دورا كبيرا في دفعه الي الزواج وإلا فما الذي كان يخيفه من الزواج قبل ذلك . يقول " إنه الأدب ... وكان يناقش نفسه في اليوميات التي كان يكتبها في ذلك الوقت .. متسائلا .. هل أتزوج أم لا؟ .. وكنت أقول إن الزواج سيحطم حياتي الأدبية . وانتهيت الي قرار يرفض الزواج فيما بعد . لكن بعد أن استعدت حياتي الأدبية واستأنفت الكتابة أعتقد ان حياتي الزوجية قد ساعدتني وليس العكس». وقد انتقل نجيب محفوظ بعد زواجه من حي العباسية بالقاهرة الي حي العجوزة بالدقي بالجيزة قريبا من نهر النيل وبجوار مستشفي الشرطة . محاولة الاغتيال في يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994 تعرض نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال علي يد شاب متشدد، لم يقرأ له علي الإطلاق. وذلك بعد خروجه من بيته بالعجوزة ويهم بركوب السيارة حيث طعنه في رقبته بمطواة - وهو يرتعد خوفا - حتي أن الطعنة لم تكن ذات أثر كبير علي نجيب محفوظ. وقد فر الشاب هاربا، وقد تم نقل محفوظ فورا إلي مستشفي الشرطة القريب من منزله ومن موقع الحادث، حيث تم إجراء عملية جراحية له استغرقت حوالي أربع ساعات. كان الشاب الجاني واسمه محمد ناجي قد اعترف في التحقيقات بأنه قد جاءه هو وزملاؤه تكليفا باغتيال الأديب العالمي بزعم مهاجمته الدين الإسلامي في رواية " أولاد حارتنا" ولم نناقش مثل هذه الأمور. فكل ما علينا إطاعة الأوامر وتنفيذها فقط . وهذا هو فكر الإرهاب أو التشدد الديني أو التطرف. وقد أثر الحادث علي قدرة نجيب محفوظ - بعد شفائه - علي الكتابة وعلاقته بمتابعة أمور الحياة إلا عبر الأصدقاء، كما أثر الحادث علي طريقته في الكتابة شكلا ومضمونا. وقد بدأ يملي علي سكرتيره بعض آرائه في أمور الحياة حتي بدأ يملي علي بعض الصحفيين من محبيه وتلاميذه لوحات فلسفية تحت اسم: "أحلام فترة النقاهة" وهي حوالي سبعين حلما بصبغة الصوفية والفلسفة. كذلك أثر علي اجتماعات "شلة الحرافيش" فبدأت تتلاشي هذه الاجتماعات حتي توقفت تماما. الحرافيش كانوا حرافيش الحياة يشغلون فكره وأدبه فأصبحوا أصدقاءه، وذلك في اجتماعات المنتدي الأسبوعي الذي بدأ محفوظ في تكوينه في خمسينات القرن العشرين، حيث أطلق عليه منتدي "الحرافيش" وهم عبارة عن مجموعة من الأدباء والمفكرين والفنانين الذين كانوا يلتقون وينسجون أحلامهم الثقافية والأدبية والفنية التي غيرت الكثير من المعالم الثقافية المصرية. وعلي ذلك.. فالحرافيش كانوا يمثلون حركة فكرية ثقافية متعددة الجوانب. وتعددت أماكن اجتماعاتهم بين المقاهي والكازينوهات ومنزل الكاتب الساخر "محمد عفيفي" في الهرم . وفي مقهي "بترو" بالإسكندرية. ومن الملاحظ أن الحرافيش لم يكن لهم أية توجهات سياسية . وكلمة "حرافيش" كما يقول نجيب محفوظ عنها هي جمع حرفوش وترجع الكلمة الي ايام الفتوات في الحارة المصرية زمان حيث كان الفتوة يخرج مع عصابته في الحارة ويصيح بأعلي صوته "الحارة.. مفيش" وتعني أن الحارة لا يوجد بها أحد.. ثم تحورت الكلمة الي "حارافيش" . ويري الدكتور أدهم رجب الصديق الحميم لنجيب محفوظ منذ أيام الدراسة أن أصل كلمة " حرافيش " جاءت بعد عودة رفاعة الطهطاوي من بعثته الي فرنسا حيث قسم الطهطاوي المجتمع الفرنسي في كتابه "تخليص الإبريزفي تلخيص باريز" إلي طبقتين: اللوردات وLes Apaches التي تم تعريبها الي كلمة "الحرافيش" وهي الكلمة التي اطلقها " محمد عفيفي "الكاتب الصحفي الساخر علي مجموعة الأصدقاء" ومن وقتها وقد عرفنا بالحرافيش". الذين أثروا فيه من المعروف أنه في علم الاجتماع وعلم النفس أنه يوجد مقولة تقول .. إن الإنسان ابن الوراثة والبيئة، ومقولة أخري أو قانون من قوانين علم الاجتماع يقول إن الظاهرة الاجتماعية تؤثر وتتأثر بالظاهرة الاجتماعية الأخري . هكذا كان نجيب محفوظ، فهو ابن الوراثة والبيئة.. حيث تأثر بما ورثه من أسرته وبصفة خاصة من والده ووالدته.. كما تأثر بالبيئة الشعبية التي نشأ وتربي وعاش فيها خلال السنوات الأولي من عمره حتي بعد أن تخرج في الجامعة . كما أنه - من ناحية أخري - قد تأثر وأثر في كل الظواهر الاجتماعية التي كانت تحيط به، سواء في البيئة المحلية، أو في مجتمعه الكبير .. فهو كان يعبر في قصصه ورواياته عن القيم والعادات والتقاليد الموجودة سواء في البيئة الصغيرة أو المجتمع الكبير . ثم هو من ناحية قد اختزن في ذاكرته وو جدانه، أو كما يقول علماء النفس فيما تحت الشعور وفي اللاشعور كل القيم والعادات والتقاليد في مجتمعه الصغير والكبير ثم اخرجها في الوقت المناسب قصصا وروايات ومسرحيات، بل ومقالات أيضا. ثم إنه قد تأثر بالمكان الذي كان يعيش فيه وهو الحي الشعبي سواء في الجمالية أو الحسين أو العباسية واستخدمه كمسرح لكثير من وقائع وأحداث قصصه ورواياته .. ولذلك كثيرا ما كان النقاد يقولون عنه إنه أبو الواقعية الطبيعية . و من أهم الشخصيات التي أثرت في نجيب محفوظ وتأثر بها في قصصه ورواياته وابداعه الأدبي عموما نذكر: أ- والده ووالدته كانت علاقته بوالدته أقوي من علاقته بأبيه وذلك لأمرين: الأول أن الأب كثيرا ما يكون خارج البيت لمعظم اليوم، والثاني أنه توفي ومحفوظ في السادسة
والعشرين من عمره وبعد تخرجه في الجامعة بثلاث سنين أما أمه فعاشت مائة عام- حسب قول نجيب محفوظ نفسه - وكان محفوظ ملازما لها خلال مرحلة الطفولة أكثر من إخوته البنين او أخواته البنات، حيث كان يذهب معها كلما قامت بزيارة الي الحسين. وقد تعلم محفوظ من والده الالتزام والتنظيم من خلال ذهابه الي عمله وعودته الي المنزل في مواعيد معروفة للأسرة، ثم كان يجلس في المنزل ولا يخرج الا نادرا يقرأ القرآن الكريم وحديث عيسي بن هشام . و كان منظما في ملابسه، كما كان يعامله بحنان ولطف، واهتم بتعليمه حتي تخرج في الجامعة، كما وافق علي دخوله قسم الفلسفة بكلية الآداب بعد مناقشات حرة بينهما، اقتنع الأب في النهاية بوجهة نظر ابنه بالرغم من انه كان يريده أن يلتحق بكلية الطب أو الحقوق . ثم إن الأب كان وفديا محبا لسعد زغلول، وقد انعكس ذلك علي ابنه حيث أصبح ابنا وفديا ويحب سعد زغلول . وقد تجلي ذلك في بعض قصصه ورواياته وخاصة الثلاثية . أما والدته فقد تعلم منها التدين والاخلاص والصداقة سواء لأفراد اسرتها أو أقاربها أو جيرانها . ويقول محفوظ عنها انها كانت مغرمة بالآثار الاسلامية والقبطية والفرعونية وكانت تتردد كثيرا علي المتحف المصري وغيره من المتاحف الأخري . ولعل ذلك أحد دوافع نجيب محفوظ في بداية ابداعاته بكتابة القصة أو الرواية الفرعونية . ب- سيد قطب تحمس للكتابة عن نجيب محفوظ بعد أن رأي غزارة انتاجه من الابداع القصصي والروائي، وبعد أن رأي اهمال النقاد في مصر في الكتابة عن محفوظ وابداعاته . وقد بلغ بسيد قطب الحماس بمحفوظ قدرا دفعه الي القول بأن محفوظ هو امل هذا العقد الجديد . وكان قطب أول من أشاد بجهد محفوظ حين احتفي عام 1944 برواية " كفاح طيبة " قائلا: لو كان الأمر بيدي لجعلت هذه القصة في يد كل فتي وفتاة ووزعتها عليهم بالمجان وأقمت لصاحبها حفلا لتكريمه . وبالرغم من اتهام سيد قطب في مؤامرة لاغتيال عبد الناصر وحكم عليه بالاعدام ونفذ الحكم ، الا أن محفوظ كان يعتبره صديقا وناقدا ادبيا كبيرا، كان له فضل السبق في الكتابة عنه، ولفت الأنظار اليه في وقت تجاهله فيه كل النقاد والآخرون . ويقول محفوظ " نظرا لتأثري بشخصية سيد قطب وضعتها ضمن الشخصيات المحورية التي تدور حولها رواية " المرايا " مع اجراء بعض التعديلات البسيطة عليها . ويمكن لأي ناقد مدقق أن يدرك ذلك . ج- سلامة موسي يقول محفوظ انه تتلمذ علي يد سلامة موسي، ومنه تعلقت بالعلم والاشتراكية. وأنه أثر في تكوينه الفكري حيث له أثر قوي في تفكيره . ويقول ايضا أن سلامة موسي وجه نظره الي أمرين مهمين «العلم والاشتراكية» ومنذ دخلا مخي لم يخرجا منه الي الآن. وكان موسي الأديب الوحيد الذي يقرأ رواياتي وهي مخطوطة وقد أعجب برواية " عبث الأقدار " ونشرها كاملة في "المجلة الجديدة". وقد أخذ محفوظ ايضا عن سلامة موسي دعوته للاتجاه الواقعي في الأدب، والنهج العلمي في التفكير، والتيار الاشتراكي لتغيير صورة المجتمع، كما ظهر ذلك في أولاد حارتنا، والشحاذ، والطريق، واللص والكلاب حيث كانت الأزمة في هذه الرواية هي أزمة روحية، في حين مثلا كانت الأزمة في " السمان والخريف " هي أزمة سياسية أو اجتماعية . الا أن نجيب محفوظ يعد ذلك تحولا الي الواقعية الطبيعية في "خان الخليلي " وما تلاهما من ابداع. وبنفس تأثر نجيب محفوظ بسلامة موسي فقد تأثر ايضا بكل من طه حسين والعقاد والمازني والحكيم . وان اكتفي بالاشارة الي ذلك التأثير في احاديثه الصحفية فقط. د- مصطفي عبد الرازق بالرغم من أن الشيخ مصطفي عبد الرازق لم يستقبل رواية نجيب محفوظ الأولي " عبث الأقدار " بترحاب كما كان متوقعا الا أن محفوظ ظل علي حبه لأستاذه الشيخ لأنه هو الذي علمه الدين والتدين وأحوال العقيدة الاسلامية والفقه في قسم الفلسفة بكلية الآداب . وقد كان محفوظ منصتا جيدا لما يقوله الشيخ مصطفي ولا يكتب عنه شيئا مماي قوله الشيخ - كما قال ذلك حسين مؤنس - زميل محفوظ في القسم والكلية . كما استطاع مدرس اللغة العربية في المدرسة الثانوية أن يؤثر في نجيب محفوظ من حيث امتلاك ناصية اللغة العربية في التعبير والنحو والصرف مما جعله يجيد اللغة العربية اجادة تامة مكنته من التعبير عن ابداعاته القصصية والروائية بلغة عربية سليمة ورائعة . كما كان يوجهه الي قراءة كتب الأدب والتراث بل والقصة . ه - ديستوفيسكي تعلم منه محفوظ حبكة القصة والرواية البوليسية التي تدور حول الجريمة ودوافعها وسمات شخصياتها مثل قصة "الجريمة " التي نشرها عام 1978، و«اللص والكلاب» عن سفاح كرموز والتي نشرها عام 1961، وغيرهما . مهما اختلف عنه فنياً ..في المنهج وفي الصورة الفنية . و- إميل زولا هو زعيم المدرسة الطبيعية التي تأثر بها نجيب محفوظ بصورة مؤكدة في الثلاثية . وهي المدرسة التي تعني بظروف الانسان في ضوء الوراثة والبيئة . فالروائي الطبيعي، كالعالم الطبيعي، يلاحظ ويختبر ويجرب، والقصة عنده هي عبارة عن دراسة علمية تجريبية، تدرس الطبائع والتغيرات تحت تأثير الأجواء والظروف المحيطة بالانسان . ز- تشيكوف تأثر به في قصصه القصيرة.. فتشيكوف يعتبر رائدا للقصة القصيرة في العالم. ويبدو تأثر محفوظ بتشيكوف في رواية بعنوان "الأسي" والتي تحكي عن حوزي فقد ابنه ويريد أن ينفس عن نفسه بما يعانيه ويعتمل بداخله ولكنه يجد الناس من حوله مشغولة عنه ايضا بهمومها . فلا يجد الا حصانه يتحدث إليه.أما محفوظ فله قصة بعنوان "الصمت" وهي علي نفس نمط قصة الحوزي لتشيكوف حيث تحكي القصة عن رجل زوجته في حالة وضع، ويريد أن يتنفس عن نفسه ويروي مشاعره لأصدقائه والمقربين منه ولكنه وجدهم قد انصرفوا عنه الي همومهم، فما كان منه الا أن خلا الي نفسه وأخذ يحدثها. ح- جان بول سارتر أشهر فلاسفة الفلسفة الوجودية .. ضمن معظم أفكاره الوجودية في قصص وروايات ومسرحيات، ومن أشهرها "المومس الفاضلة " وقد تأثر محفوظ بذلك فوضع كثيرا من أفكاره الفلسفية في قصص وروايات ومنها "أولاد حارتنا" و"الطريق" و"حديث الصباح والمساء" و"العائش في الحقيقة". تلك هي مجموعة من الذين أثروا في نجيب محفوظ، وهناك الكثير غيرهم "كافكا " و" توماس مان " و"سومرست موم" و"شكسبير" و"ارنست همنجواي" و"بيكيت" و"طاغور" وغيرهم ... ويقول النقاد ان القراءة الواعية لابداعات محفوظ يمكن ان توضح لنا مدي تأثره بمثل هؤلاء الكتاب . في قصص وروايات مثل الطريق، اللص والكلاب، ثرثرة فوق النيل، بداية ونهاية، القاهرة الجديدة، حب تحت المطر، دنيا الله، الحب فوق هضبة الهرم وبيت سيئ السمعة . محفوظ بين الالتزام بالأدب.. أو الانحياز للسلطة وقع نجيب محفوظ مرتين في حالة من الصراع النفسي .. الأولي عندما تخرج في قسم الفلسفة بكلية الآداب، وتساءل حائرا بينه وبين نفسه .. هل يمشي في طريق الفلسفة - التي هي تخصصه - أم يمشي في طريق الأدب وخاصة القصة والرواية - التي هي هوايته وموهبته؟ وبعد صراع نفسي طويل .. بل وصراع فكري ايضا ..استقر علي طريق الأدب .. ذلك لأنه يستطيع عن طريق القصة والرواية أو أي شكل أدبي آخر أن يعبر من خلاله عن فكره الفلسفي أو رؤياه الفلسفية .. وهذا ما حدث فعلا في كثير من قصصه القصيرة ورواياته الطويلة مثل اللص والكلاب، الشحاذ، ثرثرة فوق النيل، ميرامار، أولاد حارتنا، دنيا الله، الحب فوق هضبة الهرم. أما المرة الثانية التي وقع فيها في حالة صراع نفسي بل وفكري ايضا .. فهي .. هل ينتمي وينحاز للسلطة بالانتماء الي حزب من الأحزاب أو الي حزب السلطة نفسه .. أو يتواري وراء شخصية سياسية كبيرة مثلا .. أو مسئول حزبي أو سياسي أو حتي رجل أعمال كبير يتلقي منه الأوامر بفعل أشياء قد لا يرضي عنها أو فيها شبهة فساد أو اخلال بالقيم والدين أو كتابة شيء لا يرضي عنه تحت ضغط ضرورة أو حاجة مالية، أو منصب أكبر أو الحصول علي نفوذ أو سلطة في وزارة ما أو مؤسسة سياسية أو ثقافية . أم أنه يبتعد عن كل ذلك ويتفرغ لفنه وكتاباته مستقلا تماما عن الحاجة لهذا أو ذاك. مع ملاحظة أن نجيب محفوظ عندما تفرغ لفترة معينة للعمل الحكومي في عدة وظائف امتنع عن الكتابة خلال الفترة، حتي لا يضطر الي ما لا يريده .. إرضاء لمسئول هنا أو هناك . لقد كان محفوظ يعتقد أن السلطة أو السعي اليها أو التمسك بها، أو الخوف منها، أو التزلف إليها، ومحاولة التبرك بعتباتها والقرب منها .. هي أمور تفقد الكاتب والفنان التزاماته الأدبية تجاه فنه أو أدبه، كما تفقده استقلاله وحريته .. وتلك من أهم أسلحة الكاتب في الابداع والتميز . وفي ذلك يقول الكاتب "رجاء النقاش" في حوار له مع نجيب محفوظ إنه قال له.. "أنا مش بتاع سلطة، هذه حقيقة ليس فيها أي نوع من المبالغة . فلم تكن السلطة في يوم من الأيام هدفي ومأربي، وذلك لسبب بسيط هو انني ما كنت أستطيع الجمع بين السلطة والأدب .فالأديب الذي يقدس مهنته يفضل ان يبتعد عن السلطة بهمومها ومتاعبها ومشاغلها والتزاماتها، والسلطة ليست هدفا يتوافق مع مزاجي وطبعي، بل انني اعتبرها معطلة لي عن مهنتي الأساسية وهي الأدب . والسلطة الحقيقية التي طالما حلمت بها هي سلطة الأدب والفن، وليست السلطة الإدارية . فالأدب في حد ذاته يمكن ان يكون سلطة مؤثرة اذا اخلص له الأديب وأحسن استخدامه . والأديب يمكن أن يكون صاحب سطوة ونفوذ وتأثير علي الرأي العام من خلال كتاباته فقط . كان هذا هو رأي نجيب محفوظ معبرا عن عدم انحيازه للسلطة واستقلاله عنها رافضا أن يكون الآخرون علي رأيه أو اقتناعه، فكل أديب له ظروفه الخاصة، ومبادئه وقيمه وأهدافه سواء كانت في الحياة العامة أو في الأدب خاصة . ويقول محفوظ أيضا للكاتب "رجاء النقاش" : "عندما تزوجت في عام 1954 بعد ان ظللت سنوات عازفا عن الزواج بسبب تفرغي للأدب، توقع العديد من أصدقائي أن تتراجع جرأتي، وتقل شجاعتي خوفا علي اسرتي فأقلل من نقد الأخطاء والسلبيات وأصبح في كتاباتي مسالما وبعيدا عن الصدام مع اي سلطة، ولكن توقعاتهم لم تتحقق، ولم تكن صحيحة، حيث ان كتاباتي ازدادت بعد زواجي عنفا وجرأة . ولهذا الأمر أسباب أهمها أنني عندما امسك بالقلم أنسي كل شيء .. خوفي، ومسئولياتي وأسرتي . وأنسي حتي نفسي ومن ناحية أخري، كانت انتقاداتي دائما موضوعية ولا تحيط بي اي شبهات أو سوء نية . كما انني ليس لدي اي نوع من الشعور بالاثم " هكذا حرص محفوظ علي استقلاله التام فلم يكن هناك اي سلطات عليه وعلي قلمه ..إلا ضميره الحر . ومن ناحية أخري .. ام يكن نجيب محفوظ من الأدباء الذين ينتظرون النتاج المادي لابداعاتهم، فهو منذ أن حسم الصراع النفسي لصالح الالتزام بالأدب قرر ان يفصل ايضا وفي نفس الوقت الفن عن الأجر .. أو الأدب عن المقابل المادي . وذلك حتي لا يكون ذلك قيداً علي حريته في الابداع والكتابة بكل حرية دون خوف من سلطة أو من حاجة مادية . وقد عبر محفوظ عن ذلك في حديث له مع الناقد الكبير " فؤاد دوارة " حيث قال له " أتعرف ما الذي جعلني أستمر ولا أيأس؟ .. لقد اعتبرت الفن حياة وليس مهنة لا تستطيع الا ان تشغل بالك بانتظار الثمرة . أماأنا فقد حصرت اهتمامي بالانتاج نفسه، وليس بما وراء الأنتاج". ويقول الكاتب "رجاء النقاش": إن انتصار محفوظ في معركة الاستقلال هذه هو الذي فتح لنجيب محفوظ الآفاق الواسعة لكي ينتج هذا الانتاج الخصب الغزير الذي تركه وراءه، ولكي يعبر عن تجاربه وآرائه في حرية كاملة لا يعتبرها اي قيد من اي نوع .. فنحن عندما نقرأ اي عمل لنجيب محفوظ فاننا لا نجد فيه صوتا آخر سوي صوت ضميره .. صوت الكاتب الفنان والصوت الصادر من نبضات قلبه، ولا يوجد في هذه الأعمال صوت حزب يفرض آراءه، أو مؤسسة تعبر عن وجهة نظرها، ولا صوت زعيم سياسي يفرض علي الكاتب أن يكون بوقا يعبر عن الزعيم ويختفي وراء صوته". إن التزام محفوظ الأدبي، وعدم انحيازه للسلطة جعله يؤمن بمجموعة من المبادئ عبر عنها في رواياته وقصصه . وكما يقول الكاتب " جابر عصفور " : " علي رأس هذه المبادئ .. الحرص علي اقامة التوازن بين الأضواء، والجمع المعتدل بينهما بما يجعل علاقة التضاد العدائي الذي يقضي فيها النقيض علي نقيضه، أو يقصيه عن الوجود، الي علاقة التفاعل والتصالح التي تجاوز الغضب الي التسامح، والأحادية إلي التعددية، والأجماع الي التنوع، والديكتاتورية الي الحرية، والظلم الي
العدل". ولهذا كان محفوظ من أنصار الحرية والتسامح والديمقراطية والتعددية والعدالة الاجتماعية .و لهذا ايضا كان نصيرا للفقراء أو للطبقة التي خرج منها .. وهي الطبقة الكادحة، والتي عبر عنها كثيرا في معظم قصصه ورواياته ومسرحياته. ويحكي الكاتب الصحفي " محمد سلماوي "واقعة وقعت في جريدة الأهرام بعد حصول محفوظ علي نوبل، حيث أرادت سكرتيرته أن تحضر له سيارة خاصة يستقلها الي الاسكندرية هو واسرته للتصييف . ولكنه رفض وقال انه سوف يسافر بالقطار أو الأتوبيس الصحراوي كعادته . وأن حياته لن تتغير بعد نوبل . ولكن سلماوي لطف من انفعاله بأن السكرتيرة لا تقصد حدوث أي تغيير في حياته، وإنما سفره بالمواصلات العامة سوف يرهقه وأنه ينعم بالراحة التي ينشدها، لأن الناس سوف تتهافت عليه وتحاول أن تسلم باليد وعليه أن يرد السلام والتحية، وهذا ما سوف يسبب له المتاعب والإرهاق . ولكن محفوظ رد عليه في هدوء بأن من حق أبناء بلدي ان تتاح لهم مصافحتي والحديث إلي إذا أرادوا، ولا تنس أن اقبالهم علي وعلي أعمالي هو الذي أدي في النهاية لحصولي علي نوبل، ولو تسببت نوبل في عزلي عن الناس الذين عشت حياتي كلها بينهم لكانت تلك خسارة كبيرة لي. هذا هو محفوظ ابن الحي الشعبي والطبقة الشعبية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.