مرت أمس 104 أعوام علي ميلاد الأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ. ولد نجيب محفوظ عبدالعزيز إبراهيم أحمد الباشا في 11 ديسمبر 1911 وكان أصغر اخوته الستة.. تفصل بينه وبين من يكبره مباشرة. عشر سنوات. ومن ثم فقد كانت علاقته بهم والتعبير له تجمع بين الأخوة والأبوة والأمومة!. ولعلي أذكرك بكمال عبدالجواد و"وضعه" المتميز في البيت بين أخوته ياسين وفهمي وخديجة وعائشة. وكان والد نجيب موظفاً صغيراً. ثم عمل فيما بعد بالتجارة. بدأ نجيب محفوظ حياته الوظيفية في 11 نوفمبر ..1934 ظل إلي 1939 في سكرتارية جامعة فؤاد الأول.. ثم نقل إلي وزارة الأوقاف. وبقي بها إلي 1954 عندما اختير مديراً للرقابة الفنية بمصلحة الفنون. فمديراً لمؤسسة دعم السينما. فمستشاراً لوزير الثقافة لشئون السينما. حتي أحيل إلي المعاش في 1972. فأصبح من يومها كاتباً متفرغاً في مؤسسة الأهرام. تزوج في 1954 من السيدة عطية الله. كان صديقاً لأسرتها. مما أتاح لكل منهما أن يتعرف علي الآخر.. وعندما طلب الاقتران بها. وافقت أسرتها التي كانت تعرفه جيداً. وتم عقد القران في أيام قليلة. وأثمر زواجهما أم كلثوم وفاطمة. بدأ نجيب محفوظ حياته الإبداعية كاتباً للقصة القصيرة. نشر أعماله الأولي في "الرسالة" و"الثقافة". بالإضافة إلي مقالاته الفلسفية في "المجلة الجديدة". ثم تفرغ محفوط للرواية. فكتب رواياته التي وظف فيها التاريخ الفرعوني. ثم كتب "خان الخليلي". أولي روايات مرحلة الواقعية الطبيعية وليست "القاهرة الجديدة" كما يظن الكثيرون واقتصرت إبداعاته لسنوات علي الرواية. وكانت الثلاثية هي آخر ما كتب في تلك المرحلة. قبل أو متزامنة مع ثورة يوليو. وطال صمته خمسة أعوام. تفرغ في أثنائها لكتابة السيناريو السينمائي. ثم كتب "أولاد حارتنا" بداية لمرحلة طرحت العديد من القضايا المجتمعية والسياسية والميتافيزيقية. عاد بعد نشرها مسلسلة في "الأهرام إلي كتابة القصة القصيرة. فتقاسمت إبداعه مع الرواية. حتي كاد يخلص في الأعوام الأخيرة لفن القصة القصيرة. ربما لأنه كما قال في أحد حواراته يعد نفسه في محطة سيدي جابر. للنزول في محطة الإسكندرية. فهو يحجم عن البدء في مشروعات تستلزم جهداً ووقتاً! نجيب محفوظ قاهري في معظم إبداعاته. إذا استثنينا توظيفه للتاريخ الفرعوني. فإن القاهرة هي حدود هذه الإبداعات بدءاً بأولي قصصه القصيرة إلي أحدث قصصه القصيرة. مروراً بما يبلغ 35رواية. وحوالي ثلاثمائة قصة قصيرة. وكما يقول. فهو قد عاش حياة القاهرة. وكان علي حد تعبيره شوارعياً بكل معني الكلمة!.. والحق اني لا أستطيع أن أنسي الكثير من شخصيات محفوظ. كم التقيت في الطريق بأحمد عبدالجواد وياسين وفهمي وكمال وكامل رؤية لاظ ونفيسة وحسن أبو الروس وحسنين كامل علي ومحجوب عبدالدايم وإحسان شحاتة وسعيد مهران وصابر الرحيمي وعمر الحمزاوي وعيسي الدباغ وأحمد عاكف وعباس الحلو وحميدة وفرج إبراهيم. وعشرات غيرهم أجاد الفنان في أعماله رسم ملامحهم الظاهرة وتحليل نفسياتهم. مع ذلك. فأنت تستطيع التعرف علي أبعاد الحياة المصرية في قراءتك لأعمال نجيب محفوظ. التاريخ والجغرافيا والمعتقدات والعادات والتقاليد والتطورات السياسية. لا تقتصر مكونات الصورة البانورامية علي روايات مرحلة الواقعية الطبيعية. منذ "خان الخليلي" إلي الثلاثية. لكنك تجد تفصيلات مهمة من الصورة في "اللص والكلاب" و"السمان والخريف" و"الطريق" و"الشحاذ". إلي "قشتمر" آخر أعمال محفوط الروائية. انه ليس زولا مصر. ولا جبرتي مصر الحديثة. انه نجيب محفوظ الذي لا يكتفي بالتصوير شأن المدرسة الواقعية الطبيعية. ولا بمجرد التسجيل التاريخي أو الاجتماعي. شأن المؤرخين. لكننا نجد في مجموع أعماله نظرة كلية. نظرة شاملة. فلسفة حياة. حياة لا مهنة اعتبر نجيب محفوظ الفن حياة لا مهنة. أذكر قوله لي: "حينما تعتبر الفن مهنة لا تستطيع إلا أن تشغل بالك بانتظار الثمرة. أما أنا. فقد حصرت اهتمامي بالإنتاج نفسه. وليس بما وراء الانتاج. وكنت أكتب وأكتب. لا علي أمل أن ألفت النظر إلي كتاباتي ذات يوم. بل كنت أكتب وأنا معتقد اني سأظل علي هذا الحال دائماً". وظني ان نجيب محفوظ خدع الكثيرين. ممن وجدوا فيه روائياً فقط. الرواية هي الإبداع الأهم للرجل. لكنه مارس كل ألوان الكتابة بدءاً بالمقال الفلسفي. فالترجمة. فالقصة القصيرة. والرواية. والسيناريو السينمائي. والمسرحية. والخاطرة. طال توقفه أمام بعض تلك الألوان. مثلما حدث في المقال الفلسفي والسيناريو. لكنني أحيانا ببضع محاولات. مثلما فعل في مسرحياته ذات الفصل الواحد. والتي كانت انعكاساً لرغبته في إثارة حوار حول بواعث هزيمة يونيو .1967 ولعلي أختلف مع الفنان في قوله انه لم يحاول أن يكتب سيرته الذاتية. ذلك لأنه كان قد أعلن قبلاً انه كمال عبدالجواد في الثلاثية. وكان الإعداد الأول ل "المرايا" ان تكون سيرة ذاتية للفنان. وتراجم لأبطال رواياته. للنقد دوره القول إن النقاد أهملوا نجيب محفوظ فترة طويلة. فلم ينتبهوا إليه إلا بعد روايته التاسعة. هذا القول. فيه الكثير من الصحة. ولكن من الصعب وربما من الظلم أيضاً أن نغفل دور الناقدين الكبيرين سيد قطب وأنور المعداوي. وأقلاما نقدية أخري. داخل مصر وخارجها. وأذكر تمني سيد قطب. عند صدور "كفاح طيبة" أن لو كان الأمر في يده. لطبع آلاف النسخ من هذه الرواية. لتكون في يد كل شاب. ولتدخل كل البيوت. ثم أكد الناقد ان كاتب الرواية يستحق التكريم والإجلال. وتحدث سيد قطب عن "خان الخليلي" فأكد انها "تستحق أن يفرد لها صفة خاصة في سجل القصة المصرية الحديثة. أما أنور المعداوي. فقد كتب عن رواية محفوظ "بداية ونهاية" إنها دليل عملي علي أن الجهد والمثابرة جديران بخلق عمل فني كامل. وبالطبع. فإن الالتفات إلي أعمال نجيب محفوظ. والاهتمام بها. لم يقتصر علي المعداوي وقطب. ثمة قطاع مهم من المثقفين والقراء العاديين. وجدوا في أعماله نقلة للرواية العربية. وأذكر انني كتبت من قبل: نجيب محفوظ كنز اكتشفناه نحن. ولم ينبهنا اليه الأجانب. اكتشفه من قرأ له. وأعجب به. ووجد فيه مثلاً أعلي. والقول إن نجيب محفوظ عاش يكتب خمسين سنة دون أن يكتشف أي ناقد في مصر أنه عملاق. هذا القول مشكلة الكاتب الشخصية. مشكلة انه قرأ محفوظ كما قرأ الآخرين. فلم تتوضح له الفوارق ببن حجم الفنان نجيب محفوظ وأحجام الآخرين. أما نحن الذين قرأنا نجيب محفوظ جيداً. واستوعبناه جيداً. وتفهمناه جيداً. وعرفنا مدي خطورته وتأثيره وجدواه. واتخذناه مثلاً أعلي. ربما حتي في سلوكياتنا الشخصية. فإننا نزعم باكتشاف كنز نجيب محفوظ منذ "خان الخليلي" التي يمكن أن نؤرخ بصدورها بدء تطوير فن الرواية في بلادنا. حقيقة ان النقد لم يتناول أعمال محفوظ بالكم الذي تناول به تلك الأعمال عقب صدور"ذقاق المدق" في طبعتها الشعبية. أذكر حفاوة أستاذتنا سهير القلماوي بالزقاق في حديث إذاعي. وإعجاب المثقفين بها. إلي حد إقدام الصديق الناقد المخضرم توفيق حنا علي وضع دراسة نقدية عن الرواية. فاق عدد صفحاتها صفحات الرواية نفسها. وإن لم يتح لتلك الدراسة أن تصدر بعد!.. لكن التفات النقد لم يكن خيراً كله. وبالذت في أواسط الخمسينيات. قبل أن يصبح محفوظ هذه المؤسسة القومية. كما وصفه لويس عوض فيما بعد. فقد شنت عليه حرب قاسية لأسباب أيديولوجية محضة. قدّرت بعض الأقلام النقدية ان أدبه يعبر عن نقيضها. ولولا عناد الثيران الذي وصف به محفوظ نفسه. في مقابل التجاهل النقدي. ثم في مقابل التسلط النقدي. لأسكت قلمه. خاصة وأن السينما كانت قد وهبته كلمة السر التي يستطيع بها أن يغترف ما يشاء من مغارتها السحرية. تاريخ من الفن والحق ان أعمال كاتب ما لم تواجه سذاجة التأويلات. بل سوء نيتها. مثلما واجهت أعمال نجيب محفوظ. كل يحاول تفسيرها بما يرضي اتجاهه. بصرف النظر عن ذلك الاتجاه. ومدي اقترابه من الأعمال. أو ابتعاده عنها. لقد أسقط الفنان من أحداث التاريخ في رواياته الفرعونية علي أحداث معاصرة. وعبر في روايات مرحلة الواقعية الطبيعية عن أحداث معاصرة. لم تخذله موهبته ولا ثقافته المتفوقة في تقديم صياغة فنية ناضجة. وأكثر تفهماً لمتطلبات التكنيك الروائي. قياساً إلي إبداعات سابقة ومعاصرة. لذلك. فإن بعض النقاد يعتبر السياسة هي المحور الرئيسي في حياة محفوظ. وفي فكره وفنه. وانها المؤثر الأول في تكوينه العقلي. والدافع المحرك لتوجهاته الأدبية. ولعلي أوافق نجيب محفوظ علي رأيه بأن ما تعانيه مصر من أزمات متوالية للأسف! يحتاج إلي إخلاص مواطنيها. وهم لن يستطيعوا الإخلاص في أعمالهم إلا إذا شعروا انهم محترمون. وأن مصر هي مصرهم. مثلما هي مصر الآخرين!. وقد أدان محفوظ فساد العهد الملكي في "القاهرة الجديدة" و"بداية ونهاية". وانتقد سلبيات الثورة في ظل حكم عبدالناصر في "ميرامار" و"ثرثرة فوق النيل" و"حب تحت المطر" إلخ. نجيب محفوظ هو التعبير الأصدق. ربما من كتابات المؤرخين. عن صورة المجتمع المصري في مراحل متعاقبة من حياته. والمتأمل لآرائه التي تضمنتها أعماله. أو آرائه التي نقلتها وسائل الإعلام. يلحظ انه كان دوماً إلي جانب اليقين الديني والعلم والعدالة الاجتماعية. وإذا كان البعض قد أخذ علي محفوظ انه بدل آراءه. فإن الباعث كما قلت هو أسلوب الابتزاز الذي عومل به الرجل. حاولوا أن يستنطقوه بما شغلته عنه ظروفه الصحية والعمرية. وابتعاده الفعلي عن واقعنا السياسي والاجتماعي.. اللهم إلا المشاركة في جلسات للمسامرة بين أصدقاء حقيقيين مثل مجموعة الحرافيش تؤنس وحدته بدعابات وذكريات مشتركة. بينما حاول البعض ممن فرض صداقته علي الرجل. أن يمتص الثمرة التي وهبتنا كل ما لديها. متناسياً ان نجيب محفوظ قال ما لديه. وقدم لنا إبداعات تعتز بها ثقافتنا العربية المعاصرة. المؤسف ان تلك المحاولات لم تنظر إلي أبعد من قدميها. ولا أدركت مدي الإساءة التي تحيق ليس بشخص نجيب محفوظ وحده. وإنما بثقافتنا العربية اطلاقاً. قد يري البعض أن ما نسب إلي نجيب محفوظ من آراء كان يجب مناقشته. والرد عليه. ومع تناسي هؤلاء لظروف الرجل وكانت ظروفاً واضحة فقد كان من حق نجيب محفوظ أن يقتصر النقاش علي آرائه. فلا يمتد إلي شخصه. بحيث لا نلغي ببساطة مذهلة تاريخاً طويلاً من الفن الجميل. والثقافة الرفيعة. والريادة الإبداعية التي يدين لها بالفضل كل مبدعي الأجيال التالية.